العازف والجنرال

العازف والجنرال


وقف أمام الصورة، تغيّر الكثير في داخل المكان ولن يتغيّر موقع تلك الصورة، هو واقف أمامها مثل كاهن في معبد.

بدا هو مثل تكوين مخالف في وسط أُسرة متنافرة منذ فتح عينيه على الحقيقة، ولماذا يا ترى على الكهول مثله أن يسترجعوا الذكريات المؤلمة وهم في تلك الحقبة من الخوف وحيث الموت قد يطرق الباب في أية لحظة.

شعر يوماً ما أنّه مثل كائن روبوتي وسط تركيبة غريبة من البشر المتناقضين، وكل منهم مارس عدوانيته وصولا إلى الإحساس الضمني بالاحتقار.

لم يكن ذلك أمراً مشينا في عُرف التربية المستقيمة للعائلة ولا يُعدّ إذلالا، بل تدريباً على الانحطاط المفضي إلى رجولة حاقدة على كثير من الأشياء والأشخاص.

حقدٌ ضروري هو بمثابة نوع من التمرّد الرجولي الخالص.

تحت ظلّ ذلك التراكم كان عليه أن يؤدي أدواراً متعدّدة، متمرّد بذكورية عارمة مع شعور بخذلان عائلي في وسط أُسرة وذرية ورعاية أولاد.

تعصف في رأسه كل تلك الصور فيما هو يفتح عينيه الواحدة بعد الأخرى لكي ترتشف كل منهما قطرة دواء مصحوبة بحرقة مزعجة.

سقطت سماعة أُذُن الرجل الكهل نصف الأصمّ لكنه سرعان ما تلقفها لتنسكب قطرة العين ثم يسقط فنجان القهوة ويتواصل سقوط الأشياء من بين يديه مع تساقط رغبته في أي شيء سوى أن تمر أيام الأسر التي يعيشها وحيداً في ذلك المنزل بسلام.

في ومضة عين، عادت صورة أحد أفراد الذرية.

إنه شاب يصنع الضجيج دون انقطاع منذ كان طفلاً يحبو، ولهذا تساءل الكهل عندما كان في فورة شبابه، هل ثمّ معنى للإنجاب والذرية في كل الحالات؟

ها هو صانع الضجيج يوم كان طفلاً رضيعاً منغمس الصراخ ثم وهو يتبرّز على نفسه، ويجب شطفه مراراً ثم حتى بعد غسله وتعطيره يبقى محتفظاً برائحة غير مألوفة هناك عند رقبته أو خلف رأسه فلا يمكن ساعتها التخلص لا من الضجيج الذي يصنعه ولا من رائحته الخاصة.

الضجيج ما لبث أن تطور بعد سنين إلى موسيقى هارد روك، لكنه ضجيج عدّهُ ابنه الموسيقي الشاب نوعاً من التمرد وأراه صور الرولينغ ستونز وأسمعه عزفهم وغناءهم وعرّفه بسيرة كلّ منهم كما لم تفارقه أغنية " تلك هي عظمة أميركا".

اقترب من صورة مايك جاغر، بدا في وسامته وذروة شبابه شبيهاً به إلى حد ما، لم يكن الابن مكترثاً للشبه بين أبيه وجاغر بقدر انشغاله بالمضي في تتبّع تلك الغيمة الموسيقية المقيمة في رأسه.

سمع الكهل تلك الموسيقى، الصوت العنيف والمتمرد ومن ثم صورة الشاب الذي كان طفلا ذا ضجيج ورائحة مميزة، الإبن المتمرد الذي اطلق شعره طويلاً وهو يعزف على آلة سكسفون أو الكيتار الكهربائي.

كان ذلك هو الطير المهاجر الذي صار أميركيّا بالتجنس، الابن المتمرد على العائلة وعليّ أنا، أبوه أن اقبله كما هو، أليس ذلك هو قانون التمرد في العائلة بناءاً على تلك الصورة التي تحولت إلى دستور أزلي لذلك الشتات العائلي.

ترك كلية القانون وذهب لكلية الفنون، ترك دراسة تاريخ الفن والتلفزة واتجه للموسيقى ثم عشق الروك ان رول ومن هنا بدأ ضجيج التمرد الذي لا يكاد ينتهي.

دمعة على ذلك الخد المتغضن، ومن ثم ترتجف الكف التي تحمل فنجان القهوة، يغمض عينيه فتلوح صور الولد، ها هو يركض بين أثاث المنزل ومن غرفة إلى أخرى مرتديا البدلة العسكرية نفسها التي في الصورة والأب يركض وراءه وهما يواصلان الضحك، مستعمرة الضحك والسخرية، إبن الجنرال عازف مجنون لموسيقى تبعث على الجنون ونسخة عربية من رولينغ ستونز وذلك قمة أهداف ذلك الرولينغ الشاب.

مرّات عدة شعر أن العالم قد أصبح صغيرا أو يجب أن يكون كذلك، فكثرة الضجيج في الخارج تكمل ما في رأسه من ضجيج التساؤلات لا سيما مع احتمالات موت متأخر قد يدهمه في أية لحظة حتى أنه رسم صورته ميتا بيد راجفة وتم نعى نفسه والعزف له بموسيقى جنائزية.

الخارج الآن مختلف كليا عن ذلك العالم الذي تركه وهي فكرة ظلت تدور في رأسه وهو يتأمل صورة العازف المتمرد، عالم يتمدّد ويتسع باتساع الإحساس بالموسيقى وهي تتدفق بشكل فوضوي عارم.

حضر الجنرال المتمرد بكامل عدّته ونياشينه، كل "حرب تشرين – أكتوبر" وأنتم بخير.

أضاف للجدار المتحفي قطعة سلاح أخرى حتى اكتظ الجدار بالأسلحة من مخلفات الحروب أو تلك التي اقتناها أو التي أوصى عليها فتم طلاؤها من بنادق أثرية.

هل يضيء شمعة، من أجل أصدقائه الذين قضوا في تلك الحرب؟

تمدّد على أرض رخوة في منزل مهجور وأحاط نفسه بالشموع وناجى أولئك الموتى المثخنة أجسادهم بالرصاص والشظايا فيما كانت موسيقى الروك ان رول تتدفق من الجانب الآخر وكأنه يوم العزف الأخير وبعدها سينتهي كلّ شيء.

يغمض عينيه عن الشموع، ما زال ممدداً على الأرض الرخوة، ساحة المعركة وقد انفجر الّلغم ضد الدبابات والمدرعات وأصمّ له أذنيه وانطلق صريرٌ هائل مصحوباً بالروك ان رول وبالحروب المتتابعة والنزوح والثكنات وسحب أجساد الجرحى في وسط القصف.

يمرّ الذعر، ذلك الشريط المرتجف لشكل الصراع فيما هو أصم، تركت له الحرب سماعاتها الخاصة إذا ما اشتاق لأناشيدها ووقع مسيرات الجنود.

فجأة وهو على تلك الأرض الرخوة مصاباً بصمم الحرب يحتضن دمية هشة ومتهالكة في شكل جندي يلفظ أنفاسه الأخيرة، يشعر بنبضه، يتهاوى وينحدر فيما يتدفق إحساس هو خليط من القرف والحزن والسأم من الحرب ما زال يشعّ من العينين الصغيرتين، يتحيّر إلى أين يذهب به عسى أن يتمكن من إنقاذ ما يمكن إنقاذه، يغيب الجسد الذي بين يديه كما يغيب هو ليسرح مغنيو الروك ان رول من حوله كما يفعل ابنه المهاجر تماماً.

عاد هزيلاً أصمّاً من ساحة الحرب وتقلد أوسمة البطولة تباعاً حتى اكتظ صدره بها لكنه لم يكن يسمع هتافات الجموع المكتظة التي راحت ترحب بعودة الجنود من الحرب.

دخل غرفة الزوجية وهو يافع متمرّد محمّل بالنياشين التي تلامعت على صدره فيما نصفه الأسفل عارٍ وامرأته لا تفعل شيئا سوى أن تصنع أصواتا موسيقية عبثية من تلاقح النياشين واصطكاكها ببعضها.

بدا عاجزاً تماماً عن اللحاق بالأنوثة الملقاة على عاتقه والمرتمية في ساحة حربهِ، حتى عوى مثل ذئب جريح يلعق ذئبته لكن لا هو قادر أن يُسكت عواءها الصامت ولا هي تجد لعوائهِ معنىً فقد ضاع ما كان.

كبر الولد سريعا، تمرّدَ على فكرة الحرب ولم يلتحق بالجيش واكتفى بصنع أناشيد للجنود العائدين.

قطع صور الجنود والآليات المجنزرة وصراخ الجنود والزحف المتواصل والحفر وقصف الطائرات وعصف الريح.

ها هو يقلّب صورا مشوشة أخرى، صور كتائب ورماة، لم يعد يتبين بالضبط كيف تم زجّه هناك وإلى أين كان يسير سوى أنه كان لابد أن يمضي في رحلته الى النهاية دونما تردد ولا وجل ولا التفات إلى الخلف ولهذا ظل ذلك الحوار الصامت.

صوته الثاني الذي في قرارة نفسه الذي طالما أعاده الى الماضي، ظل حواراً صامتاً فحسب لم يدفعه إلى التراجع عن تلك الأمنيات الصغيرة التي تمنّاها ولا أولئك الأصحاب الذين تقاسم معهم أيام حياته سواء في سلم أو في حرب.

هكذا تتبادل الناس الأدوار في هذا العالم الأجرب التعيس الذي في كل يوم يرسل له إشعاراً باقتراب الموت.

الأغرب أنه لم يخَف يوماً من هاجس الموت لكن أعيته الطريقة من قبيل أن يأتيه أحد فيجرّ لسانه أو يحفر في أذنه وصولاً لعمل ثقبٍ في دماغه أو أن يقتطع بعض أصابعه أو أن يسقيه البترول بوصفه شرابٌ من حميم.

هكذا ببساطة، استطاع الجنرال بنياشينه وأحزانه الرثّة أن يصنع له فلسفةً، وأن الطَرَش الذي أصابه لن يزيله سوى ضجيج الروك ان رول والتماهي مع مايك جاغر وتيار من ضجيج الرولينغ ستونز.

بعد كل تلك الاعوام التي لا يدرك مداها فهي محتشدة وقاتمة منذ ان عاد من ساحات الوغى، دخل المنزل لأول مرة وحيداً واكتشف أن ابنه شذّ عن القاعدة الوطنية بالتمرّد على آلة العود والانتماء للكيتار الالكتروني وأرسل شعره وأنطمست ذكورته.

لاح الفجر بزرقة موت جديدة ستطبق على أنفاسه لكنه عاد ومعه دبابة، ها هي تمرق مزمجرة من أمام داره، ليس ذلك حلماً أو كابوساً أو أنه استرجاع لسنوات الجمر، لكن المشهد كان ملوّنا وليس دبابة بالأبيض والأسود كما كانت إبّان حرب تشرين أكتوبر، دبابة ضخمة، وكلام جنود بلغة إنكليزية بلكنة أميركية تتكرّر فيها لازمةF**K.

بقي يلوب غير مدركٍ لحقيقة هذه القصة الغريبة، اقترب من الصندوق الأسود ، أزاح الستار، ضغط على مفتاح التلفاز، دبابة ضخمة تعبر جسر الجمهورية ببغداد في ذلك اليوم من شهر نيسان ابريل 2003.

ظل يحملق في الصورة، كانت هنالك أصداء الصراخ، جنود أمريكان جاؤوا من إحدى المجرات وحطّوا أمام بيته وهو يتصارخون F**K .

انسحب واهن القوى إلى الكرسي المجاور.

ألقى بكلّ ثقله، ولم يقو على فتح عينيه، تصاعدت أنفاسه، وتسارعت ضربات قلبه وانطلق عزف الروك ان رول ممزوجا بالدفوف وحضر ماك داغر ورهطه وداروا من حوله وهو يغرق بالعرق، مع وقع اغنية ابنه صانع الضجيج " تلك هي عظمة الأمة الأميركية".

ينفتح الباب وتلوح بساطيل الجنود ، فيما هو يعود اليهم متوجا بالنياشين ومن خلفه ضجيج الروك ان رول، يقفون في وضع التأهب أمام جدار السلاح، ويطرحون الجنرال الاصم أرضا، يستجوبونه فلا يسمع، يصرخون في وجهه المحتقن، يصوبون سلاحاً إلى رأسه.

أنفاسه تتشتت وتضيع تحت ثقل حذاء الجندي الاميركي الذي يدوس بقوة على ظهره، دبابات الحرب تمرّ سريعا، ويشاهد من جديد استقبال الجماهير للمقاتلين العائدين من الحرب بنياشينهم وعلامات النصر.

الضابط الاشقر يمرغ وجه الجنرال، لا يكاد الجنرال يفتح عينيه، تلوح ألسنة لهب، حيث أقيم حفل باربكيو لإحراق أسلحة الجنرال عندما كانت روحه تحترق ويلوّح بيدٍ مرتجفة للجماهير المحتشدة ثم يحلّ الظلام.

تقييم النص

يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد ! كن أول المعلقين !

التعليقات

إدراج الإقتباسات...