تلك الليلة

تلك الليلة


بنايةٌ بالغةٌ القِدم، بواجهة بهت لونها وكلحَ وجهها من آثار الرطوبة والمطر وتقادم العمر، أمّا مدخلها فمُعتم على الدوام، وموقعها منزوٍ بعيداً عن بقية العمران مثل موبوءة حُكِمَ عليها بالعزل بعيداً عن الأصحاء.

بالمجملِ ...البناية مُهملةٌ ليس من قاطنيها فحسب، بل ومن مالكيها ذواتهم، وكأنّها بيت اشباح يُحاذر المرء التلفظ باسمه أو التحدث بشأنه مخافة استثارة غضب القديسين أو الأرواح.

في تلك البناية يقطن رجلٌ أعزب، يبدو أنَّ سيكولوجية المكان انعكست في روحه وسلوكه، فهو مُعتكف مُعتزل مُتوحد لا علاقات لديه ولا اهتمامات اجتماعية، وبالكاد يُرى أو يتواصل مع الغرباء جيرانه، بل هو يخافهم في سرّه ويتحاشى اللقاء بأي منهم...!

أثاثُ شقتهِ متواضعٌ للغاية، عبارة عن سرير في غرفة جانبية دائمة الظلمة لا نوافذ لها او باب، وعادةً لا تطأ قدماه هذه الغرفة إلا حين يغزوه النعاس.. وفي الغرفة المجاورة التي تسمى مجازاً (صالة) حيث لا مبرر لمثل هذه التسمية فليس فيها اكثر من أريكةٍ وحيدة بلهاء تستقر في مكانها منذ دهر، لم يطأ فراشها غير الوثير احد، ولا هو ذاته، أمّا خزانةُ الملابس فبيضاء اللون ما عاد من بياضها أثر، إذ أمست اقرب للسواد بفعل الغبار والزمن الطويل وتهدل بابها الوحيد إذ انخلعت واحدة من ماسكاته المعدنية وتُرك لشأنه، أما الكرسي المعدني الوحيد فقد تربع في ركن داسّاً ساقية تحت طاولة صغيرة عتيقة مُزينة ببقعٍ من بقايا شاي مُندلق وجمرات سجائر منفلته وقطرات حبر. الطاولة وكرسيها الهزيل يحاذيان نافذةً مُطلّة على الباحة الخلفية للمنزل العتيد بشجرتها الوحيدة السامقة الكثيفة الأغصان.

هُنا حيثما يحلو لصاحبنا الجلوس طوال الليل وبعض النهار وعيناه ترمقان السماء والأفق بقدر ضئيل من الاهتمام.

تلك الليلة، تساقط ثلجٌ كثيف رافقته ريحٌ عاصفةٌ مزمجره وبرد يخترق اللحم ويبلغ العظم ويبعث على الخدر في الأطراف.

 نهض من مكانه متوجها صوب خزانة الملابس المائلة، فتح الباب المُعاق فصفعه هذا بوجهه.. امسك جبهته المصابة وسحب الباب بقوة فأنخلع ودفعه بعيداً عنه، والتقط معطفه المكوَّم على أرضيتها، ثم تناول شاله وتلفع به وعاد لمجلسه عند الطاولة وهو يأنُّ من الم الضربة. 

التقط قنينة النبيذ آملاً أن يبعث الدفء في جسده المرتجف، كانت فارغة.. دفعها بظاهر كفّه وتناول بقية ما في الكأس من ثمالة، أشعل سيجارة بينما كانت الأخرى لما تزل راقدةً على المنفضة وقد أطفأ جذوتها النسيان. 

- اللعنة.. ما السبيل للخلاص من هذا الفراغ الموحش الذي أضنى روحي وعقلي وجسدي "هتف بصوت كسير".

اطرق برأسه برهة ثم نهض من مجلسه فجأة، فرك يديه وشرع بالتجوال المتأني جيئة وذهاباً، منحني الرأس، معقود اليدين عند الظهر، حزيناً، مفكراً، متألماً...!

وفجأة برقت في ذهنه فكرة... هي ليست بالجديدة، فقد برقت في ذات الرأس أكثر من مرّة، ولم يجد الدافع والمزاج لوضعها موضع التنفيذ...!

- ...نعم ...نعم.. هو ذاك ...هتف كما ارخميدس في حمامه ...وجدتها.. وجدتها...!

 - لم لا أكتب؟ قالها بصوت مستنكر غاضب وقد افرد يديه أمامه وهزَّهما بقوة.. ما الذي يمنعني من تفريغ فيوض طاقتي المهدورة بفعل مبارك نافع يُغني روحي ويشذب غربتي الداخلية ويعيد ترميم كياني.. نعم.. يكفي أن أكتب لنفسي.. بل ربما ولغيري، ثم أنّي قارئ مُثابر، فما نفع القراءة إن لم يعقبها قرينها النبيل.. الكتابة ...!

وشرع بحماس متدفق يكتب ويكتب ويكتب..

تلاحقت الكلمات الحبيسة على عجل هاربة من سجن الداخل إلى فضاء الحرية الفسيح المُنير، امتلأت الورقة الأولى، لحقتها ثانية وثالثة وأحس وكأنه يلد من جديد، تنفس الصعداء مرّات ومرّات .. شعر بجسده خفيفاً.. دافئاً... فتياً كما لم يكن من قبل ...!

رباه.. كم أنا سعيدٌ الآن وكم سأكون سعيداً في الغد وما بعد الغد وحتى آخر العمر...!

ابتسم لنفسه وهو يُنهي النص الأدبي الأول، تأمل حزمة الورق بحُب.. ابتسم برقة لذاته.. قبَّل الحزمة بلطف، دسّها برفق في درج الطاولة.. تذكر أنّه لم يكتب العنوان.. فكر برهةٍ ثم اخرجها وخطَّ في الأعلى عند منتصف السطر وبالقلم العريض كلمتين تناغما مع تلك الليلة العاصفة المباركة فكان العنوان ... (تلك الليلة).

تقييم النص

يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا

التعليقات

صديقي الأعز قيس لطيف مهدي تحايا ملؤها الود والتقدير والاحترام جميل هذا التحليق في أجواء هذه القصة الممتعة في ذلك البيت المنعزل.. والرجل الذي ما برح يتمرد على استمراره بهذه العزلة التي كادت أن تقترب من عزلة البناية التي يعيش فيها.. تلك العزلة التي أمتنع أن يقاضيها بحريته ثمنا لهذا البيت الذي قد لا يتسع لأحلامه.. ألا تكفي معجزة بقائه حياً في هذه المدينة الشاسعة والبعيدة؟ ذاكرة الكاتب البصرية هي مخزن لآلاف الصور التي مرت بحياته، فلا بد وأن يكتبها..هذا ما خلص إليه بطل هذه القصة الرائعة... دمتَ بخير صديقي الحبيب قيس
قيس لطيف

27-08-2021 08:04

صديقي الأعز دائماً عامر كامل السامرائي المحترم أسعدني مرورك الجميل،وأفرحني تعليقك الكريم لقد خيب أملنا وأحبطنا هذا العالم بقسوته وصَلفه وغروره ولكن ها نحن نتعاطف مع بطل القصة ونستلهم منه العزيمة والاصرار ودِفء المشاعر. على الرغم من بؤس الواقع وصعوبة الوحدة والتغرب ...، وعليه يمكنني القول،ان استنهاض وبعث الارادة من اعماق النفس كفيل أن يصنع عوالم جديدة ومدهشة. محبتي صديقي النبيل عامر السامرائي
صديقي الحميم الأديب الأريب قيس لطيف حياكم الله تنتمي قصص الكاتب قيس " التي قرأتها حتى اللحظة" على أقل تقدير الى الواقعية.. بل المغدقة في الواقعية .. التي تشكلت بداية القرن التاسع عشر على أمهر القصصاصين العالميين من أمثال: ديستويفسكي، تولستوي، تشارلز ديكينز ... حيث تأتي أحداثها من صميم الواقع المعاش لتكون المادة الأدبية الدسمة للخلق و الإبداع.. يجتهد الكاتب في سرد قصصه ليطرح أسئلة تشغل كيانه و هواجسه كي يبقي ذلك الأستقرار النفسي ليكتب بهدوء البناية المهجورة / عزوبة البطل / عبثية المكان / تعطي مؤشرا فصيحا للعزلة ..وهي المادة الخام التي ترتوي منها القصة.. وقد نجح الكاتب في توضيفها كعناصر مؤثرة إيجابية. كل الأحترام و التقدير أخي الحبيب قيس المبدع.

صديقي العزيز دائماً الشاعر المبدع

زياد كامل السامرائي المحترم

شكراً من القلب على جميل تعليقك وروعة تحليلك

وأسجل اعتزازي لرؤيتك الفطنة والممتعة في آن معاً

وما أقوله ليس اطراء ولا مديح بحق شاعر أنا من مريديه،

ومن المعجبين بشعره ....،

دمت بخير وصحة وتألق

التعليقات

إدراج الإقتباسات...