خطى مجهولة تلاحقني

خطى مجهولة تلاحقني


خطى مجهولة تلاحقني

- نهض من فراشهِ فجأة .

انتصب واقفاً.. متيبساً.. صلداً..جامداً كتمثال أو عمود إنارة..!

بدا من شرود عينيه وتصلب ملامح وجهه المثقل بالحيرة.. بدا.. كمن يبحث عن شيء ما فقده للتو...!

احنى رأسه المُجهد الى الأسفل وقد تسمرت عيناه على الأرض وترقرقت الدموع في محجريهما. يبدو أنه كابوس مُزعج أفسد قيلولته الواهنة أو ربما هي حرارة الشمس المتسللة من النافذة...

مكث برهةً متسمراً بلا قرار!

أخيراً، تحرك ببطء صوب الحمام...مُزمعاً طرد ما علق بذهنه من كوابيس ليلته الطويلة المريرة..، تطلع في المرآة، مسد شاربيه، جاهد أن يبتسم لنفسه. أخفق..!

ارتدى ملابسه على عَجل..فكر" لأذهب للسوق..ليس إلا مائتي متر" استحسن الفكرة..شعر بشيء من الرضا. بتثاقل هبط سلم البناية وقد زايله الرضا في الحال، وحل على الفور حُزنٌ مريع. سكون يلتحف فضاء الشارع..صمت مطبق..لا ريح تحرك غصن شجرة..لا عشب لاريح تهب..حتى أتربة حافات الأرصفة خامدة بلا حراك.

- لامركبات ولا حافلات ولا مارة...؟" تساءل في سّره مُندهشاً "

هرول عابراً نحو الرصيف المقابل..تعرق وجهه..دمدمَ " ويقولون لاشمس تُشرق في سماءنا..ماهذه إذن "..أخرج حزمة المناديل الورقية..مسح وجهه..رقبته...!

- ها هي شمس تموز تلهب الوجه وتكاد تفجر الرأس وتميع العظام

كان يغدّ الخطى بهّمة وهو يلعن ويسب ويداه مشتركتان في الحديث الغاضب، وكأنه يحادث 

رفيق درب ما.

انعطف يميناً في طريق فرعي على جانبهِ الأيسر صفُ من الأشجار، وعلى يمينه ثمة بنايات متلاصقة خرج معظم ساكنيها يلتمسون نسائم رقيقة تنعش الصدر وتخفف غلواء الحرّ في المساكن .

مر بقرب ثلة من الشباب كانوا يتحلقون حول طاولة خشبية عتيقة استقرت عليها قناني المشروبات الغازية الباردة..يمزمزونها بتلذذ..بينما هم يثرثرون بأصوات عالية تتخللها الضحكات الفجّة النزقة واللعنات.

في ظل جدار عمارة مجاورة تمددَ هرٌ اسودٌ كبير الحجم كما الكلب..مسنِدا رأسه على قائمتيه الأماميتين بينما ذيله يراوح ذات اليمين وذات اليسار طارداً الذباب الذي يحوم حوله..، راودته ابتسامة..هتف قي سرّه وهو يطالع القط " هنيئاً لك القيلولة أيها الهرّ تعيش وتهنأ بلا قلق ولا همّ.." الى مسافة غير بعيدة من الهرّ الأسود يجلس عجوزان بلغ بهما العمر عتياً..كان رأسيهما متدليان على صدريهما. ظن الرجل أنهما نائمان..لكن..ما أنْ حاذاهما، أرتفعت الرؤوس عالياً وابتسما برقة أربكته..تباطأَ في سيره، شعر بتأنيب الضمير" مالي لم أرد على ابتسامتهما اللطيفة..اللعنة..ماذا دهاني؟"

في خضم حواره الذاتي المتواصل..الأفكار..الصور المتدفقة على شاشة الذهن. الأسئلة الملحة والتقريع الكريه..تنبه لوقع خُطى تتابعه..خُطى غريبة..لاهي آتية من الخلف ولا من البعيد..ركز أذنيه..أصاخ السمع..أحس أن الصوت يدنو...! التفت بسرعة الى الخلف..لا أحد..تابع المسير حتى بلغ سوق المدينة وإذ بالصوت يتجدد..أنفتح الباب الزجاجي أوتوماتيكياً..تجاوزالعتبة..توقف برهة..التفت..لا أحد خلفه.

تناول علباً عديدة ،أسقطها في عربة التسوق، كان ذهنه في عالم آخر بينما يداه تتناولان باضطراب أشياء كثيرة ليس كلها مما أعتاد الرجل شراءه، تساقطت بعض العلب من الرفوف فتلقفتها الأرض الملساء اللامعة..لم ينتبه الرجل لها ولا لأي شيء آخر.. فقط سحب عربته وتوجه لدفع النقود. وقف خلف الباب الزجاجي داخل السوق، ونظره مصوبٌ خارجه علهُ يرى ما يخفف من شروده وقلقه.

- ها هو المرأب..السيارات فيه كما هي، والزبائن كما اعتاد أن يراهم.

- لا شيء غريب في السوق ولا في أي مكان؟! " جاءه الصوت واهناً من جوفه " ليس إلا هُنيهة وإذ بالأقدام المجهولة تخطو خلفه...! " كم أود لو أطبق بكفّي على عنقه هذا اللعين المتربص بي “. توترت قبضتيه بحنق وصرخ بقوة وهو يلتفت بكامل جسمه الى الخلف:

- ماذا تريد مني أيها اللعين؟! من أنت؟ لماذا تلاحقني؟!

كان كيانه يرتجف بقوة وقلبه يدق بعنف وعيناه يغشاهما غبشٌ وذهول وقد جحظتا، بينما فغر فمه على اتساعه...! حدق ملياً، لا شيء..البتة..لا أحد..إلا إهتزاز وتمايل وتضارب أغصان الشجيرات الممتدة على طول الرصيف.

- يا إلهي..اللعنة..ماذا دهاني؟ أجُننت أنا؟

- ولكن كيف لي أن أكذِّب أذنيَّ؟ سمعي؟ 

غمرتهُ كآبةٌ ثقيلة..شعر بالدوار ..أوشكت ساقيه أن تستسلما لخدر مقيت.. إنهما بالكاد تقويان على حمله..الطريق الى البيت أضحى بلا نهاية..

تابع السير منهكاً..ها هما العجوزان كما هما..همّ بالتحية .. كانت شفتاه متيبستان وريقه جافٌ وبالكاد سمع صوت تحيته...! حين جاوزهما ..أدرك أنّهما نائمان حقاً إذ لم تندَّ منهما أدنى حركة...! بذات الآن كان الهرَّ الأسود الكريه يتمطى بين الأعشاب بينما هو يرقب الرجل بلا اكتراث. بأنفاس متعثرة وأصابع متعجلة دسَّ مفتاحه في الباب الزجاجي الكبير، تجاوزه وأرتقى الدرج بهمّة مفاجئة...! حين ولج باب شقته..تنفس الصعداء..ابتسم لنفسه بحبور.. " هنا..لا صوت يلاحقني "!

وأستغرق في الحال في نومٍ عميق.. جدُّ عميق على أقرب أريكة...!

تقييم النص

يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد ! كن أول المعلقين !

التعليقات

إدراج الإقتباسات...