إسترخاءٌ على مواقد الجَمْر / "كلماتٌ في الهَمِّ الثقافي"

إسترخاءٌ على مواقد الجَمْر / "كلماتٌ في الهَمِّ الثقافي"


إيضاح

هذهِ مجموعةٌ من مقالات محترقة في نار الأسئلة الثقافية... يُوحِّدُها هدف قراءاتي وتُفرّقها عنواناتي.

                                                                                                            ***

الى أين ؟ ...

انَّ اختلال التوازن يؤدي الى ظهور الدافع وزوال الفارق بين دواخلنا وخوارجنا استقرار شبيه بحالة الموت وهذا هو ما يحرك الفرد لينقله من ماضيه عبر حاضره الى مستقبله فأي أنواع الاختلال اصابنا وأي انواع الدوافع نتج فيها؟.. اننا في ضوء هذا الاستقرار نستطيع ان نفحص وظيفة اليوم وان نقرأ طالع الغد.. ان الخوف لا يكمن في اليوم بل يكمن في الغد لان الغائب هو المثير بحكم من احكام الجهل به والى اين نحن سائرون؟ وهل نحن سائرون ..؟ من الذي يمشي؟. انحن والقيم واقفة ام القيم ونحن واقفون؟ هل اتفقت اتجاهاتنا مع القيم ام اختلفت؟ هل نحنُ آليون.. ومكائن افرغت من محتواها. ام نحن فطريون..، غريزيون.. والعالم من حولنا يوقد النار في المواقد، اين اصبحنا مما اصبحوا وهل هم مصبحون ام العالم يلفه الظلام؟ "ان فحص اللحظة هو الأهم في قائمة النقاش والحساب". اين المثقّف؟؟ (على الحافة)؟ اين يمشي؟ من الذي يتغير؟ الشمس لاتزال تشرق، والقمر ينير الليل، والنجوم طوالع والريح هي الريح. ان اختلال التوازن حاصل في الانسان اذن لأن البيئة ثابتة وما زالت كما عهدنا. ما الذي يريده اليوم من المستقبل؟. بل ما الذي يريده المستقبل من ابن اليوم..؟، كنا قديماً نهيئ انفسنا للغد، كنا نقرأ الحاضر لنرسم له مستقبلاً، لكن.. صار علينا اليوم ان نفحص المستقبل لنهيء له اليوم بقياس لا تختلف فيه الابعاد والمقاسات، وصرنا نخاف ان.. نحترق؟.. ونحن نحترق شوقاً الى الغد. ان الأمس كان بطيئاً، واسرع منه هذا اليوم، لكن الأسرع من الاثنين هو الغد لا محالة. ان الزمن فينا يعاني من اختلال. فالساعات الأربع والعشرون ما عادت كما كانت في منظور الساعة الدقاقة في اعماقنا. الرياضة تغزونا في المكامن حد ان صار لها ممكناً ان تحطم صور الساعة التشريحية البايولوجية. العالم يتصاغر والدنيا تصبح قرية يضيق بها الانسان ذرعاً. كل هذا دالة من دالات الخوف، وأمام الخوف تحتدم العواصف ويضمحل العقل. هل العقل في محنة؟ اذا اصبح في محنة... فأنى يولي وجهه المفكر؟ وهل نبدأ من جديد؟ اذن .. هو الطوفان، اهذا هو المرجو من الحضارة.. يبدعها الانسان ليحرق بها اصبعه؟.. وما لهذا الفرد المعاصر يتلفت يمنة ويسرة ليرى القيم تنأى والأطر تتهاوى. وماله يبحث في امسه عن قشة نجاة من المستقبل المؤلم الضاغط على اعصابه ومكوناته.. انستدير الى الوراء عن الأمام؟.. انمشي على الرأس بدلاً من القدمين؟ ان رياح التغيير قد بدأت تهب على انسان الارض، هذا هو أمر محسوس صرنا ندركه بأكثر من وسيلة فما المطلوب منا؟ هل نقف لنستجيل الى اوراق في مهب الريح؟ ام نتسارع؟.. هل نتسارع وفي التسارع غياب العقل وثوابت القيمة؟ هل نقاوم التغيير وكيف التغيير؟؟ اظن ان المقاومة تتطلب منا ان نقاوم بالبصيرة لا بالبصر وبعشق لذة الألم لا يعشق ألم اللذة. انني الآن أسأل المثقف من بين كل هذه الجموع ( اين أنت يا صاحب الدراية) ؟، ( الم يحن الوقت لتمارس دورك)؟ انني ارى المنعطف خطيراً وقاسياً للغاية. وتلك امواج التغيير..، لن تقاومها الا الثقافة المضادة لسيئات التغيير، لقد احالت اوضاع العالم المتغير المثقف شخصاً هامشياً مسلوب الدور في توجيه العربة او مداعبة الحصان. لقد افثقدنا في التغيير الزمن المطلوب لتحقيق حالة التوافق مع الذات. التوافق يحتاج الى الزمن لكن الزمن اصبح استعراضياً لا يكفي للتأمل –سيد الأسباب في أحداث التوافق- في التوافق يكتسب الانسان الصداقة مع بيته ووطنه، وفي التوافق يؤقلم الانسان داخله مع الخارج حتى يصير الأخير رفيقاً انيساً له. لا وطنية بدون توافق مع المكان والناس واللغة والامال. ان مما أظهر التغيير جلياً هو اختلاف المال،.. لقد زاد الفارق الفردي بين الناس في المطالب. وبين هذا وذاك وقف المثقف خالي الوفاض لا يدري ما يقول لان التغيير سرعة والسرعة عاطفة والعاطفة مجافاة للعقل..

اننا اليوم نحتل اوسط القلادة، اعني به اليوم الذي يفصل الأمس عن الغد. لقد احترق اليوم في اوسط القلادة، واعني به اليوم الذي يفصل الأمس عن الغد. لقد احترق اليوم حتى كاد يصير لحظة تزول عنا قبل ان يرتد الينا الطرف.. ولا اضيع من مجتمع بلا غد فأي غد نريد؟ هل هو الغد المتسارع؟ انه ليس الذي نريدهُ انما هو الذي سيحصل، شئنا ام ابينا. 

ان للثقافة قيماً ولها من أجل ذلك اتجاه، فإلى اين نحن –المثقفين- متجهون؟ يبدو الآن ان "الشيء لجنسه" مقولة آذنة بالزوال فلم يعد الفن للفن ولا الشعر للشعر ولا الفكر عموماً للفكر. فأمام التغيير المكتسح للإقتصاد والمجتمع، اصبح للفن والشعر والفكر وظيفة خارجاً عن التخندق للجنس الثقافي. كيف نعالج المجتمع حين يبدأ بالترنح تحت مطارق اللذة المادية لنعالجه بدواء الداء نفسه؟ ان الناس خائفون من الموت في الغد وهذا هو الموت بعينه والمثقف هو المبصر الوحيد الذي يرى نفسه بين قضبان الموت المزعوم حياة، وأن خلف السحاب شمساً. امام هذه المناشدة، يبرز المثقف ليقول: انني غير ممنوح الفرصة. وحين يقول هذا نقول له: ان الفرصة مثل الحرية تؤخذ وتنتزع، لا تمنح وتعطى. في التغيير ينسى الناس الثوابت ويركضون خلف الإغراء والانغماس في الجديد. ولقد أصبح المكتشف يمر أمامنا شريطاً سينمائياً ولم يعد بإمكاننا ان نتأمل. ان تسارع العطاء الحضاري والتقنية سيعجلان بالسقوط لا بالارتفاع وبالخيبة لا بالانتصار، اضرب لذلك مثلاً: كنا نعيش في البيت الواحد سنين طوالاً نتملى مداخله ومخارجه، ونتعرف سقوفه وجدرانه، فيرتبط بنا ونرتبط به ويرحل عنا وعنه آباء ويتركون خلائف في البيت وصرنا نغيِّره مثل تغيير الثوب أو قميص النوم. فصرنا نسكن البيت شهوراً لنستبدله بآخر. لقد حرمنا هذا الممكن من لذة التوافق مع القديم، وسرى هذا الممكن على كل اجزاء حياتنا الأخرى حتى صرنا نستبدل الأصدقاء مثل استبدال علب السكائر؟ ورويداً فقدنا ذاكرة الاخاء القديم وهانت عندنا لذة العطش الى معارفنا القدامى. نخاف ان يسري هذا على معاييرنا الأخرى في الوطن واللغة والثقافة. الم نجرب حنيناً الى قراءة الكتب ذوات الورق الأسمر المصفر؟ ان هذا النوع هو من انواع الحنين.. بلغة أخرى انه نوع من انواع اعادة التوافق مع الذات الرافضة للتسارع. كيف نهندس المستقبل؟ من المسؤول عن هندسة المستقبل؟ المثقف ولا أحد غيره (السبب كبير) هو ان النبؤة سمة الخيال العلمي واستبيان طوالع الخيبة واحصاء معالم الخوف اجزاء من جسد الثقافة لا من جسد آخر، فهل يستطيع المثقف ذلك؟ ربما تعلل هذا المثقف بأسباب منها جهل الناس بدوره، وانحدار الوعي الاجتماعي العام وانشغال المجموع بلذة العيش المباشر، هذا لا يكفي لأن المثقف مدعو الى احداث التمفصل في الخطاب. ان الثقافة لا تعيش على الرفوف. ان مكانها الشارع العريض والساحة العامة.. هل ينتظر العالم من الجاهل ان يدعوه الى نصرته؟ ان غياب الابداع هو جزء من فشل مهمة المثقف. ان اختلاف اتجاه المثقف عن عنصر الزمن والإحساس بقيمته هو جزء من فشل مهمة المثقف. ان اختلاف اتجاه المثقف عن الاتجاه الاجتماعي المتوسط (المعدل) هو جزء من فشل مهمة المثقف. هنا يبرز سؤال: كيف يصلح المثقف من حالة التكالب على المغانم الحياتية وهو جائع؟ .. الجواب: يصلح المثقف الجائع من حال الانسان الآخر حين يوظف ثقافته لنقد الحالة التي اظهرت التفاوت. الم نقل بدءاً ان اختلال التوازن يؤدي الى ظهور الدافع، فالمثقف هنا استحال الى فرد مالك لدافع، واذا صارت ثقافته نوعاً من أنواع محتويات الدافع اختلف عن الآخرين في مضمون إنسانيته. فحين يجوع الفرد غير المثقف، يندفع لاختلال توازنه الى البحث عن الأكل، لكن المثقف حين يجوع يندفع بالثقافة التي تبحث عن سبب تفاوت الطبقات وظهور الانحياز فيصبح دافعه مختلفاً عن دافع الآخر، وأمام المثقف ان يفرق بين ثقافة تشتكي وتستعطف وتسترحم، وثقافة تشخص وتثقف شامخة ولا يهمها الموت من أجل القيمة التي ظهرت من اجل ان تكون. ان الانسان الجائع يغلق أبواب المنطق ومنافذ العقل رحمةً بنفسه أولاً وبغيره ثانياً لأنه مصلح اجتماعي اختاره القدر او اختار هو ان يكون قدره رفع اصبع الإشارة الى الخطأ. ان الناس في محنة التغيير تبحث عن القدوة التي تعرف كيف تقف في وجه التغيير فحين يتساقط الناس فرادى امامَ الإغراء وتنحسر القيم والمعايير التي تميز هوية المجتمع، يبدأ دور المثقف الواقف على قدميه في بوابة الريح الصرصر. هل يعد حديثنا هذا دعوة الى الخوف من المستقبل؟ انه دعوة الى الخوف من المزالق التي تنتظر الانسان، انه تأسيس للغد من الآن. ان الأمس لن يعود وان اليوم ومضة من بوارق الزوال باتجاه الغد، والذي نخاف منه ليس يومنا لأننا نعرفه، انما خوفنا هو من الذي نجهله. لنتفق من الآن على محاربة المستقبل الخاطئ فهناك وعيد بزوال قيم البشرية وهيمنة الآلة على المشاعر واحتمال دخول العواطف النبيلة في أنابيب التجريب والتقنين. اننا مدعوون الى أن نتغير لأن (الدينامية) ناموس من نواميس حياتنا لكننا مدعوون الى ان نتغير بدراية وبدون فقداننا لذة التوافق مع ما الفناه. لقد الفنا اوطاننا والفنا أصدقاءنا والفنا معتقداتنا، فحريًّ بنا ان نتمتع بهذه الألفة. اننا صرنا نخاف حقاً من الاغتراب الذي بدأ يحاور الداخل ونحن بين أهلينا وجغرافيتنا، ولنا ان نتصور حال المثقف وهو يئن تحت مطارق غربته لغة ووجداناً وعقلاً. لقد أصبح الزمن لعبة خطرةً في يد هواة التغيير المؤلم الذي يهاجم التوافق، وأصبح القابض على محتويات عقله وبصيرته قابضاً على جمر. وأخشى ما نخشاه في هذا التخويف ان نكون او قدنا الخوف في الناس حد الاندفاع اكثر من المطلوب باتجاه الانتحار خشية مواجهة الغد بالانتحار الفردي والجمعي حالةً ممكنة في عالم الخوف من الآتي ولكي لا ينتحر الانسان عليه ان يعرف كيف يعقلن خوفه ويخضعه للحساب والانضباط والعلمية. ان التطير الذي يحدثه التسارع في التغيير قد يكون كبيراً الى حد ان يموت في الانسان لكن التطير ينخفض في شدته وزمنه اذا اخضع للبصيرة ومواجهة الذات اولاً بأول: ان موت المثقف خائفاً اشد فجيعة من موت جيل بكامله، والمثقف بما يحمله من اقتران صحيح لمعطيات عقله وتداعيات وجدانه سيحارب هذا الموت ليس حباً لحياته انما لحياة غيره. مزيداً من التآلف مع المكان ومزيداً من التآلف مع النواميس ومزيداً من التوطن على النمط المألوف من الأكل ومزيداً من الوقفة امام الكتاب الواحد، خدمة للتوافق وحرباً ضروساً على فاتحة التغيير. ان التوافق الحاصل بين الذات والبيئة هو الإمعان في الرؤية والإمعان في عناصر الكشف والفحص عن الخفايا فإلى الآن ونحن نكتشف في القرآن اشياء لم نكن نعرفها لأننا حققنا حالة توافق بيننا وبين هذا الكتاب الكريم، وامام طوالع التغيير علينا ان نحقق حالة النسخ لا المسخ لكل مألوف طيب. ان السرعة في التغيير يشوّه الذات ويؤدي الى ازدرادنا الأكل الثقافي والحضاري والرعب. وخير لنا ان نتسارع من ان نسرع (لأن التسارع محسوب الخطوات اما السرعة فغياب لحالة الحساب). مرة أخرى لن يكون أمام الكشف عن مخاطر التغيير غير المدروس إلا في يد المثقف في كل عطاءاته الفكرية في العلوم والفنون والأدب.

 

تقييم النص

يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا

التعليقات

قيس لطيف

26-04-2021 04:02

استاذنا الشاعر والدكتور ريكان ابراهيم المحترم يطيب لي مشاركتك مقالك المهم ، وان اطرح رأيي المتواضع أفترض ان مقالك يتحدث عن واقعنا العربي والعراقي ربما بالتحديد اقول هناك أزمة هوية وأزمة انتماء وأزمة مواطنة فمفهوم الوطن بالمعنى الحقيقي لم يكن راسخاً ولا متجذراً في العقل الجمعي العام، وهذا أفضى الى بدائل مؤقته وطارئة مفسحاً بالمجال لمصلحة كل ما هو طائفي وعقائدي وقبلي ومناطقي . مما أمعن في تكريس الفئوية والتجزئة، وزاد في التناحر والتصارع والاشتباك وكل ذلك غيب مجموعة القيم والاخلاقيات والمفاهيم التي كانت تعكس مرحلة عاشتها مجتمعاتنا . وبالتالي هو نكوصاً الى الخلف عبر استحضار كل ما هو رجعي ومتخلف كبديل للوطن الجامع والدولة الحديثة ، ولمليء الفراغ بعد ان افرغت او افرغ مفهوم الدولة والوطن من محتواهما. السؤال: هل يمكن ان ترقى ثقافة روحية وثقافة مادية بظل سيادة فكر عقائدي او قبلي يتمتع بجبروت كامل وسيادة مطلقة ؟ وهل يمكن لنا ان نشهد نشوء فكر وثقافة حقيقية بظل واقع متهافت كالذي تعيشه مجتمعاتنا ؟ ثم اين نحن الآن من حركة الثقافة العالمية ، ونحن نعيش في حالة من الانعزال والفوضى الفكرية والمعرفية وسيادة الابتذال والسطحية في ما يسمى ( أبداع ) !؟ يقال ، لاحضارة بلا ابداع مادي، أي انتاج الخيرات وتوفيرها للناس عبر تحقيق ما يسمى بالرفاهية الاجتماعية الى جانب العدالة، في محيط يحكمه العبث وضياع البوصلة . ان مجتمعاتنا ( الأنظمة ) امست طاردة لاي جهد فكري حقيقي ومميز ، وطاردة لكل طاقة علمية يمكن لها اذا ما توفرت لها الظروف المناسبة والمكان المناسب ، أن تنتج وتساعد في نهوض المجتمع. من هنا اقول : ان نمط تفكير المجتمع ومؤسساته وقوانينه ودينه وفنونه واخلاقه وعلومه الخ يصيبها التغيير الشديد وتعاني من التراجع والتقهقر والفوضى والاهمال والعربدة .. متى ما كانت البنية الاقتصادية والاجتماعية في حالة من التدهور والانهيار والتبعية المطلقة . والفت النظر الى ان الظروف الروحية ماهي إلا انعكاس لتلك البنية المختلة والمشوهة ، فالشروط المادية كما اسلفت هي التي تحدد جذرياً نمط تفكيرنا .. وهنا لا أقصد ربطاً ( ميكانيكياً ) بين نمط التفكير وتلك البنية الاقتصادية الاجتماعية ) ، انما هناك تفاعلاً وتأثيراً بين الطرفين. ومن المعلوم ان التراكمات الكمية تقود الى تغيرات نوعية في نهاية المطاف ، ولا يمكن لهذه الاوضاع ان تبقى هكذا على حالها دون ان يدفع بها التغيير الى خلق انماط جديدة من الافكار السياسية والثقافية والمعرفية . ولن تكون هذه التغيرات ( أرادية أو فردية أو تختص بفئة ما ) انما هي حركة مجتمع . عذراً جناب الدكتور على الاطالة دمت بخير وصحة الشاعر ريكان ابراهيم قيس لطيف

التعليقات

إدراج الإقتباسات...