يوم اغتالوا الجسر

يوم اغتالوا الجسر


(أنت ستمشين تحت الشمس، أمّا أنا فسأوارى تحت التراب)
رامبو لشقيقته لحظة احتضاره.



وكنّا.. في منتصف المسافة ما بين حلمها وحلمي، معاً نراقب تلاطم عواطفنا، والتناغم المدهش لهواجسنا، تغمرنا انثيالات أصيل ساحر، كلانا.. كان حسب مزاجه وسعة أغواره، مفتوناً بهذا الاتحاد والتلاقح للمشاعر، في تلك السانحة، كنّا.. قد أبرمنا قرارنا الصريح، قرار نبع من خلجان الذات، ودوّر أفلاك أحلامنا، ونسف تركة سنوات ظلّت تأكلنا على نيران الترقب والخوف. يداً بيد مضينا، وحولنا تتداخل صرير إطارات مركبات تمرق، وصخب نوارس تمرح، وعدنا بعد حلم لمحناه قبل أن يباغتنا في المنام.
***
ـ لمى.. هذا أقصر الطرق لما يريحك.
ـ أوّاه.. أكره قصار الدروب.
ـ لمى.. أخشى عليك من التعب، قدماك بلوريتان، حرام أن تمشيا على شوارع وأرصفة ستدكها ذات يوم أحذية الغزاة، ومركباتهم.
ـ دعنا.. دعنا.. نوزع حبنا على كل شبر من شوارع بغداد، دعنا.. نكحل هذا الزمن الرديء بشيء من غرامنا.
ـ عراقية ورب الكعبة، عيناك دجلة وفرات، يا لك من نخلة شاهقة بوجه الأعاصير.
نواصل التحليق، تفرد عواطفها على بساط الزمن، وأنا الحائر لا أعرف كيف أتناغم مع هذا المرح الملائكي المتنامي على بساط نسمات دجلة، تهرب، وأحاول اللحاق بها، تخترق الفضاء والريح والزمن، أحاول الوصول إليها، تهرب وتهرب، وحين ترصد لهاثي، تقف وتجذبني لحوار وانغمار.
***
لمى.. حيرتني، بحريتها، بسعة أحلامها، دائماً تباغتني بمرح يشلّني ويغرقني في بحر خجل وتعرق، هكذا هي لمى.. الخارجة من بيضة الجهل لتهاجم الدنيا بمسرات مثيرة وشجاعة أمازونية. كلما احتويها أو تحتويني، تنفلت وتجترح مسافة معقولة، ترقص وسط مئات المنبهات للمركبات المارقة، تستدير وتهز خصرها، ومثل صقر في لحظة قنص تفرد ذراعيها، أقف.. لا أعرف هل من خجلي أم رغبة في رؤية هذا المشهد الساحر في زمن متوقف، أراها تتوقف وتمد كفيها إلى السماء، تلوح لوحة استثنائية تبحث عن عدسة كاميرا لتخليدها، أخطو إليها.. أقف أمامها، عينان من زجاج، شاشة تدلق قصائد ملحمية، آه.. كنت أقول.. لو عرف الملحنون بها لتقاتلوا من أجل تلحينها، أهزها.. ذائبة هي في أمواج نورانية، من حقها أن تذوب، كانت معذبة بالحب والحرية، كانت قطعة حلوى، غزالة لا مأوى لها إلاّ قلبي، تباغتني وتغرقني معها في موج كركرات وسط عالم حائر، هكذا كنّا، كلما نلتقي لكتابة شيء من أسفارنا فوق جسر الجمهورية.. ودائماً كانت تختم اللقاء ببسمة وضحكة قبل أن تجذبني لشوط قبلات.
***
مبارك هذا اللقاء.. هل حقاً أننا نمرح في هذا الزمن..؟ كنت أطرح السؤال، تضحك لمى وتهرب من بين يدي، ألهث وراءها، تختفي، أفتش بين الأحراش، أحياناً تند مني صرخة، حين أتربص لوقت هي تقرره. لمى.. لا تحتمل الوحدة، هكذا كانت تقول لي، تمطر رأسي بما تقتطف من ثمر، أراها جالسة فوق جذع بين أغصان شجرة، آه يا لمى.. كنت أحرر زفيري، ترمي بنفسها وأتلقفها، من أين لك كل هذه البراءة؟ لمى.. حضارة عشق ومرح، المدينة الفاضلة لأحلام الفقراء. لمى.. منتجع بوسع العالم أن ينسى أحزانه في حضرتها، آه يا لمى؛ كنت أقول لها، لو عرف العالم بك، لاستفقنا ذات فجر على عواءات صفّارات الإنذار وهدير الصواريخ القارية، وقامت من أجلك حرب كونية ثالثة، كانت تضحك وأحاول أن أقنعها؛ لا تستغربي يا لمى.. حروب طروادة قامت على هيكل امرأة، ومضة واحدة من عراقيتك، تنسفها من ذاكرة التاريخ! لكن يا لمى.. من أين نجيء بشاعر يجيد التعامل مع أساطيرنا، شعراءنا نسوا ماضيهم وساروا يتبعون أحلامهم، آه يا لمى.. لا تحلقي عالياً، سهام العيون لا ترحم، سهام العيون تمزق صواري السفن، تمسكي بعروة عشقي، فأنا محارب وحبك سلاحي، يالمى.. لا تكثري الطامعينا، وفي غمرة تراتيلي، كانت تنفلت وتفرج العالم على حبنا.
***
كدت أهوي، هاوية مشت نحوي، أقولها بصراحة، ألست من طلبت منّي مصارحتك بكل شيء، حسناً لن أخفي عنك شيئاً، لقد غازلني عابر سبيل، أرجوك لا تنزعج واتركني أكمل كلامي، أعرف أنك تغار، ولا تحتمل حتى نظرات الناس لي، ما العمل غازلني ـ هكذا أراد قدري ـ وأبهرني بغزله، ومثل معتوهة مشيت وراءه، عطش يقودني، ورغبة تدفعني، مجنونة كنت به، قلت: سألاحقه إلى آخر المدى لأعرف ماذا يريد منّي؟ أنت تعرف ما يرمي الرجل من فتاة، ابتدأ بسلام ثم كلام، حلواً كان صوته، أسكرني وجذبني، أماتني بفواكه لسانه وأسقطني في بئر النشوة، شربت من عينيه وسكرت على يديه، ونمت في سرير غرامه، ما العمل؟ كان وسيماً حد الجنون، أقولها لك صراحة يا أنبل عاشق وافقت مشاعري مشاعره، ومن أجله حررت أنوثتي. (ملهمتك لمى)
***
موت مفاجئ احتواني، كادت جمجمتي أن تتناثر للريح والمدى، لم أتمالك نفسي، ضغطت على الزناد، لكن الرصاصة أبت أن تغادر حجرتها، ظلّ رأسي مثل كرة تركلها أقدام دون استراحة، في تلك اللحظة دعكت الرسالة ولم أعرف لمَا لم أمزقها، تناوشت سلاحي وسددت إلى رأسي، آه يا لمى.. هكذا تعاهدنا، يوم كنّا فوق جسر الجمهورية، حين مرقت اسراب طائرات وألقت حمولتها على البنايات الشاهقة، كان العالم يهتز، ونحن نواصل الرقص والحب، آه يا لمى.. لولا تدخل أحد زملائي لمتُّ، تدخل في اللحظة الحاسمة وأوقف موتي، صاح: ويحك.. أنها مزحة نيسان! تحجرت الطلقة، تحجرت عيناي، تحجرت المشاعر، تحجر الكون، وتحجرت لماي.. فوق جثة مستقبلي، آه يا لمى.. ما زلت تشغلين العالم بمرحك، الحرب الكونية قادمة لا محالة، طالما أنت موجودة. ومضينا نحتفل لسلامتي تحت وجيب الرصاص المنهمر، وكنت متيقناً أنهم خائبون، وقلت: فليلقوا ما عندهم، لن نوقف هذا الحفل، نشرب الشاي ونعيد قراءة اللغز في ظهر رسالتك: لا تصدق هذا الكلام، وتذكر أن اليوم هو ـ واحد نيسان ـ (لماك)
***
تنوح الشوارع، تزمجر المركبات، وعيون العالم تحتبس الدموع، وحدي أنثر الهموم وأوزع مواجيدي إلى الفضاء والصمت والخراب، السماء داخنة، والمركبات تشهق، أشجار يائسة ونوارس لا رغبة لها في القنص، صارخة تحلق، وفي الماء أسماك تطفو، يالها من حرب عادلة، طيور.. بر.. جو.. مائية، وسمك غريم يموت خارج الماء، أقف ويداهمني فيضك يا لمى.. واقفة أراك، تواصلين مرحك الملائكي، يشدني فيضك ويجذبني، أراك واقفة فوق الماء، تبدئين لحنك السماوي، تبحثين عن رسّام يخلدك موناليزا عراقية. آه يا لمى.. ما زلت أجهل، هذا السر الذي يشدك إلى السماء، آه.. يوم همست في أذنك: هل هناك معجب سماوي ينافسني عليك يا لمى؟ وكما كنت تفعلين، انفلتِ ورشقت الأصيل بكركراتك وارتعاشات جسدك.
***
ماتت لمى.. ناحت الحياة، وزمجرت المركبات، وصهلت الرياح، وفوق النهر، حيث الجسر ظلت النوارس صخّابة مستنفرة، وصرت شجرة يابسة، لا نهر يمر بها ولا غيمه تمطرها، ماتت الأشياء بموتك يا لمى.. وقفت، وقذفت بصاقي، وحررت صرختي: لم اخترتها؟ لمَا لم تأخذني معها؟ لمى.. مزرعة حياة. لمى.. مملكة جمال وسعادة. لمى.. لمى.. لمـ ااااااااااااااااا…
***
شاخت أيامي، وأكتهل العالم، هرمت النوارس، وظل الماء يحتفظ ببرودة أعصابه، وما تزال السماء تمهل ولا تهمل، أمشي فوق الجسر، أمشي أمام العدو، أعطي قيافتي هدفاً معادياً، آه يا لمى.. الموت غول يعرف أي جسد لذيذ، والموت يكره الباحثين عنه، اختارك ومضى يبحث عن شاكلاتك.
***
أعيد أوراقها، أعيد حسابات ذهني، ألملم كل دقائقها، وأبحر صوب عوالمنا، دائماً اكتشف أشياء جديدة. لمى.. ولوده يا عالم! كانت تزرع الفرح أمام البشر اليائس، تعالوا إلى جسر الجمهورية. تعالوا لتشمّوا عطر براءتها، تعالوا.. تعالوا.. على كل شبر هناك بستان فرح، أقف.. تغمرني أمواج نورانية تنقلني إلى ساعات الفرح، في كل رسالة من رسائلها، ضحكة وحلم في أوج النمو، آه يا لمى.. دائماً تحضرني ’’قفشاتك‘‘، أقرأ رسالة أو أقف على الجسر، مركبات تزمّر وربما تستهزئ، أو أنهم لا يعرفون ماذا حصل؟ أحاورك وأحياناً أكتشف أنني أرقص، سيقولون مجنوناً آخر يضاف إلى قائمة بلهاء بلدنا، آه.. لو يدركون أين أنا؟ ومع من أقف، انغمر في نورك المشرق من وراء السحب، آه يا لمى.. ماتت الدنيا بموتك، آه.. لو كنت أعلم أنها كانت استهلالات لرحيل دامٍ، لكنت أعددت حقائبي وشاركتك الرحلة. رسائلها سلوى وعذاب، تأخذني إلى المديات القصية، واكتشف أنني دائماً في قلب العدم، وكدت أن أصل إليك ذات ليلة مقمرة، لحظة غزاني فيضك، مشيت ووصلت، لكن أحد الزملاء ناداني وسرقني منك، نفس الزميل الذي حجر الموت من أجلك، كان يراقبني ورصد قلقي، في منتصف حقل الألغام، باغتني، أضاف لغزاً آخر لحياتي، لمَا لم أضغط لغماً وأنا اجتزت المئات منها، اختارت زميلي لحظة ناداني، هكذا هو الموت، يريد أصحاب الآمال العريضة، والأحلام البريئة، لقد رصده الموت، وأسترد اعتباره، وحرمني مرة أخرى من الوصول إليك.
***
ماتت لمى.. قبل أن أموت، كانت تخشى علي، ولم أكن أخشى عليها، كانت في بغداد.. المسوّرة بحصن الطيبة والعلم، وأنا المربوط وسط قنابل تمطر، وقنابل تنبثق من الأرض، كل ما حولي موت وكل ما حولها برد وسلام، لمى.. ماتت وأنا أبحث عن قبر يحتويني، لا مكان لي، هكذا وجدت الأمر، كانت هي الطريدة المأمولة، وتلك هي من مفارقات الحروب وعناوين بشاعتها، كانت لمى.. خلف خط الموت بعدد لا متناه من الكيلومترات، وكانت تواصل غزلها المبرمج كما اتفقنا، هي تدوس رصيف الجسر، وأنا أنحت عيني في الأفق، هي تغذي شجرة اللقاء وأنا أدون تحركات الشر القادم نحونا، كنا نتخاطر عبر الأثير، وكانت هي منتصف حلمها، فوق الجسر باغتها نور عنيف، وجدت نفسها تطير، أفواج من الناس ترافقها، ربما تخيلت لحظتها أنها في لحظة زفاف، كل شيء يحلق من حولها بمرح، كل شيء يتشظى إلى ملايين من الومضات، وكان الجسر يتناثر ويتلاشى، نوارس تتصادم، أسماك غادرت الماء وصارت تسبح من غير أجنحة، أشجار تطير، كل شيء صار يسبح مع لمى.. بركان ثار فوق الجسر، هكذا وصفوا المشهد، هياكل حديدية تكشر أنيابها ومخالبها، تطلق نهيقها للزمن المتحجر، تتلوى ساخرة في سماء ما عادت ترسل الشهب، زعيق اغتصب الصباح وتردد صداه، مات الجسر يا عالم.. ماتت الحياة يا عالم.. ماتت لمى.. ماتت لمى.. لمى.. لمى..ى..ى..ى..ى…
***


** حازت على المرتبة الأولى في مسابقة للقصة القصيرة أقيمت في محافظة ديالى في تشرين أول العام 2003 .

نبذه حول الكاتب

قاص و كاتب من العراق

تقييم النص

يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد ! كن أول المعلقين !

التعليقات

إدراج الإقتباسات...