تعثر اللغة في «دفاتر الوراق» للأردني جلال برجس

تعثر اللغة في «دفاتر الوراق» للأردني جلال برجس


مع أن دفاتر الوراق فازت بالبوكر عام 2021 إلا أن عددا من الكتاب أشاروا لما فيها من تكلف في الأداء اللغوي سواء في السرد أو في الحوار أو في المشاهد التي يتخللها بعض الوصف، وممن لفتوا النظر لهذا الروائي شاكر الأنباري – من العراق- والقاص محمود الرحبي من عُمان.
هذا التكلف والتصنع قد لا يكون مضرا في الشعر، أو في المقالات والخواطر، أو حتى في القصة القصيرة، بيد أن الرواية بحكم كونها خطابا يستهدف عامة القراء لا النخبة، وبحكم كونها تروي حكاية يفترض أن تسعى لتسلية القارئ بمحكيات مشوقة، فإن التصنع في اللغة، واللجوء إلى التشبيهات، وما شاكل ذلك وشابهه من محسنات، يعد من باب الترف اللغوي، الذي يرفع الحواجز بين الكاتب والقارئ. ففي «دفاتر الوراق» يقول الكاتب على لسان الراوي: تهاويتُ على الصوفة مثل جهاز كهربائي نفدت طاقته، فهذا تشبيه مفتعل، وغير موفق، أساسا، كون الجهاز إذا نفدت طاقته لا يتهاوى، وإنما يتوقف عن العمل وحسب. وكان حريا بالراوي أن يقول تهاويت على الصوفة كشخص أعياه التعب. ويقول في موقع آخر عن اختلاف مكانين «كأنهما مكانين ألصقا عنوة ببعضهما» فهذا التشبيه كأنهما.. إلخ.. لم يضف لما سبق شيئا فهما على أي حال مختلفان كل الاختلاف، فلا يقال كأنهما ألصقا عنوة، فهذه زيادة وتشبيه علاوة على ما فيه من الافتعال فيه خطأ، إذ كان ينبغي أن يقال كأنهما مكانان، وإلا غضب منا شيخ النحاة. ومن تشبيهاته الغريبة المفتعلة قوله: «ليل يؤدي إلى فرح طازج يعانق قلبي بسخاء الفرسان العائدين من معركة رابحة» و»يركل بقدمه ثعلب الموت، ويتبعها باحثا عنها بنهم أعمى رأى الضوء» فمثل هذه التشبيهات يعجز عن اختراعها بديع الزمان الهمذاني، وهو من هو في التصنّع، والتكلف الذي لا ينمّ عن معنى. ومن تشبيهاته المضحكة التي تثير السخرية تشبيهه البحر بأذُن كونية تصغي لأسرار ناردا الدفينة. كأن الكون، إذا صحّ التشبيه، لا همَّ لديه سوى أسرار ناردا الدفينة وغير الدفينة.
ويقول في تشبيه آخر مفتعل عن أثر الكابوس الذي رآه الراوي في منامه «ما زال بي كشوكٍ علِقَ بملابس شخص أخطأ طريقه، فمرَّ من حقل عشبُه يابسٌ» هذا تشبيه، علاوة على أنه مُضحك، نسي الراوي المتحدّث أنه ذكر الشوك، ثم عدل عنه إلى العشب، وثمة فرق بين الشوك والعشب اليابس. ويقول الراوي نفسه قبل أن يغادر الفندق متجها نحو البحر لينتحِرَ «نظرت في المرآة، وأنا أغادر، وإذا لي وجهاً يخلو من بلاهة سئمتها» فعلاوة على الخطأ في وجهاً إذ الصواب وجهٌ، فإن الشبه بين البلاهة، والحال التي يوشك أن يفارقها بانتحاره، تشبيه غير مفيد، ولا يزيد العبارة وضوحا، فالكاتبُ والشاعر يستخدمان التشبيه لتوضيح ما يُظن أنه غيْر واضح، ولا يحتاج وضعُ الوراق ما يوضحه في تشبيه كهذا التشبيه، إذ زاده لبساً على لبس، وغموضاً على غموض. ومن تشبيهاته الطريفة المضحكة واستعاراته البعيدة قوله على لسان أحد الشخوص «كيف يأتي رغيف الفرح مقضوماً بهذا الشكل» فرغيف الفرح استعارة تذكرنا بقول الشاعر «بحّ صوتُ المالِ مما.. منك يشكو ويصيح» وهو بيت ضُربَ مثلا على رداءة الاستعارة، وسماجة التشبيه.
أما الغرابة فيشبِّهُها المؤلف على لسان الوراق ببرادة الحديد التي تتجمَّع، وتلتصق به، كما لو أنها تلتصق بقطبي مغناطيس، وهذا يذكرنا بقول الشاعر في تشبيه ينم على ذوق سقيم:
كأنَّ فؤادي إبـرةٌ قـدْ تمغنطتْ
بحبكِ أنى تنتحي عنه يذهبُ
وفي موقع آخر يقول الكاتبُ عن العتمة ما يأتي: «كأنَّ العتمة في سجن قصيّ، وجاءت بها سفينة الليل تفرغ حمولتها البغيضة» فمثلُ هذا لو جاءَ في شعر الشعراء القدماء لكان مقبولا، أو شبه مقبول، مع أنه أدعى للشعور بالتكلف، لكنه في الرواية دليلٌ ساطع على أن الشاعر حين يتحول لكتابة الرواية، لا يستطيع التخلي عن اللغة الشعرية، فيكتبُ الرواية بإحساس الشاعر، لا الروائي. وهذا شيءٌ ينسحب على كثير من الشعراء المتحوّلين، المتجوّلين بين فنون الأدب، بحثا عن الجوائز، فإن لم ينفع هذا، قد ينفع ذاك. ومن تشبيهاته المستهجنة قوله «نسيت نفسي كقميص معلق على حبل غسيل أمام امرأة تستعيد ذكرى ليلة جميلة» فأي شبه بين إبراهيم الوراق والقميص المعلق؟ ولم تنظر هذه المرأة في القميص مسترجعة ذكريات الليلة الجميلة تلك. تشبيه أقلّ ما يقال فيه إنه تشبيه سقيم. لا ينم عن ذوق رفيع، ولا حتى عادي. وفي آخر أكثر سقما من سابقه يقول في وصف أبناء الملجأ وبناته: كأنهم بُراز عصفور سقط على كتف سيد يرتدي بذلة فاخرة وراح يمسَحُها بعجالةٍ وقرف». فلو أن هذا السيد لا يرتدي بذلة فاخرة فهل يحتفظ بالبراز ولا يمسحه، غريب أمر هذا الكاتب. ويبدو لنا أنَّ المؤلف لا يفرّق بين التأكيد، والنفي، إذ لو كان يفرق بينهما لما جمع بين إنّ المؤكدة، وما النافية، يقول على لسان الراوية (ناردا) تصفُ أمها طيّبة القلب «امرأة مطيعة، وهادئة، حتى إنَّ ما من أحد سمع لها ذاتَ يوم صوتا غاضباً» وهذه العبارة كقول أحدهم ينفي وجود أحد في البيت: إنَّ لا أحد في البيت. وكانَ الأولى بالمؤلف أن يسبك هذه الجملة على لسان ناردا في دفترها بقوله «إن أحداً لم يسمع لها في يوم من الأيام صوتا غاضبا» أو «ما من أحدٍ سمع لها في يوم من الأيام صوتا غاضِبا».

ويقول الكاتب رافعًا نعتَ المنصوب: «وفي تلك الأيام تداول مستخدمو فيسبوك تسجيلا صوتيا للفتاة نفسها، تتوسل شقيقها قبل أنْ يرديها قتيلة، تسجيلا مرعبٌ» والصحيح أنْ يقال مرعبا، إلا إذا كان الرفع – ها هنا – من باب الانزياح النعتي على رأي أحد المعجبين بـ»دفاتر الوراق». ويبدو أنَّ معرفة الكاتب بالعربية كغيره من الروائيين (سُكَّر وسط) بدليل استعماله كلمة (سويا) ها هنا بمعنى معاً. يقول على لسان سائق متحرّش بليلى «سأوصلك أينما تريدين، ثم أنتظركِ لنخرجَ سوياً» ومع أن الكلام يصدر عن سائق تاكسي إلا أن التقعّر فرض على الكاتب استخدام كلمة سويا بدلا من معاً، مع أن (سويا) ليست بهذا المعنى، وقد جاء في القرآن الكريم قوله تعإلى: (آيتك ألا تكلم الناس ثلاثَ ليالٍ سويا، مريم الآية: 10) وقد قال المفسرون، وعلماء اللغة، وحتى غير المتخصصين: إن سويا معناها من غير أن تكون مصابا بعلة تمنعك من الكلام، أيْ وأنت بكامل صحتك. وقد شاع خطأ بين العامة الذين لا يكتبون الرواية، ولا صلة لهم بالأدب، نثره وشعره، أن كلمة سويا معناها معاً. وهذا ما جاءَ في عنوان فيلم أجنبي (دعنا نرقصُ سويا) وهو ترجمة للعنوان الأصلي Let’s Dance to Gather.
ولا يُستغرب أن يقع كتّاُب الرواية في أخطاء كهذه، فمعظمهم بعيدون عن العربية بعدا كبيرا. فمما يقوله، مثبتا بعده عن العربية، على لسان ناردا التي تكتب في مذكراتها، أو في دفترها الذي وقع بين يدي الوراق، على عادة الشخوص في هذا الكتاب: «ها أنا الآن وجها لوجه أمام سكاكين العراء الحادَّة، لست حزينا، لست خائفا، لكني أحتاجكَ جدا» فهل نسي المؤلف أن هذا الكلام منقول من دفتر سيِّدة أنثى، ومن الضروريّ التفريق- بسبب ذلك – بين حزينة وحزينا، وبين خائفة وخائفا، إلا إذا كانت الفروق بين الأنثى وغير الأنثى قد تلاشتْ لدى ناردا، وأصبحت من الجنس الثالث. ومن جملة ما وقع فيه المؤلف من الأخطاء في النحو قوله «لم نكن نتوقع ونحن صغارا أنها هكذا» فالصحيح ونحن صغارٌ.
وربَّ قائلٍ يقول: ألا ترى أنكَ تبالغُ في التقليل من جودة هذه الرواية، مع أنها فازت بجائزة البوكر، وَكَتب عنها كثيرون ممن استحوذَتْ على إعجابهم، بل أثارتْ لدى بعضهم الإحساس بالدهشة؟ ردا على ذلك نقول: نعم، إنّ الرواية فازت بالجائزة، لكننا لا نعدّ الفوز بها معيارا موضوعيا يؤكّد الجودة، مثلما لا يُعدُّ عدم الفوز بها معيارا ينفى عنها أو عن غيرها تلك الجودة، فقد علمتنا التجارب أنّ الروايات التي تفوز بالجوائز غالبا هي الروايات السيئة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى نعلم أنّ عددا من الكتاب، والمسْتكتَبينَ، أفاضوا في تقريظها، والثناء عليها ثناءً عَطِرا، ومن هؤلاء؛ محمد عبد الرحيم، ورفعت يونس، وعائشة سلطان، وبروين حبيب، ومحمد عبيد الله، ورمضان رواشدة، وعبد الرحيم التدلاوي، وعماد الضمور، ومجدي دعيبس، وأحمد زهير رحاحلة، وطارق بو حالة، ومجيب الرحمن، ويوسف أبو لوز، وبديعة زيدان، وغيرهم. ولا ريب في أنّ المجاملات هي التي تدفع بهؤلاء للإشادة بما لا يستحق الإشادة، وتقريظ ما ليس خليقا بالتقريظ. وهذه هي المثالبُ التي أشرنا إلى شيءٍ قليل منها، ونبّهنا إلى بعضها لا عليها كلها، وهي غيضٌ من فيض، فمنْ كان لديه ما يفنّد به رأينا فليُدْلِ بدلوه، وليقلْ بقوله، ولذلك نكرّر رأينا في أنَّ «دفاتر الوراق»٭٭ يغلب عليها المتخيَّل العشوائي، والتلفيق، واعتماد المصادفات، وفساد الحبكة، وآلية الشخوص، واضطراب العلاقات بين المرْويّات، والإفراط في الاعتماد على رواياتٍ أخرى أفسدَتِ النسَق، علاوة على اللغة المفتعلة في السَرْد، والحوار، واعتماد الكاتب على فكرةٍ مستعارة من رواية أخرى هي رواية «أبناءُ الريح». لذا نعتقد، في غير قليل من الجزْم، ألا قيمة ـ علمياً ـ لما قيل فيها من تقْريظ، وما نُشر عنها من مقالاتٍ تغضُّ النظر عما فيها من هناتٍ ومن ثَغَرات، فهي من زبَد المقالاتِ الذي يفْنى، لا مما ينفع الناس فيمكثُ في الأرض.

نبذه حول الكاتب

كاتب و ناقد من الأردن

تقييم النص

يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا

التعليقات

Yousef Hijazi

30-08-2021 08:09

 نص رائع جدا

التعليقات

إدراج الإقتباسات...