ما ترهنينه أنتِ، أستعيده أنا

ما ترهنينه أنتِ، أستعيده أنا


بقلم الكاتب الأمريكي: شيرمَن ألكسي 

ترجمة: علي القاسمي

تقديم:

شيرمَن أَلَكسي Sherman Alexie شاعرٌ وقاصٌّ وروائيٌّ وسينمائيٌّ أمريكيٌّ من الهنود الحمر. ولد سنة 1966 ونشأ في محميةٍ للهنود الحمر من قبيلة السبوكين. ومن أجل متابعة دراسته، غادر ألكسي المحمية والتحق بمدرسة ثانوية في بلدة ريردان في ولاية واشنطن، وكان الهندي الوحيد في تلك المدرسة. ولكونه متفوِّقاً وعضواً في فريق كرة السلة، حصل على منحة للدراسة في جامعة كونزاكا في مدينة سبوكين. نجح في دراسة الكتابة الإبداعية وامتهن الأدب. ويعيش الآن مع زوجته وابنيه في مدينة سياتل عاصمة ولاية واشنطن.

تُعدّ مجموعته القصصية " الشرطي والملاكمة في السماء"  أشهر كتبه وتحوَّلت إلى فيلم سينمائي بعنوان " علامات الدخان" (1998)، كما نالت روايته الأولى " أغاني المحمية الكئيبة" جائزة الكتاب الأمريكي لسنة 1996، وحازت روايته السيرذاتية " المذكرات الحقيقية لهندي نصف الوقت" (2007) جائزة الكتاب الوطنية لأدب الشباب. واختارته مجلة "نيويوركر" واحداً من عشرين أديباً وصفتهم بأنهم أفضل أدباء القرن الحادي والعشرين.

في كتاباته، يستلهم ألكسي خبراته الأليمة بوصفه هندياً أحمر نشأ في محمية، ويكتب عادة عن الهنود وثقافتهم الشعبية والظلم الذي عانوه بصورة تثير الحزن والأسى، وفي الوقت نفسه تبعث على الضحك، وتترك القارئ بشعور من تفهُّم الهنود الحمر، والتعاطف معهم، واحترامهم، والأسى لمأساتهم. 

والقصة التي نترجمها هنا نموذج لأدبه، يُلاحظ فيها الحزن، وفي الوقت نفسه الضحك الناتج من الاستسلام للقدر الغاشم والسخرية منه. وتلعب الأسماء ـ أسماء الأماكن والشخوص ـ في هذه القصة دوراً دلالياً يسهم في وحدة أثر القصة.

في سنة 2012، قررت حكومة ولاية أريزونا الأمريكية حظر كتبه ومنع تدريسها في المدارس.

ومعروفٌ أن الهنود الحمر هم أهل أمريكا الأصليون. ويقدّر عددهم، قبل وصول كولومبس إلى القارة الأمريكية سنة 1492م، بما بين 50 و100 مليون إنسان، لهم ثقافة وتقاليد عريقة، ولهم أراضيهم ومزارعهم وحيواناتهم. وقد عمل الأوربيون بطرائق مختلفة على الإبادة الجماعية للهنود الحمر والاستيلاء على أراضيهم وسلب ممتلكاتهم. وكانت السلطات البريطانية توزّع عليهم الأغطية الحاملة للأمراض التي لم يعرفوها ولم تكن لأجسامهم مناعة ضدها مثل الحصبة والجدري والطاعون والكوليرا والتيفوئيد وغيرها، فقضت عليهم باللآف. وأخيراً في القرن التاسع عشر، صادرت الحكومة الأمريكية ما تبقى من أراضيهم، ووضعتهم ـ ولم يبق منهم سوى أقل من مليونين ـ في معتقلات أطلقت عليها اسم المحميّات، وأغرقتها بالكحول والمخدرات، ويعيش سكانها في أسوء الظروف المعيشية في العالم، وتدفع  الكآبة والبطالة والإدمان الكثيرين منهم إلى الانتحار. وشاركت هوليوود، خاصة في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي،  في إنتاج عشرات الأفلام الشأئقة التي تصوّر وحشية الهنود الحمر وغدرهم وخستهم، بالمقارنة مع بطولة وشهامة البطل الأبيض المغوار " جون وين" الذي كان يصطادهم ويقتلهم أفرادا وبالجملة.

تُعدُّ الإبادة الجماعية التي تعرّض لها الهنود الحمر على يد المستعمرين الأوربيين والأمريكيين، من أفظع الجرائم بحق الإنسانية، في العصر الحديث، وما أكثرها!

 

 

 

 

 

 

 

القصة:

في يوم من الأيام، تمتلك داراً، وفي اليوم التالي لا تمتلكه، ولكني لن أخبرك عن الأسباب المخصوصة التي جعلتني مشرداً بلا مأوى، لأن ذلك هو السرّ في قصتي، والهنود الحمر يجهدون أنفسهم لكتمان أسرارهم من الناس البيض الجشعين.

أنا هندي من قبيلة السبوكين، من ساليش الداخلية، وعاشت قبيلتي ضمن محيط مئة ميل حول بلدة سبوكين في ولاية واشنطن طوال عشرة آلاف سنة على الأقل. نشأتُ في سبوكين، وانتقلتُ إلى مدينة سياتل قبل ثلاث وعشرين سنة للالتحاق بالكلية، وبعد فصلين دراسيين طُرِدتُ من الكلية، وزاولت أعمالاً مختلفة في وظائف كتابية؛ تزوَّجتُ مرتين أو ثلاث، وصرتُ والداً لطفلين أو ثلاثة، وبعد ذلك جُننت. طبعاً، “ الجنون” ليس التعريف الرسمي لمشكلتي العقلية، ولكني لا أعتقد أن “ الاضطراب اللاإجتماعي”  يلائم حالتي، لأن ذلك يجعلني أبدو مثل قاتل مهووس أو ما أشبه. فأنا لم أُلحِق الأذى بأيِّ إنسان، أو، على الأقل، لم أُلحق أذىً جسدياً، بأي إنسان. لقد حطَّمتُ بعض القلوب في زماني، ولكننا جميعاً فعلنا ذلك، ولهذا فأنا لستُ وحدي في ذلك. وأنا محطِّمُ قلوبٍ مُملٌّ، أيضاً. فأنا لم أصاحب أو أتزوج أكثر من امرأة واحدة في كل مرّة. وأنا لم أحطّم القلوب إلى شظايا بين عشية وضحاها. كنتُ أُحطم القلوب ببطء وعناية. ولم أسجِّل رقماً قياسياً في سرعة الهروب من المنزل. كنتُ أختفي شيئاً فشيئاً. ومنذ ذلك الحين وأنا مختفٍ.

الآن أنا مشرَّدٌ بلا مأوى منذ ست سنوات. وإذا كان ثمّة مشرَّد فعّالا، فأفترض أنني فعال. ولعلَّ التشرُّد هو الشيء الوحيد الذي أُجيده. فأنا أعرف أين أجد أفضل طعام مجاني. وربطت صداقات مع مديري المطاعم والمحلات التجارية الذين يسمحون لي باستعمال مراحيضهم. لا أقصد المراحيض العمومية، بل أقصد مراحيض المستخدمين، النظيفة المخفيّة خلف المطبخ أو الخزانة أو المبردة. أعلم أن التبجُّح بذلك يبدو غريباً، لكن ذلك يعني الشيء الكثير بالنسبة إليّ، فأنا أنال الثقة الكافية للسماح لي بالتبول في مرحاضٍ نظيف يخصُّ غيري. لعلَّك لا تفهم قيمة المرحاض النظيف، ولكني أدرك ذلك.

من المحتمل أن لا شيء من ذلك يعنيك، فأنت تجد الهنود الحمر المشرَّدين في كل مكان في مدينة سياتل. فنحن عاديون ومُملّون، وقد تسير بالقرب منا، وتلقي نظرة غضب أو اشمئزاز أو حتى حزن على المصير الفظيع لهؤلاء الهمجيّين ذوي الشهامة. بيدَ أن لنا عائلاتنا وأحلامنا. لي صديقٌ هنديٌّ أحمر من السهول له ابن يعمل محرّراً في جريدة كبيرة في الشرق الأمريكي الذي غادره. ولكننا، نحن الهنود، بارعون في سرد القصص وفي الكذب واختلاق الأساطير، ولهذا فقد يكون ذلك الهندي الأحمر من السهول مجرَّد هندي عجوز اعتيادي بسيط. فأنا أرتاب فيه نوعاً ما، لأنه يعرِّف نفسه بكونه هندياً من السهول، وهذا مصطلحٌ عامٌّ، ولا ينتسب إلى قبيلةٍ معيّنة. وعندما سألته لماذا لا يخبرني بالضبط مَن هو، قال: “ وهل أيٌّ منا يعرف مَن نحن بالضبط؟”. نعم، رائع، هنديٌّ مُتفلسِف. قلتُ: “ يا هذا، لا بدَّ أن يكون لك دارٌ لتكون أليفاً إلى هذا الحدّ.”. فضحك واستدار وانصرف.

أتجول في الشوارع مع عصبتي المعتادة ـ زملائي والمدافعين عني وأنصاري : أنا وروز أوف شارون وجونيور. ونحن نهمّ أحدنا الآخر، إذا لم نكن نهمّ أيَّ شخصٍ آخر. روز أوف شارون امرأة ضخمة، يبلغ طولها حوالي سبعة أقدام، إذا كنتَ تتكلَّم عن المظهر الجسدي فقط. وهي هنديّة من قبيلة الياكاما من عشيرة الوشرام. وجونيور من قبيلة الكولفيل، ولكن توجد حوالي 199 عشيرة ضمن قبيلة الكولفيل، ولهذا فهو يمكن أن يكون أيَّ شيء. وهو وسيم مع أنه يبدو كما لو أنه خرج من بعض إعلانات الإدارة العامة: “ لا ترمي الأزبال على الأرض!” عظام خديه كبيرة مثل الكواكب، مع أقمار صغيرة تدور حولها. وهو يجعلني أغار وأغار وأغار. فإذا وضعت جونيور بجانبي، يبدو هو مثل هندي قبل وصول كولومبس، وأنا هندي بعد وصول كولومبس. فأنا البرهان الحيّ على الضرر الفظيع الذي ألحقه بنا نحن السكنز. ولكنني لا أُطلعك على خوفي أحياناً من التاريخ وحبائله. أنا رجلٌ قويّ وأعرف أن الصمت أفضل طريقة للتعامل مع الناس البيض.

في الحقيقة، بدأت هذه القصة بأكملها وقت الغداء، عندما كنا أنا وروز أوف شارون وجونيور في سوق ميدان بايك. فبعد ساعتين من التسوُّل، حصلنا على خمسة دولارات ـ وهي كافية لاقتناء قنينة من الشجاعة من أفخر نوع في العالم، 7 ـ أحد عشر. وهكذا توجَّهنا في تلك الطريق ونحن نشعر مثل محاربين سكارى، ومررنا بدكانٍ للمرهونات  لم ألحظه من قبل. ولكن أغرب شيء رأيته على الإطلاق كان بذلة رقص للمهرجانات الهندية بالنصر، معلّقة في واجهة الدكان.

قلتُ لروز أوف شارون وجونيور : " تلك هي بذلة جدّتي."

فسأل جونيور: " وكيف تعرف ذلك بصورة مؤكدة؟"

لم أكن أعرف ذلك على وجه التأكيد، لأنني لم أرَ تلك البذلة بنفسي أبداً. كنتُ قد رأيتُ فقط صوراً لجدتي وهي ترقص بها. وكانت تلك الصورة قد التُقطت قبل أن يسرق البذلةَ شخصٌ ما قبل خمسين عاماً، وكان لها نفس الريش الملوَّن والخرز الذي كانت عائلتي تخيطه في بذلات الرقص.

فقلتُ: " هنالك طريقة واحدة فقط لمعرفة ذلك بالتأكيد."

وهكذا دخلنا أنا وروز أوف شارون وجونيور في الدكّان وألقينا التحية على الرجل الأبيض الكبير الذي يعمل خلف النضد.

فسأل الرجل: " كيف أستطيع مساعدتكم؟"

قلت: " إن تلك البذلة في واجهة دكّانك هي لجدتي. سرقها شخصٌ ما منها قبل خمسين عاماً. ولا تزال عائلتي تبحث عنها منذ ذلك الحين."

نظر إليّ صاحب الدكان كما لو كنتُ كاذباً. وأنا أعلم أن دكاكين المرهونات تمتلئ بالكذّابين.

فقلتُ: " أنا لستُ كاذباً. اسأل صديقيَّ، وسيخبرانك."

قالت روز أوف شارون: " إنه أصدق هندي عرفتُه."

قال صاحب الدكان: " طيّب، هندي صادق. نظراً لعدم وجود الأدلة الكافية، لا أتَّهمك بالكذب، ولكن هل تستطيع أن تبرهن على أن البذلة هي لجدتك؟"

ولأن الهنود لا يريدون أن يكونوا كاملين، الله وحده هو الكامل، فإنهم كانوا يتركون شقوقاً في بذلات رقصهم الاستعراضية. وكانت أسرتي تخيط خرزة صفراء في بذلاتنا. بيدَ أنهم كانوا يخفون تلك الخرزة بحيث لا تعثر عليها إلا بعد بحثٍ شاق.

قلتُ: "إذا كانت حقّاً بذلة جدتي، فستكون فيها خرزة صفراء مخفيّة في مكانٍ ما."

فقال صاحب الدكان: " طيّب، إذن لنلقي نظرة عليها."

سحب البذلة من واجهة المحل، ووضعها على النضد الزجاجي، وفتَّشنا عن الخرزة الصفراء، ووجدناها مخفية تحت إبط البذلة.

فقال صاحب الدكان: " ها هي." ولم تبدُ الدهشة عليه، " أنتَ على حق. هذه بذلة جدّتك."

قال جونيور: " لقد كانت مفقودة منذ خمسين عاماً."

قلتُ: " يا جونيور، إنها قصَّة عائلتي. دعني أرويها."

قال: " طيب. أعتذر. تفضَّل."

قالت روز أوف شارون: " هذه هي قصَّة عائلته الحزينة. هل ستعطيه البذلة؟"

قال صاحب الدكان: " هذا هو الشيء الصحيح الذي ينبغي أن أفعله. ولكن ليس في وسعي أن أفعل الشيء الصحيح. لقد دفعتُ ألف دولارٍ لقاءها. لا يمكنني أن أتخلى عن ألف دولار بهذه البساطة."

قالت روز أوف شارون: " نستطيع أن نذهب إلى الشرطة ونخبرهم بأنَّها مسروقة."

قلت لها: " اسمعي، لا تأخذي بتهديد الناس."

تنهَّد صاحب الدكان وقال:  " حسناً، أفترض أن في استطاعتكم الذهاب إلى الشرطة.  ولكن لا أظنّهم يصدّقون كلمةً مما تقولون."

وبدا حزيناً بشأن ذلك، كما لو كان آسفاً لأنه يستغلُّ نقاط ضعفنا.

" ما اسمك؟" سألني صاحب الدكان.

قلتُ: " جاكسون"

" هل هذا اسمك الشخصي أم اسمك العائلي؟"

قلتُ: " كلاهما"

" هل أنتَ جاد؟"

" نعم، هذه هي الحقيقة. فأمّي وأبي سمياني جاكسون جاكسون. فلقب عائلتي جاكسون سكوارد. عائلتي مضحكة."

قال صاحب الدكان: " طيب، يا جاكسون جاكسون. هل لديك ألف دولار؟"

قلتُ: " لدينا ما مجموعه خمسة دولارات."

قال: " هذا سيءٌ للغاية." وأطرقَ يفكّر في الاحتمالات. " كنتُ سأبيع البذلة لك لو كان لديك ألف دولار، وتوخياً للعدل، سأبيعها لك مقابل تسعمئة وتسعة وتسعين دولاراً. سأخسر دولاراً. ذلك هو الشيء الأخلاقي الذي ينبغي أن أفعله في هذه الحال. خسارة دولار هو الشيء الصحيح."

فكرَّرتُ قولي: " لدينا ما مجموعه خمسة دولارات."

فقال مرّة أخرى: " هذا سيءٌ للغاية." وأطرق يفكّر في الاحتمالات. " ماذا تقول بهذا؟ سأعطيك أربعاً وعشرين ساعة لتأتي بتسعمئة وتسعة وتسعين دولاراً. فلتأتِ إلى هنا وقت الغداء غداً مع النقود، وسأبيعها لك. ما رأيك في ذلك؟"

قلتُ: " يبدو حسناً."

قال: " طيب، إذن. توصّلنا إلى صفقة. وسأجعلك تبدأ. هذه عشرون دولاراً."

 

فتح محفظته وسحب منه ورقة نقدية مجعدة من فئة عشرين دولاراً وأعطاها لي. وخرجنا أنا وروز أوف شارون وجونيور إلى ضوء النهار لنبحث عن تسعمئة وأربعة وتسعين دولارا أخرى.

الساعة 1 بعد الظهر:

حملنا أنا وروز أوف شارون وجونيور ورقتنا النقدية ذات العشرين دولاراً، ودولاراتنا الخمسة بالنقود المعدنية، وتوجّهنا إلى (7 ـ أحد عشر)، واشترينا ثلاثاً من قناني الخيال. فقد كنا في حاجة إلى تصوُّر كيفيّة جمع كلّ ذلك المبلغ المطلوب في يومٍ واحد فقط. وقمنا بتفكير جادٍّ ونحن نسير في ممشى تحت جسر طريق ألاسكا، وأتينا على القناني الثلاث ـ واحد، اثنين، ثلاثة.

 

الساعة 2 بعد الظهر:

عندما أفقتُ، كانت روز أوف شاروق قد انصرفت. وسمعتُ لاحقاً أنها سافرت مع سيارة مارة عائدة إلى توبنيش، وأقامت مع اختها في المحمية.

أما جونيور فقد أُغمي عليه بجانبي، وقد غطّاه قيؤه، أو ربما قيءُ شخصٍ آخر. وكان رأسي يؤلمني من شدّة التفكير، ولهذا تركته وحده وسرتُ منحدراً إلى الماء. فأنا أحب رائحة ماء المحيط. فرائحة الملح تشبه الذكرى دائماً.

عندما وصلتُ إلى رصيف تحميل السفن، التقيتُ مصادفة بثلاثة من أبناء عمي من قبيلة الأليوت، كانوا جالسين على مسطبة خشبية ويحدِّقون في الخليج ويبكون. فمعظم الهنود المشردين في مدينة سياتل هم من الألاسكا. واحداً واحداً، كلُّ واحدٍ منهم، قفز إلى إحدى السفن العاملة في الكوارج أو بارو أو جونو، وأخذ طريقه إلى مدينة سياتل، وقفز من سفينته وجيبه مليء بالنقود ليحتفل بشدّة في إحدى الحانات التقليدية والمقدَّسة جدا لدى الهنود، وراح يفلس ويفلس، وصار يحاول أن يجد طريق العودة إلى السفينة وإلى الشمال المتجمِّد.

كانت تنبعث من هؤلاء الأليوت رائحةٌ مثل رائحةِ سمكِ السلمون. وخمَّنتُ وأخبروني أنهم سيظلّون جالسين على تلك المسطبة الخشبية حتى تعود سفينتهم.

وسألتهم : " منذ متى غادرت سفينتكم؟"

فقال الأكبر سناً : " منذ أحد عشر عاماً."

قلتُ: " هل لديكم أيها الرجال مالٌ أستطيع أن أقترضه؟"

لم يكُن لديهم شيء.

 

الساعة 3 بعد الظهر:

سرتُ راجعاً إلى جونيور. كان ما يزال في الخارج بارداً. قرّبتُ وجهي إلى فمه لأتأكد ما إذا كان يتنفّس. كان حيّاً، ولهذا أخذتُ أفتش في سرواله البلو جينز، ووجدتُ نصف سيكارة، فدخنتها بأكملها حتى نهايتها، وأخذتُ أفكّر في جدتي.

كان اسمها أجنز، وقد توفيت بسبب سرطان الثدي عندما كان عمري أربعة عشرعاماً. وطبقاً لما رواه والدي دائماً، فإن أجنز أصيبت بالأورام السرطانية من منجم اليورانيوم الموجود في المحمية. ولكن أُمّي قالت إن المرض بدأ عندما كانت أجنز عائدة ذات ليلة من مهرجانٍ دينيٍّ للهنود الحمر ودهستْها دراجةٌ نارية، وكسرت ثلاثة من ضلوعها. وكانت أُمي تقول دائماً إن تلك الضلوع لم تلتئم بصورةٍ صحيحة أبداً، وتتغلَّب الأورام السرطانية حينما لا تُشفى تماماً.

وفيما كنتُ جالساً بجانب جونيور، وأنا أشمُّ رائحة الدخان والملح والقيء، تساءلتُ ما إذا كان سرطان جدتي قد بدأ عندما سرق أحدهم بذلتها للرقص. ربما بدأ السرطان في قلبها المحطم ثم تسرَّب إلى ثدييها. أعلم أنه نوعٌ من الجنون، ولكني تساءلتُ ما إذا كان في وسعي إعادة جدتي إلى الحياة إذا اشتريتُ بذلتها المرهونة. كنتُ في حاجة إلى المال، مالٍ كثيرٍ، ولهذا تركتُ جونيور وسرتُ إلى إدارة الصرف الحقيقي.

الصرف الحقيقي عبارة عن منظَّمة متعدِّدة الوظائف تقوم بنشر جريدة، وتدعم المشروعات الثقافية التي تمكّن الفقراء والمشردين، وتحشد الجمهور وراء قضايا الفقراء. إن رسالة الصرف الحقيقي هي التنظيم، والتثقيف، وبناء التحالفات من أجل إيجاد الحلول لمشكلتَي التشرّد والفقر. إنها وُجِدت لتمنح صوتاً للفقراء في مجتمعنا.

لقد حفظتُ نصَّ رسالة الصرف الحقيقي عن ظهر قلب، لأنني كنتُ أبيع جريدتهم في الشوارع فترة من الزمن . فأنت تشتري الجريدة بثلاثين سنتاً وتبيعها بدولار، وتحتفظ بالربح.

قلتُ للرئيس الكبير:" أريد ألفاً وأبعمئة وثلاث نسخ من الجريدة." 

قال : " هذا رقم غريب. وهذا عدد كبير من النسخ."

ـ " أحتاج إليها."

سحب الرئيس الكبير حاسبته اليدوية وأجرى العمليات الحسابية. وقال:

ـ " سيكلفك ذلك أربعمئة وتسعة وعشرين دولاراً."

ـ " لو كان لدي ذلك المبلغ لما اضطررتُ إلى بيع الصحف."

فسأل: " ما الذي يجري، يا جاكسون الصاعد القوة؟" وهو الشخص الوحيد الذي يدعوني بهذا اللقب، فهو رجل ظريف وحنون.

فأخبرته عن بذلة جدتي وكم من المال أحتاج لاستعادتها. فقال:

ـ " ينبغي أن تستدعي الشرطة."

فقلت: " لا أريد أن أفعل ذلك. إنها مطلبي الآن، ويجب أن أستعيدها بنفسي."

قال: " أفهم، ولكن سأكون صادقاً معك: كنتُ سأعطيك الجرائد لتبيعها لو كنتُ أعرف أن خطتك ستنجح. ولكن الرقم القياسي لعدد الجرائد التي تُباع في يومٍ واحد من طرف بائعٍ واحد هو ثلاثمئة واثنين فقط."

قلتُ: " وهذا سيعطيني صافي أرباح قدره مئتي دولار."

استخدم الرئيس الكبير حاسبته الإلكترونية ثم قال:

ـ " مئتين وأحد عشر دولاراً  وأربعين سنتاً." 

قلتُ: " وهذا لا يكفي." 

ـ " وأكبر مبلغ استطاع بائعٌ أن يحصل عليه  في يومٍ واحد هو خمسمئة وخمسة وعشرون دولاراً، وذلك لأنَّ أحدهم أعطى بلو العجوز ورقةً نقدية قيمتها خمسمئة دولار لسبب أخرق. أما معدّل الربح الصافي في اليوم فهو ثلاثون دولاراً."

ـ " هذا لا ينفع."

ـ " لا."

ـ " هل في وسعك إقراضي بعض المال؟"

قال: " لا، لا أستطيع أن أفعل ذلك."

ـ " ما الذي تستطيع أن تفعله؟"

ـ " أعطيك خمسين جريدة مجاناً. ولكن لا تخبر أحداً بأنني فعلتها."

قلتُ: " موافق."

جمع الجرائد وناولني إياها. ضممتُها إلى صدري. عانقني مودّعاً. حملتُ الجرائد ورجعتُ إلى البحر.

 

الساعة 5 بعد الظهر:

وفي رصيف التحميل في الميناء، وقفتُ بالقرب من محطة جزيرة بينبرج، محاولاً بيع الجرائد لرجال الأعمال الذين كانوا يستقلّون العبّارة.

بعتُ خمس جرائد خلال ساعة واحدة، والقيتُ ببقية الجرائد في الترعة. وسرتُ إلى مطعم مكدونالد وطلبتُ أربعة همبورغرات بالجبن، كلُّ واحدٍ بدولار، وأكلتُها ببطء.

وبعد الأكل، مشيتُ خارجاً وتقيئتُ على الرصيف، وكرهتُ أن أفقد طعامي بعد أكله مباشرة. فبوصفي هندياً مدمناً ذا معدةٍ قويّة، فإني آمل دائماً أن أحتفظ بما يكفي من الطعام لأبقى حيّاً.

 

الساعة 6 بعد الظهر:

سرتُ عائداً إلى جونيور وفي جيبي دولارٌ واحد. كان ما يزال فاقد الوعي، ووضعت أُذني على صدره مصغياً لنبض قلبه. كان حيّاً، فأخذتُ حذاءه وجواربه ووجدتُ دولاراً في جوربه اليسرى، وخمسين سنتاً في جوربه اليمنى.

وبدولارين وخمسين سنتاً في جيبي، جلستُ بجانب جونيور ورحتُ أفكّر في جدتي وحكاياتها.

عندما كنتُ في الثالثة عشرة من عمري، أخبرتني أمّي بقصَّة عن الحرب العالمية الثانية. كانت ممرضة في مستشفىً عسكريٍّ بمدينة سدني في أستراليا. ولمدَّة عاميْن كانت تعالِج وتواسي جنوداً أمريكيين وأستراليين.

وذات يوم كانت تعتني بجنديٍّ ماوريٍّ جريح، كان قد فقدَ ساقيْه بعد هجومِ مدفعيّ. كان لونه غامقاً جداً، وشعره أسود ومجعداً، وعيناه سوداويْن ودافئتيْن، ووجهه مغطى بوشمٍ لامع. سأل جدتي: " هل أنت ماورية؟"

قالت: " لا، أنا هندية من قبيلة السبوكين."

قال: " آه، نعم. لقد سمعتُ بقبائلكم. ولكنكِ أوَّل شخصٍ ألتقيه من الهنود الأمريكيين."

قالت: " هنالك كثير من الجنود الهنود الأمريكيين الذي يقاتلون للولايات المتحدة. فلدي أخٌ يحارب في ألمانيا، وفقدتُ أخاَ آخر في أوكيناوا."

قال: " أنا آسف. كنتُ في أوكيناوا. كان ذلك فظيعاً."

قالت جدتي: " وأنا آسفة بشأن ساقيْك."

قال: " الأمر مضحكٌ، أليس كذلك؟"

ـ " ما المضحك؟"

ـ " كيف نحن الرجال السمر يقتل بعضنا بعضاً ليبقى البيض أحراراً."

ـ " لم أفكِّر بتلك الطريقة."

ـ " طيب، أنا أفكر بتلك الطريقة في بعض الأحيان. أنا مشوَّش."

أعطته المورفين.

سألها: " هل تؤمنين بالسماء؟"

سألت: " أية سماء ؟"

ـ " أنا أتكلم عن السماء التي تنتظرني فيها ساقاي."

ضحكا.

قال: " طبعاً من المحتمل أن تهرب ساقاي بعيداً عني عندما أصل إلى السماء. وكيف أتمكَّن من القبض عليهما."

قالت جدتي: " عليك بتقوية ساعديْك لكي تجري على يديك؟"

ضحكا مرة أخرى.

وأنا جالس بجانب جونيور، ضحكتُ من تذكُّر قصَّة جدتي. وضعتُ يدي قرب فم جونيور لأتأكَّد من أنَّه ما يزال يتنفَّس. نعم. كان جونيور حيّاً، وهكذا أخذتُ دولاريَّ والخمسين سنتاً ومشيتُ إلى مخزن البقالة الكوري في ميدان الروّاد.

 

الساعة 7 بعد الظهر:

في مخزن البقالة الكورية، اشتريت سيكاراً بخمسين سنتاً وبطاقتَي يانصيب بالحكِّ، لقاء دولارٍ واحدٍ لكلِّ بطاقة. وكانت قيمة الجائزة النقدية الكبرى خمسمئة دولار للبطاقة الواحدة. فإذا ربحتُ البطاقتين، سيكون لدي ما يكفي من المال لأستعيد بذلة جدتي.

كنتُ أحبُّ مريم، الشابة الكورية التي كانت أمينة الصندوق في المخزن، كانت ابنة صاحب البقالة، وهي تغنّي طوال النهار.

قلتُ لها وأنا أناولها النقود: " أُحبُّكِ".

قالت: " أنت تقول دائماً أُحبُّكِ."

ـ " ذلك لأني سأحبُّك دوماً."

ـ " إنك أحمقٌ عاطفيّ."

ـ " إنني رجل كبير رومانسي."

ـ " كبير أكثر من اللازم بالنسبة إليّ."

ـ " أعلم أنني كبير أكثر من اللازم بالمقارنة بك، ولكني أستطيع أن أحلم."

قالت: " طيب. أوافق أن أكون جزءً من أحلامك، ولكني سأمسك يدك في الأحلام فقط.
بلا قبلات، وبلا جنس. ولا حتى في أحلامك."

قلتُ: " طيب. بلا جنس. الرومانسية فقط."

ـ " مع السلامة، جاكسون جاكسون. حبيبي."

غادرتُ مخزن البقالة، وسرتُ إلى الحديقة الغربية. وجلستُ على مسطبة، ودخّنتُ سيكاري حتّى نهايته.

بعد عشر دقائق من انتهائي من تدخين السيكار، حككتُ بطاقة اليانصيب الأولى، وربحتُ لاشيء. الآن يمكنني أن أربح خمسمئة دولار، وسيكون ذلك نصف ما احتاج إليه.

وبعد عشر دقائق من خسارتي، حككتُ البطاقة الأخرى، وربحتُ بطاقةَ يانصيب مجانيةً ــ مواساة صغيرة وفرصة جديدة لربح شيءٍ من المال.

سرتُ عائداً إلى مريم.

قالت: " جاكسون جاكسون، هل رجعتَ لتطلب قلبي؟"

قلتُ: " لقد ربحتُ بطاقة يانصيب مجانية."

قالت: " تماماً مثل رجل، فأنتَ تحبُّ المال والسلطة أكثر مما تحبُّني."

قلتُ: " هذا صحيح، وانا آسف لأنَّه صحيح."

أعطتني بطاقة حكًّ أخرى، وأخذتها إلى خارج الدكان، فأنا أحب أن أحكَّ بطاقاتي وحدي. حككتُ تلك البطاقة الثالثة، بمزيج من الحزن والأمل، وربحتُ نقوداً حقيقية. أخذت البطاقة عائداً إلى مريم، وقلت:

ـ " ربحتُ مئة دولار." 

فحصتِ البطاقة وضحكتْ.

قالت: " هذه ثروة." وعدَّت خمسَ ورقاتٍ نقديةٍ من فئة عشرين دولاراً. تماسَّتْ أطراف أناملنا وهي تناولني النقود، فشعرتُ بكهربة ورجفة.

ـ " شكراً." قلتُ ذلك، وأعطيتها إحدى الورقات النقدية.

قالت: " لا أستطيع أخذها. فهي نقودك."

ـ " لا، إنها عادة قَبَليّة، شيءٌ هنديّ. عندما تربحين، يفترض أن تتقاسمي الربح مع أهلك."

ـ " أنا لستُ أهلك."

ـ " نعم، أنتِ من أهلي."

ابتسمتْ واحتفظتْ بالورقة النقدية. وبثمانين دولاراً في جيبي، قلتُ وداعاً لعزيزتي مريم، وخرجتُ من الدكان إلى هواء الليل البارد.

 

الساعة 8 بعد الظهر:

أردتُ أن يقتسم معي جونيور الأخبار السارة، فمشيتُ راجعاً إليه، ولكنه كان قد انصرف. وسمعتُ بعد ذلك أنه سافر مع بعض السيارات المارة إلى بورتلاند في ولاية أوريغون، وأنه لفظ أنفاسه في زقاق يقع خلف فندق هلتون.

 

الساعة 9 بعد الظهر:

شعرتُ بالوحدة. وحملتُ دولاراتي الثمانين إلى حانة القلب الكبير الواقعة جنوبي وسط المدينة. والقلب الكبير حانة لجميع الهنود. لا أحد يعرف كيف يهاجر الهنود إلى حانةٍ واحدة ويحوِّلونها إلى حانةٍ هنديةٍ رسمياً. ولكن القلب الكبير أصبح حانة هندية منذ ثلاثة وعشرين عاماً. كان موقع القلب الكبير بعيداً في شارع الأورورا، ولكنَّ هندياً مجنوناً من قبيلة اللوي أحرقه، وانتقل مالكوه إلى الموقع الجديد الذي يبعد ببضعة شوارع عن حقل السافكو.

دخلتُ في القلب الكبير، وعددتُ خمسة عشر هندياً ـ ثمانية رجال وسبع نساء ـ ولم أكن أعرف أياً منهم، ولكن الهنود يحبون الشعور بالانتماء، ولهذا فنحن جميعاً نتظاهر بأننا أبناء عمومة.

ـ " بكم كؤوس الويسكي؟" هكذا وجهتُ السؤال إلى الساقي الواقف وراء النضد، وكان رجلاً أبيض بديناً.

ـ " هل تريد النوع السيء أو النوع الأسوء؟"

ـ " أسوء ما عندكم."

ـ " دولار واحد للكأس."

وضعتُ دولاراتي الثمانين على النضد، وقلت:

ـ " طيب. أنا وأبناء عمي هنا سنشرب ثمانين كأساً."

فصاحت امرأة من الخلف: " وأنت معنا سيكون نصيب كل واحد منا خمس كؤوس."

استدرتُ لأنظر إليها. كانت امرأة هندية شاحبة الوجه وغليظة الجسم، تجلس مع رجلٍ هنديٍّ طويل ونحيف.

قلتُ لها: " طيّب، أيتها العبقرية الرياضياتية." ثم صحتُ ليسمعنى جميع رواد الحانة:

ـ " خمسة مشروبات لكلِّ واحد."

فأسرع جميع الهنود الآخرين إلى نضد الحانة، ولكني جلستُ مع الرياضياتية وصديقها النحيف. وأخذنا وقتنا مع كؤوس الويسكي.

وسألتُ: " من أيِّ قبيلة؟"

قالت: " أنا من قبيلة دوامش، وهو من كرو."

قلتُ له: " أنتَ بعيدٌ جداً من ولاية مونتانا."

قال: " أنا كرو، وأتيتُ إلى هنا بالطائرة."

وسألتهما: " ما اسمكما؟"

قالت: " أنا إيرين موس، وهو هوني بوي (الفتى العسل)."

وصافحتني بقوّة. ولكنه قدّم إليَّ يده، كما لو كان من المفروض بي أن أقبّلها، ولهذا فقد فعلت. فضحك واحمرَّ وجهه خجلاً، بقدر ما يستطيع هندي كرو غامق اللون أن يحمرّ. 

فسألته: " أنتَ واحد منهم بروحيْن؟ أليس كذلك؟"

فقال: " أنا أحب النساء، وأنا أحب الرجال."

وقالت إيرين: " وأحياناً كليهما في وقتٍ واحد."

وضحكنا.

وقلت للفتى العسل: " يا رجل، لآ بُدّ أن تكون لك ثماني أو تسع أرواح في داخلك، أليس كذلك؟"

قال: " عزيزي، سأكون ما تريدني أن أكون."

قالت إيرين: " آه، لا، الفتى العسل يقع في الحبِّ."

قال: " لا علاقة لذلك بالحبِّ."

ضحكنا.

قلتُ: " إني أشعر بالغرور، أيُّها الفتى العسل، ولكني لا ألعب في فريقكِ أبداً."

قال: " لا تقُل أبداً، أبداً."

قالت إيرين: " احذر فالفتى العسل يعرف جميع أنواع السحر."

قلتُ: " أيها الفتى العسل، في وسعك أن تحاول إغرائي، ولكن قلبي تمتلكه امرأة تدعى مريم."

فسأل الفتى العسل: " وهل مريمك عذراء؟"

ضحكنا.

وأخذنا في شرب كؤوسنا حتى اختفت، ولكن الهنود الآخرين اشتروا لي كؤوس ويسكي أخرى، لأنني كنتُ كريماً جداً بنقودي. وسحب الفتى العسل بطاقته البنكية وشرب وأبحر في ذلك القارب البلاستيكي.

وبعد دزينة من كؤوس الويسكي، طلبتُ من إيرين أن ترقص معي. رفضت. ولكن الفتى العسل جرجر رجليه إلى صندوق الاسطوانات الموسيقية، وأدخل فيه ربع دولار، واختار أغنية ولي نلسون " ساعِدْني لأسهر الليل." وفيما أنا وإيرين جلسنا إلى الطاولة وضحكنا وشربنا مزيداً من الويسكي، راح الفتى العسل يرقص ويدور حولنا ويغني مع ولي نلسون.

سألتُه: " هل أنتَ تغني لي تحت نافذتي؟"

استمر في الغناء والرقص.

فسألتُه مرة أخرى: " هل أنتَ تغني لي تحت نافذتي؟"

قالت إيرين: " سيلقي بتعويذة سحرية عليك."

انحنيت على الطاولة، أسقطتُ بعض المشروبات، وقبّلتُ إيرين بقوة. فتجاوبت معي وقبلتني.

 

الساعة 10 بعد الظهر:

دفعتني إيرين على مقعد في حمام النساء، وأغلقت الباب خلفنا، وأقحمت يدها في سروالي. كانت قصيرة، ولهذا كان عليَّ أن أنحني لتقبيلها. أمسكتُ بها وضغطتُ على كل جزء استطعتُ أن أصل إليه في جسمها، وكانت سمينة بصورة عجيبة، وكلُّ مكان في جسدها مثل نهد طري دافئ كبير.

 

منتصف الليل:

كنتُ أعمى تقريباً بسبب الكحول. وقفتُ وحدي في الحانة وأقسمتُ أنني كنتُ أقف مع إيرين في الحمام قبل دقيقة فقط.

وصرختُ بالساقي: " كأس أخرى!"

فصرخ بي : " لم تعُد لديك نقود أخرى."

وصحتُ: " ليشترِ لي أحدكم مشروباً!"

ـ " لم يعُد لديهم أية نقود."

ـ " أين إيرين والفتى العسل؟"

ـ " انصرفا منذ وقت طويل."

 

الساعة 2 صباحاً:

ـ " هذا وقت الإغلاق." هكذا صاح الساقي بالهنود الثلاثة أو الأربعة الذين ما زالوا يواصلون الشرب بعد يوم طويل من الشرب. فالهنود الكحوليون إما عدّاءون في سباق قصير أو عدّاءون في سباق المارثون. 

وسألتُ: " وأين إيرين والفتى العسل؟"

أجاب الساقي: " لقد غادرا منذ ساعات."

ـ " وأين ذهبا؟"

ـ " أخبرتك مئات المرات إنني لا أعلم."

ـ " ماذا ينبغي أن أفعل؟"

ـ " إنه وقت الإغلاق. ولا يهمني أين تذهب، ولكنك لن تبقى هنا."

ـ " إنك وغد عاق. فقد أحسنتُ إليك."

ـ " إذا لم تغادر حالاً، فسأشبعك رفساً."

ـ " تعال. فأنا أعرف كيف أقاتل."

أقبل عليَّ، ولا أتذكر ما الذي حدث بعد ذلك.

 

الساعة  4 صباحاً:

انبثقتُ من الظلام، ووجدتُ نفسي أمشي خلف مستودع كبير للسلع. لم أكن أعرف أين كنتُ. ووجهي يؤلمني. تحسَّستُ أنفي ، وبدا لي أنه قد يكون مكسوراً. سحبتُ قطعةً بلاستيكية من عربة نقل وتدثَّرتُ بها مثل عاشقٍ مخلص، واستغرقتُ في النوم على التراب.

 

الساعة 6 صباحاً:

ركلني أحدهم في ضلوعي. ونظرتُ إلى الأعلى فرأيتُ شرطياً أبيض.

قال الشرطي: " جاكسون، هل هذا أنتَ؟"

قلتُ: " الضابط وليمز." وكان وليمز شرطياً صالحاً، يحبُّ الحلويات فقد أعطاني خلال السنوات الماضية مئاتٍ من قطع الحلوى. وأنا أتساءل ما إذا كان يعلم بأنّني مصابٌ بداء السكّري.

وسأل: " ما الذي تفعله هنا بحقِّ الجحيم؟"

قلتُ: " كنتُ أشعر بالبرد والنعاس، فاضطجعتُ."

قال: " أيها الغبي، إنك ممدَّدٌ على قضبان السكَّة الحديد. "

وكان عمّال حوض السفن يحدّقون بي. كان من الممكن أن أصبح بيتزا السكة الحديد بالفلفل الهندي المضاعف مع كثير من الجُبن. انحنيتُ وأنا مريضٌ وخائفٌ وتقيأتُ وسكياً.

وسألني الشرطي وليمز: " ماذا بك بحقِّ الجحيم؟ لم تكُن بمثل هذا الغباء أبداً."

قلتُ: " إنها جدتي. لقد ماتت."

ـ " آسف، يا رجل. متى ماتت؟"

ـ " سنة 1972."

ـ " وأنتَ تقتل نفسكَ الآن؟"

ـ " إنني أقتل نفسي باستمرار منذ أن توفيت."

هزَّ رأسه، وكان حزيناً من أجلي. وكما قلتُ فهو شرطيٌّ صالح.

قال: " وقد أوسعك أحدهم ضرباً، فهل تذكر مَن هو؟"

ـ " السيد كريف ( الحزن) وواصلتُ بضع جولاتٍ معه."

ـ " يبدو أن السيد كريف (الحزن) قضى عليك.

ـ " السيد كريف ينتصر دائماً."

قال: " تعال. دعني أُخرِجك من هنا."

ساعدَني على الوقوف وقادني إلى سيّارة الشرطة، ووضعني في المقعد الخلفي. وقال:

ـ " إذا تقيأتَ هناك، فعليك تنظيفه."

ـ " هذا من الإنصاف."

استدار حول السيّارة وجلس في مقعد القيادة وقال:

ـ " آخذك إلى مركز معالجة التسمم."

قلتُ: " لا يا رجل. فذاك المكان فظيع. إنه مليء بالهنود السكارى."

وضحكنا. وقاد السيّارة بعيداً عن أحواض السفن.

قال: " لا أعرف كيف أنتم الرجال تفعلون ذلك."

سألتُ: " أي رجال؟"

ـ " أنتم الرجال الهنود. كيف تضحكون كثيراً؟ فأنا قد سحبتك لتوي من سكَّة الحديد، وأنت تطلق النكات، لماذا تفعل ذلك بحقّ الجحيم؟"

ـ " أعرف قبيلتيْن مضحكتيْن: الهنود واليهود، وأحسب أن ذلك يبيِّن شيئاً بشأن السخرية الكامنة في الإبادة الجماعية."

وضحكنا.

ـ "عندما استمع إليك يا جاكسون، أجدك ذكياًّ جداً، فلماذا بحق الجحيم تعيش في الشارع؟"

ـ " أعطني ألف دولار وسأخبرك."

ـ " تأكّد أنني سأعطيك ألف دولار، لو كنتُ أعلم بأنك ستصلح حياتك."

وكان يعني ما يقول، فهو ثاني أفضل شرطي عرفته في حياتي.

قلتُ: " إنك شرطي صالح."

قال: " اهدأ يا جاكسون. ولا تبالغ في مدحي."

ـ " لا حقيقةً، فأنت تذكّرني بجدّي."

ـ " نعم، هذا ما يقوله لي الهنود دائماً."

ـ " لا يا رجل. لقد كان جدّي شرطيّاً قبليّاً. كان شرطيّاً صالحاً."

ـ " لقد أعتقلتُ المئات من الحثالات، يا جاكسون، وأطلقتُ النار على اثنين منهم في المؤخرة."

ـ " لا يهم، فأنت لست قاتلاً."

ـ " لم أقتلهما، بل قتلتُ مؤخَّرتيهما. أنا قاتل المؤخَّرات."

ومضت السيّارة إلى وسط المدينة. وكانت التبشيريات الدينية والملاجئ قد لفظت المشرَّدين الذين أمضوا الليل فيها. ووقف المشرَّدون من الرجال والنساء في زوايا الشوارع وهم ينظرون إلى السماء الرمادية اللون. إنه الصباح بعد ليلة الأموات الأحياء.

وسألتُ الشرطي وليمز: " هل شعرتَ بالخوف مرةً؟"

ـ " ماذا تعني؟"

ـ " أعني هل يخيفك أن تكون شرطياً؟

فكّر في ذلك وهلة، وتأمَّله. وأعجبني ذلك فيه.

قال: " أحسب أنني أحاول ألّا أفكّر كثيراً في كوني خائفاً. فإذا فكّرتُ في الخوف، فسأخاف. فعملي مملٌّ في بعض الأحيان. مجرّد قيادة السيّارة والنظر إلى زوايا الشوارع، كما تعلم، ولا ترى شيئاً. ثم تصير الأمور أصعب. أنت تطارد شخصاً، أو تقاتلهم، أو تفتش منزلاً مظلماً، وأنت تعلم أن شخصاً مجنوناً يختفي في منعطف، نعم إنه أمرٌ مخيف."

قلتُ: " لقد قُتِل جدي أثناء تأدية الواجب."

ـ " آسف. كيف حدث ذلك؟"

ـ " كان يشتغل في المحمية. وكلُّ واحدٍ فيها يعرف كلَّ واحد. وكانت المحمية في أمان. فنحن لسنا مثل هؤلاء المجانين من قبيلة السيوكس أو قبيلة الأباتشي، أو تلك القبائل المحاربة. فخلال المئة سنة الأخيرة لم تقع إلا ثلاث حوادث قتل في محميتنا."

ـ " هذه محمية آمنة."

ـ " نعم، فنحن السبوكين مسالمون، كما تعلم. قد نسئ استعمال الكلمات، فنلعن أي شخص، ولكننا لا نطلق النار على الناس، ولا نطعنهم. ليس كثيراً، على أية حال."

ـ " إذن ما الذي حدث لجدّك؟"

ـ " ثمّة رجلٌ وصديقته يتخاصمان عند الشلالات الصغيرة."

ـ " النزاعات العائلية هي الأسوء."

ـ " نعم ، ولكن هذا الرجل هو أخو جدي."

ـ " آه، لا."

ـ " نعم، كان ذلك مريعاً. دخل جدي المنزل. وكان قد دخله ألف مرَّةٍ من قبل. وكان أخوه وصديقته في حالة سُكر ويضرب أحدهما الآخر. ودخل جدي بينهما، كما سبق أن فعل ذلك مئات المرات من قبل. وعثرت الصديقة أو شيء من ذلك القبيل، فوقعت على الأرض وضربت رأسها وأخذت تبكي. وركع جدي بجانبها للتأكُّد من أنها على ما يرام. ولسببٍ ما انحنى أخوه وسحب مسدس جدي من قرابه وأطلق عليه النار في الرأس.

ـ " ذلك فظيع، آسف."

ـ " نعم، لم يستطع أخو جدي أن يفهم لماذا فعل ذلك. وحُكم عليه بالسجن المؤبَّد، كما تعلم. وظل يكتب إلينا تلك الرسائل المطوّلة.  حوالي خمسين صفحة بالخطِّ الصغير. وظلَّ يحاول دائماً أن يفهم لماذا فعلها. وظلَّ يكتب ويكتب ويكتب ويحاول أن يفهم. ولم يفلح. فقد كان ذلك لغزاً كبيراً عظيما.

ـ " هل تتذكّر جدّك."

ـ " قليلاً. أتذكر تشييع الجنازة، ولم تدعْهم جدتي أن يدفنوه. واضطر والدي إلى سحبها من القبر."

ـ " لا أدري ما أقول."

ـ " ولا أنا."

وقفنا أمام مركز معالجة التسمم.

وقال الشرطي وليمز: " ها نحن هنا."

قلت: " لا أستطيع الدخول هناك."

ـ " يجب عليك."

ـ " لا، أرجوك. سيحتفظون بي مدة أربع وعشرين ساعة. وبعد سيكون الوقت قد فات."

ـ " فات على ماذا؟

فأخبرته عن بذلة رقص جدتي والموعد المضروب لاستعادتها.

ـ " إذا كانت قد سُرِقت، فعليك أن تقدّْم شكوى بذلك. سأجري التحقيق بنفسي. وإذا كانت تلك البذلة تعود لجدتك، فسأرجعها إليك بصورةٍ قانونية."

قلتُ: " لا. هذا ليس من الإنصاف في شيء. فصاحب دكّان المرهونات لم يكُن يعلم أنها مسروقة. إضافةً إلى ذلك، فأنا في مهمَّة هنا. أريد أن أصبح بطلاً ، كما تعلم. أريد استعادتها بنفسي، مثل فارس."

ـ " هذا كلام رومانسي تلقيه على عواهنه."

ـ " ربّما، ولكنَّه يعني الكثير لي. فأنا منذ وقت طويل لم أهتم بشيء."

قال: " سأعطيك بعض النقود. ليس لدي الكثير. فقط ثلاثون دولاراً. فأنا خالي الوفاض حتى آخر الشهر. وهذا لا يكفي لاستعادة البذلة، ولكنّه شيءٌ ما."

قلتُ: " سآخذها."

ـ " أعطيك الميلغ، لأني أؤمن بما تؤمن به. فأنا آمل، ولا أدري لماذا هذا الأمل، أن يكون في مقدورك تحويل الثلاثين دولاراً إلى ألف دولار بطريقة ما."

ـ " أنا أؤمن بالسحر."

ـ " أظن أنك ستأخذ نقودي وتسكر بها."

ـ " إذن لماذا تعطيني إياها؟"

ـ " ليس هنالك شرطي ملحد."

وتركني أنزل من السيارة. وناولني ورقتيْن نقديتيْن من فئة خمسة دولارات وأخرى من فئة عشرين دولاراً وصافحني. وقال:

ـ " اعتني بنفسك، يا جاكسون، وابتعد عن السكك الحديد."

قلتُ: " سأحاول ذلك."

وابتعد بسيّارته . ورجعتُ حاملاً نقودي إلى البحر.

 

الساعة 8 صباحاً:

وفي حوض تحميل السفن، وجدتُ أن الهنود الإليوت الثلاثة ما زالوا ينتظرون على المسطبة الخشبية.

وسألتهم: " هل رأيتم باخرتكم ؟"

قال أكبرهم: " رأينا كثيراً من السفن ولكن ليس باخرتنا."

جلستُ على المسطبة معهم. وجلسنا صامتين وقتاً طويلاً. وكنتُ أتساءل ما إذا كنا سنتحجَّر إذا ما جلسنا زمناً كافياً.

وفكّرتُ في جدّتي. فأنا لم أرَها ترقص ببذلتها مطلقاً. وأكثر من أيّ شيءٍ آخر، تمنّيتُ لو كنتُ قد رأيتها وهي ترقص في مهرجانٍ ديني.

وسألت الهنود الإليوت: " هل تعرفون، أيُّها الرجال، أية أغاني؟"

أجاب أكبرهم: " أعرف جميع أغاني هانك وليمز."

ـ " وماذا عن الأغاني الهندية؟"

ـ " هانك وليمز هندي."

ـ " ماذا عن الأغاني المقدَّسة؟"

ـ " هانك وليمز مقدّس."

ـ " أنا أتكلم عن أغاني المهرجانات، كما تعلم، ألأغاني الدينية. تلك الأغاني التي تغنونها في دياركم عندما تتمنَّون شيئاً أو تأملون."

ـ " ما الذي تتمنّاه وتأمله؟

ـ " أتمنى لو كانت جدَّتي على قيد الحياة."

ـ " كلُّ أغنية أعرفها تدور حول ذلك."

ـ " حسناً. غنّْ لي بقدر ما تستطيع."

غنّى الإليوتيون أغانيهم الغريبة والجميلة. وأصغيتُ السمع. وكانوا يشعرون بالوحشة والوحدة، ويفتقدون البرد والثلج. وكنتُ أنا أفتقد كلَّ شيء.

 

الساعة 10 صباحاً:

بعد أن انتهى الإليوتيون من أغنيتهم الأخيرة، جلسا في صمت برهة. والهنود يجيدون الصمت. 

وسألتهم: " ما هي تلك الأغنية الأخيرة؟"

أجاب أكبرهم: " لقد غنينا جميع الأغنيات التي في مقدورنا. والأغنيات الأخرى خاصَّة بشعبنا." 

فهمتُ. فعلينا نحن الهنود كتمان الأسرار. وهؤلاء الإليوتيون كانوا في منتهى السرية لدرجة أنهم لم يشيروا إلى أنفسهم كهنود."

سألتهم: " هل أنتم جائعون، أيُّها الأصحاب؟"

فنظروا إلى بعضهم البعض، وتواصلوا من غير كلام.

قال أكبرهم: " يمكن أن نأكل."

 

الساعة 11 صباحاً:

سرت والإليوتيين إلى " المطبخ الكبير" وهو مطعم كثير الدسم في المنطقة العالية.

سألتِ النادلةُ عندما دخلنا المطعم : " أربعة للفطور؟"

قال كبير الإليوت: " نعم نحن جائعون جداً."

فسألتِ النادلة : " هل تريدون حسابات منفصلة؟"

قلتُ: " لا. أنا الذي سيدفع." 

قالت: " أنت الرجل الكريم؟"

قلتُ: " لا تفعلي ذلك."

قالت: " أفعل ماذا؟"

قلت: " لا تسألي أسئلة بلاغية، فإنها تخيفني."

بدت عليها الحيرة ثمَّ ضحكت.

قالت: " طيب، أستاذ، سأسألك أسئلة حقيقية فقط من الآن فصاعداً."

ـ " شكراً."

ـ " ماذا تريدون أن تأكلوا، أيها الرجال؟"

قلتُ: هذا أفضل سؤال يوجهه شخصٌ إلى شخص آخر. ما الذي لديكِ؟"

فسألتْ: " كم من المال لديكَ؟"

قلتُ : " هذا سؤالٌ جيّدٌ آخر. لدي خمسة وعشرون دولاراً أستطيع إنفاقها. اجلبي لي جميع أنواع الفطور التي تستطيعين زائداً بقشيشك."

وكانت تعرف الحساب.

ـ " حسناً. هذا يعني أربعة فطورات خصوصية مع أربعة فناجين من القهوة، وخمسة عشر بنساً لي."

وانتظرنا أنا والهنود الإليوت بصمت. وبعد قليل عادت النادلة وصبّت لنا أربعة فناجين قهوة، فأخذنا نحتسيها حتّى رجعت مرَّة أخرى وهي تحمل أربعة صحون من الطعام. البض، اللحم، الخبز المحمص، البطاطا السمراء المطحونة؛ إنه من المدهش كم من الطعام الكثير تستطيع أن تشتري بقليلٍ من المال.

 

الظهر:

ودّعتُ الهنود الإليوت، وسرتُ نحو دكان المرهونات. وسمعتُ بعد ذلك أن الإليوتيين خاضوا في الماء المالح قرب الرصيف 47 واختفوا. وأقسم بعض الهنود أنهم ساروا على الماء واتجهوا شمالاً. ورأى هنود آخرون أولئك الهنود يغرقون. أما أنا فلا أعرف ما حلَّ بهم.

بحثتُ عن دكان المرهونات ولم أستطع العثور عليه. أُقسم أنه لم يكن في ذلك المكان الذي كان فيه من قبل. مشيتُ عشرين أو ثلاثين شارعاً باحثاً عن دكّان المرهونات، ودرتُ حول زوايا الشوارع، وقطعتُ تقاطعات الطرق، وفتّشتُ عن اسم الدكان في دليل الهاتف، وسألتُ المارّة بالقرب مني عما إذا كانوا قد سمعوا به. ولكن يبدو أن دكّان المرهونات ذاك قد أبحر مثل سفينةٍ شبح. أردتُ أن أصرخ. وكنتُ على وشك أن أتخلّى عن البحث عندما استدرتُ في زاوية أخيرة، وخطر على بالي أنَّني سأموتُ إذا لم أجد ذلك الدكّان، وإذا به هناك في المكان الذي أقسمت أنه لم يكن فيه قبل بضع دقائق.

دخلتُ الدكّان وحييتُ صاحبه الذي بدا لي أصغر سناً مما كان عليه من قبل.

قال: " ها هو أنت."

قلتُ: " نعم، هذا أنا."

ـ " جاكسون جاكسون"

ـ " ذلك هو اسمي."

ـ " أين صديقاك؟"

ـ " سافرا، ولكن لا بأس، فالهنود في كل مكان."

ـ " هل لديك المال"

سألته: " كم تحتاج مرة أخرى؟" وكنتُ آمل أن السعر قد تغيّر.

ـ " تسعمئة وتسعة وتسعون دولاراً."

السعر ما يزال نفسه. طبعاً إنه نفس السعر. ولماذا يتغيّر؟

قلتُ: " ليس لدي ذلك المقدار؟"

ـ " ماذا لديك؟"

ـ " خمسة دولارات." 

ووضعت الورقة النقدية المجعدة التي تحمل صورة الرئيس لنكولن على النضد.

نظر صاحب الدكان إليها متفحِّصاً.

ـ " هل هي نفس الورقة النقدية من يوم أمس؟"

ـ " لا، إنها مختلفة."

فكَّرَ في الاحتمالات. 

وسأل: " هل عملتَ بجدٍّ للحصول على هذه النقود؟"

أجبتُ: " نعم."

وعندئذ دخل إلى مؤخَّر الدكّان وعاد ببذلة جدتي.

قال وهو يحملها إليّ: " خُذْها."

ـ " ليس لدي المال."

ـ " لا أريد مالك."

ـ " ولكني أردت أن أفك رهنها."

ـ " لقد استعدتَها. والآن خذها قبل أن أغيّر رأيي."

هل تعرف كم من الناس الطيبين يعيشون في هذا العالم؟ أكثر مما نستطيع عدّهم.

أخذتُ بذلة جدتي وسرتُ خارجاً. وكنتُ أعلم أن الخرزة الصفراء الوحيدة هي جزء مني. وكنتُ أعلم أنني كنتُ جزءً من تلك الخرزة الصفراء. وفي الخارج دثرتُ نفسي ببذلة جدَّتي وشممتها فيها. ونزلتُ من الرصيف إلى تقاطع الطرق. ووقف المارَّة. وتوقَّفت السيارات. ووقفت المدينة. وشاهدني الجميع وأنا أرقص ببذلة جدَّتي. كنتُ جدَّتي في الرقص.

 

تقييم النص

يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد ! كن أول المعلقين !

التعليقات

إدراج الإقتباسات...