غيوم عابرة

غيوم عابرة


غيومٌ عابرة

 

قصة قصيرة 

بقلم

قيس لطيف

 

سماءٌ واسعةٌ مترامية الأطراف تحتضن بحدبٍ شمساَ واهنةً شفيفة الضوء بالكاد تنير الأنحاء إذ تطارده وتبتلعه كُتلٌ ثقيلةٌ من السحُب البيضاء ككراتٍ جبارةٍ من القطن الأبيض.

يرنو برأسه نحو السماء بأفقها البعيد، يلتفت صوب المرأة المحاذية له هاتفاً بتنهيدة صغيرة: هكذا هو الطقس هنا.. لكن غيوم بلدنا أجمل من تلك، وقهقه.

-إلا تعدل عن رأيك؟

-بشأن ماذا؟

-السفر؟

-آها.. لقد اعددتُ كل شيء، بطاقة السفر في جيبي، والحقيبة جاهزة.. تنفس بتثاقل واعترته رجفة "وتابع" سأغادر عند المساء، وغداً صباحاً أكون هناك.

يلتفت بكامل جسده نحوها، يضع كلتا كفيه على الكتفين الرقيقتين، ينظر في عينيها بشكل مباشر: هوني عليكِ وعليَّ يا عزيزتي، لا تسمحي للخوف أن يلج قلبكِ، عهدي بكِ شجاعةٌ صابرةٌ، وما هي إلا أيام قلائل وترني قبالتك ثانيةً.

قالت: لم نعتد على غيابك يا حبيبي، ثم... ماذا أقول لأبننا الوحيد، كيف أقنعه بسفركَ؟

-لا عليكِ، أنا من يقنعه فلا تقلقي بهذا الشأن.

واقع حاله كان مغايراً.. إنه يتحامل على نفسه لكي يطمئن زوجته، لكنه في الداخل كان قلقاً متوتراً مضطرب.

اسئلةٌ كثيرة تدور في خاطره، اسئلةٌ عديدة موجعة لا يملك لها جواباً، ولا هو مقتنعٌ بها.

هل كُل من يسافر قليلاً بعيداً عن اسرته، تنتابه مثل هذه المخاوف والهواجس والرؤى البغيضة، ثم هذه الرحلة ليست ككل الرحلات ...! إنها الأهم في مجمل حياتي، وأنا لم أسافر إلى هناك منذ عقود عديدة، وقد أزفت الساعة وحان الوقت.

رفع رأسه ثانية صوب الأفق البعيد، تلاشت غيومٌ كثيرة مُبتعدة صوب الغرب القصي، ولمح فوجاً من الطيور يطيرُ بهمّة في عمق السماء ملاحقاً الاتجاه الذي رسمه قائدها المحلق في المقدمة. ابتسم لنفسه وتداعت خواطر الطيران في رأسه وعيناه تلاحقان الفوج الأسود المُحلق، أشار بسبابته صوب الطيور فارتفع رأس المرأة بينما فكر هو في داخله " للطيور هجرات سنوية وعودة سريعة إلى العش، أفلا يحق لي ما يحق لها، الا املك ما تملك من مشاعر وأشواق وحنين"

***

دلف الى الصالة لوداع ابنه، جاهد نفسه ليبدو صلباً، مرحا، متماسكاً هتف بصوت عال: اين صديقي النمر الوردي ، لا أكاد اعثر عليه في هذه الغابة..!

-انا هنا يا أبي، قفز الطفل من مكمنه وهو يقلد صوت النمر صارّا على اسنانه الصغيرة. 

-وأنا صديقك الأسد سيد الغابة ...

كركر الصغير ضاحكاً، والى اين ذاهب ملك الغابة بهذه الملابس الجديدة الجميلة ...! 

مشوارٌ صغير يا بني.. سأزور صديقي أسد الغابة الأخرى.

-حسناً.. سلّم لي على أبناء الأسد.. وضحك الاثنان وشد ولَّده إلى صدره برهة ثم أطلقه ثانية.

هتف الصغير.. أنتظر بابا.. " ماما...ماما.. هاتي المقص...!"

-ماذا.. ماذا ستفعل بالمقص يا سيدي النمر؟

-اريد أن أقص شاربيك يا أبي.. إنها توخزنني حين تقبلني.

-لا بأس يا ولدي ليس الآن ...حين أعود سأتركك تقصّها.. نظر إلى ساعته.. يا إلهي.. يجب أن أغادر الآن.. وهرول صوب الباب، عانق زوجته على عجل.. وخرج متعثراً.

***

 

هبطت الطائرة على أرض المطار، استقل سيارة أجرة الى حيث حدود بلدهُ.

- في غرفة صغيرة واطئة السقف جلس شرطي من حرس الحدود عند مكتب عتيق قذر تستقر فوقه أقلام وأختام وورق.

بعيون كسلى كعيون مخمور ثمل، تصفح الرجل الجواز، دقق قليلاً في الصورة ونظر صوب الزائر، وضرب الختم في مساحة بيضاء من الصفحة.

-هل أنت أجنبي؟

-كيف أكون أجنبياً، وأنت تسألني باللغة العربية؟

- هاهاها.. صدقت ...تفضل.

كان الزحام عند الحدود على أشده، والفوضى ضاربة بأطنابها في كل مكان، حشودٌ من العابرين تختلط أصواتهم وضحكاتهم وخطاهم بصرخات مساعدي السائقين الذين يستحثون الناس على الركوب، مكبرات صوت تزعق يختلط صفيرها برنين منبهات السيارات والشاحنات ولا يفوتك البتة أن تسمع أصوات الباعة المتجولين يعلنون على الملأ بإلحاح أسماء بضائعهم الرخيصة.

الجو معبئ بالأتربة والغبار ودخان السيارات العتيقة الكثيف وقصاصات الورق المتناثرة هنا وهناك.

وكأنك في حفل غجري أو في يوم الحشر عقب نهوض الأجداث من القبور...!

وبالتأكيد، لا تخلو الساحة المتربة الفسيحة من أمٍّ تبحث عن طفل ضاع في الزحام، بينما ذات الطفل يقف في الطرف القصي من الساحة وهو ينشج وعيناه تفترسان الوجوه باحث عن وجه أمٍ أو أب.

تلقف أحدهم الحقيبة منتزعاً إياها من يد صاحبنا المسافر مستحثاً له أن يتبعه إلى الحافلة بسرعة.. استسلم وهرول خلف الصبي.

اتخذ لنفسه مكاناً قصياً شاغراً، ونسى أمر حقيبته أو تناساها.. وسرح فكره في عوالم اليوم التالي والأحبة المنتظرين وداعب عيناه الوسن فأغفى في الحال.

تهادت الحافلة العتيقة المثقلة بحملها من النفوس والحقائب والهموم، تجرجر احماله ببطء، وما أن قطعت من الشوط بعضه، اقتربت من بناء تداعى نصفه ومكث الآخر رجراجاً ينتصب فوقهٌ عمودٌ خشبي يرفرفٌ عليه علمٌ بهُتت من القِدم الوانه، وعنده يقف شرطيٌ يلوح للسيارات العابرة أن تمضي قُدماً.

سأل رفيقه الغريب الذي يشاركه المقعد

- لماذا لم يوقفنا الشرطي للتفتيش؟ 

- أي تفتيش يا أخ؟ يكفينا التفتيش عند الحدود الأخرى.

الشمس مستقرةً في كبد السماء تلفح العابرين بلظى من نار، والحافلة ذاتها أضحت مرجلاً يغلي ويفور والطريق لما يزل طويلاً.

وهتف السائق مبشراً استراحة لعشر دقائق، فدبت الحركة في الرؤوس والأبدان ونهض أكثر من راكب مُتعجلاً الهبوط.

 -أين سنذهب في هذه الدقائق العشر؟ 

-لا أعرف؟  لتحريك اطرافنا التي تخشبت من الجلوس.

وقف بظل الحافلة، متململا.. سرح خياله بين عالمين.. الزوجة والنمر الحبيب والبيت والخضرة والحياة الدقيقة التنظيم والهدوء العجيب، وبين

 عالم الأمس والجذور والوجوه العتيقة الحبيبة وأصدقاء الطفولة والحب الأول البريء غاية البراءة. ورفاق المقاهي والنوادي الليلة بمشاكساتهم العذبة وأغانيهم الرقيقة التي تنعى الحب المفقود والحبيبة النزقة التي لعبت بالقلوب وهجرتها ووو!

وزعق منبه السيارة فتدافع الجمع إلى الداخل في طابور طويل.

ومن مذياع الحافلة جاءنا صوت السيدة شاكية سهرٌ سببه غياب الحبيب.

رباه.. كم هي رائعة كوكب الشرق، وكم هو موجعٌ السهاد في حضرة طيف الحبيب.

***

 (أهلا بالضيوف الكرام).. برزت فجأةٍ على ضوء انوار مصابيح الحافلة، كلماتٌ خطَّت على لوح معدني ازرق مائل مُنتصبٌ على جانب من الطريق الدولي.

تسارعت دقات قلبه والتهبت مشاعره العميقة التي كانت خامدة خاملة منذ دهر طويل ...!

اليكِ آت يا جميلتي.. مدينتي.. عاصمة بلدي الحبيبة.. الصبّية الحكيمة الجميلة الأنيقة المعمّرة.. ابنة الألف عام من العمر والفكر والحُب والجمال...!

***

 

- يا إلهي.. لطفك يا رب! ما هذا؟ 

ما هذا؟ أيُ مكان هذا؟

هذه.. لا أعرفها البتة.. هذه لا أعرفها.. لا شك أنّ الحافلة ضلَّت طريقها أو أن السائق عمد لتضليلنا للتخلص منّا...!

سأل أحد العابرين في الطريق: لطفاً أين يقع مركز المدينة؟

-عمَّ تبحث يا أخ؟

-ابحث عن فندق رخيص الأجر.

-تعال معي..

وشكر الرجل وولج باب فندق رثّ في منطقة شعبية تغص بالبشر والأطفال والقمامة والقطط والكلاب السائبة...!

لم يكن فندقاً، بل نزلاً من طابقين ويبدو أنَّه أكثر بؤساً من الحي الذي هو فيه.

صعد سلم حجري بدائي، الى الطابق الثاني، بحث عن الغرفةٍ ذات الرقم ثمانية، فتح بابها، كانت الغرفة مظلمة، تنبعث منها رائحة رطوبة مزمنة، بحث عن مفتاح النور فلمسه وضغط عليه فأشرق من السقف نور باهت، حين خطا أوشك أن يتعثر بكرسي في الطريق، بحث عن السرير ففوجئ بفراش رثٍّ مطويٍ بغير اهتمام. خلع ملابسه الخارجية 

والقاها على ظهر الكرسي الوحيد، أعاد ترتيب الفراش، تكوم في وسطه وغطَّ في نوم عميق.

***

على أصوات الباعة المتجولين وزعيق منبهات السيارات وجلجلة صفارات سيارات الإسعاف والنجدة... أفاق زائرنا الكريم المثقل بالحنين.

جال ببصرهِ في أنحاء الغرفة:

 أين أنا؟

 ضغط بأصابعهِ على صدغيهِ، " يا للصداع الرهيب "، نهض من الفراش، وتوجه صوب الحمام المشترك، أغتسل على عجل، نظر في المرآة الصغيرة المشروخة في أكثر من موضع، بالكاد رأى وجهه الشاحب.

لا بأس لأخرج من هذا البيت الحقير على عجل، يجب أن التهم بعض الطعام واشتري بضع أقراص من المسَّكن لهذا الصداع اللعين ...!

وخرج حاملاً حقيبته بعد أن دفع أجر الليلة الوحيدة في هذا المكان القميء.

صعقه منظر الحشود في الشارع، بشر بلا عدد وجلّهم بلا غرض أو هدف، المقاهي، المطاعم، المحلات تعج بالبشر، صخبٌ وناس تتدافع بالمناكب والأكتاف، الهواء ثقيل هنا، عطنٌ ملوثٌ تختلط فيه روائح عوادم السيارات مع رائحة الخبز الحار وزيت الطعام المحترق وأنفاس الخلق الملوثة بروائح السجائر والخمور الرخيصة المهربة.

تناسى جوعه وصداعه ولهفته للتجوال في عاصمته الحبيبة وفكر بالهرب عاجلاً صوب مدينته الوادعة الصغيرة.  أوقف صبياً بدا في عينيه وادعاً، سأله عن موقف السيارات المغادرة صوب ......

-هناك يا عم، خذ هذا الزقاق إلى نهايته، تصادفك ساحة كبيرة فيها حافلات لأماكن عديدة، ستجد لا شك موقف حافلات مدينتك.

شكر الصبي ونفحه قطعة نقود صغيرة فتلقفها بفرح وهرول صوب دكان قريب.

بينما هو يغذ الخطو جهة موقف الحافلات، دفعته أمواج البشر صوب رصيفٍ ترابيٍ، وهنا حسبْ وبفضل رائحة الشواء المنبعثة من عربة شواء، قرقرت معدته صارخة: أنجدني ببعض (اسياخ الكباب).

فتوجه في الحال والتهم (كباباً) ساخناً، ولم يتلذذ بطعم ما التهم، كان محاصراً بسيال لا ينقطع من الوجوه الشاحبة والسحنات المنقبضة والعيون القلقة ...!

وغذ الخطى صوب الموقف الذي أمسى على مسافة قصيرة.

حين حاذى مقهى صغير يجلس جُل زبائنه على ناصية الشارع، لمحه رجلان كانا يلعبان النرد، تبادلا النظرات، تهامسا، ثم نهضا.

حين توقف قليلا عند محلٍ صغير لشراء شيء ما.

هتف أحد الرجلين بالآخر وهما يقتربان أكثر من صاحبنا: 

-أنظر بالله عليك، إنَّه هو؟

-اقطع يدي إن لم يكن هو؟

-هل تقصد ...؟

- نعم.. اقسم أنّه هو، أين كان مختفياً كل هذه السنوات؟

حين تحركَ تحركا بذات الآن.

-كيف عرفتهُ؟

-شاربيه الكثين، وجههُ. إنه لا يغيب عن ذاكرتي...!

-انت تهذي...!

-بل أنا متأكد.. لا تفوت علينا هذه الفرصة...سألحقهُ..

وهرول صوب الرجل الآمن.. اقترب منه.. حاذاه ونظره نظرة أخيرة قريبة وإذ التقت العينان عن كثب، خرجت من الجيب مدية بيضاء طويلة لتخترق بطن الرجل الحالم المسكين...!

سقطت الحقيبة على الأرض وارتجف الجسم النحيل وأنبثق الدم ساخنا، 

وتداعى الرجل ساقطاً على الرصيف.

فرَّ القاتل في الحال أمّا الثاني فقد دسَّ نفسه بين جمهرة الناس الذين احاطوا بالجثة، ليتأكد من أن الطعنة كانت قاتلة.

حين قلب الناس الرجل على ظهره وبرز وجههُ المحتقن بالألم.. رآه شريك القاتل...وتأكد من أنّه ميت.. وأنّه.. لم يكن الطريدة المقصودة.

هز كتفيه وغادر المكان في الحال.

 

تمت

تقييم النص

يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد ! كن أول المعلقين !

التعليقات

إدراج الإقتباسات...