حوار مع الشاعر الكبير عبد الكريم كاصد .

حوار مع الشاعر الكبير عبد الكريم كاصد .


يعد الشاعر الكبير عبد الكريم كاصد سفير “الهايكو العراقي والعربي” في المحافل الدولية والعالمية. وهو الشاعر العراقي الأول والأخير من جيل الستينات الذي تفاعل مع قصيدة الهايكو من خلال الترجمة والكتابة في الوقت الذي لم يعترف بها أو يجهلها اغلب شعراء ونقاد هذا الجيل. 

اطلاعه على التجارب الشعرية العالمية ولاسيما الهايكو في سبعينيات القرن 20 جعلته يسعى إلى ترجمة الاشعار القريبة من روح الهايكو من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية كقصائد جورج شحادة وبول إيليوار وآراغون. في بداية الثمانينات ترجم عن الفرنسية كتابا بعنوان “مختارات الشعر الياباني” نشر جزءا كبيرا منه في مجلة الكرمل التي كان يصدرها الشاعر الكبير الراحل محمود درويش

كان له الدور الكبير في انعقاد مهرجان الهايكو والأدب الوجيز الأول نهاية 2020 بالتعاون مع إتحاد الأدباء والكتاب في البصرة. عبد الكريم كاصد هو الشاعر والمترجم والناقد الأدبي ،عضو جمعية الهايكو العالمية. ولد في البصرة، اكمل دراسته الابتدائية والثانوية فيها. حصل على بكالوريوس في الفلسفة من جامعة دمشق سنة 1967 وعلى الماجستير في الترجمة من جامعة وستمنستر بلندن سنة 1993. عمل مدرسا لعلم النفس واللغة العربية في العراق والجزائر. غادر العراق إلى الكويت سنة 1978 ثم إلى عدن، حيث عمل محرّرا في مجلة الثقافة الجديدة اليمنية، وفي نهاية 1980 رحل إلى سوريا ثم إلى لندن 1990 حيث يقيم هناك.يكتب باللغة العربية والإنجليزية ويتقن اللغة الفرنسية

  تحت الطبع.

ديوانه الجديد في الهايكو “عند شجرة الباب” عن أروقة للنشر والتوزيع 2021. عن تجربته الشعرية في الهايكو كان لنا هذا الحوار معه: 

1- الهايكو هذا الشكل الشعري الياباني القديم، كيف تفسر سر نجاحه واكتساحه العالم منذ بداية القرن العشرين؟

*

    ثمة اسباب عديدة منها اعتماده الصورة والمشهدية وما يرافق ذلك من بساطة وإيجاز وروح تخففتْ من كل ما يثقلها من صيغ شكلية كالوزن والقافية وحتى عدد المقاطع لم يعد ملزماً للشاعر، منذ باشو، كما أن البيت الواحد والأسطر الثلاثة ليسا غريبين على من يطلع عليهما في الثقافات الأخرى، فالشكل الثلاثي شائع في كل الثقافات، بشكله المعروف لدى اليابانيين، أو قريب منه أو ما يشبهه في جوانب عديدة. هناك شعراء كتبوا الهايكو ولم يطلقوا عليه تسمية هايكو، بل ثلاثية كالشاعر اليوناني يانيس ريتسوس الذي أصدر ديواناً كبيراً هو ثلاثيات لم يسمها هايكو، بل لم يشر إلى الهايكو عند كتابتها أو نشرها، من بعيد أو قريب، وهناك الباحث الإيطالي جيوفاني بورييلو الذي فاجأنا في ملتقى طوكيو باعتبار أونغاريتي شاعر هايكو  مورداً العديد من المقاطع الشبيهة بالهايكو والتي لم تلتزم المقاطع السبعة عشر، ولا الأسطر الثلاثة، فبعضها خمسة أسطر وبعضها أسطر مستلة من قصائد أخرى لأونغاريتي وهذا ما يقال عن بعض الشعراء الأميركيين الذين يشبه شعرهم في التقاطاته الهايكو الياباني كإزرا باوند، ووليام كارلوس وليامز وهناك من النقاد والشعراء الذين يكتبون بالإنكليزية من يرى أن ثمة ما يذكّر بالهايكو من أشكال شعرية في اللغة الإنكليزية كالسونيتة والأبيغرام وغيرها من الأشكال الأخرى التي تحتوي على سطرين أو ثلاثة. وفي تراثنا هنا ما يقرب منه كالبيت المفرد، وشطحات الصوفيين النثرية المليئة بالشعر إن لم تفقه أحياناً، كشذرات البسطامي والنفري والحلاج وآخرين، ولا نعدم ما يشبهه أيضاً في تراثنا الشعبي كالدارمي. وهكذا هي حال الأشكال الشعرية عادةً فهي تنتقل بسرعة البرق إذا صادفت ناقلين حقيقيين، شعراء أو باحثين، وهذا لا يعني، بالضرورة، التشابه أبداً. فما نكتبه من شعر حر، وقصيدة نثر يختلف عما يكتبه الفرنسي والإنكليزي، وقد يختلف مفهومه في اللغة الواحدة من شاعر إلى آخر، لما في المفاهيم من التباسات لا يمكن أن تكون بالوضوح ذاته للجميع، فلا يزال الفرنسيون حتى اليوم يتجادلون حول بعض قصائد مالارميه، وبودلير، ورامبو هل هي قصائد نثر أم لا. المفاهيم والأشكال الشعرية ليست تعريفات مدرسية أو قاموسية نلهج بها، فالشعر يضرب بكل هذه التعاريف عرض الحائط، ساعياً أن يستحضر العالم؛ وقد شفَّ وتخفّف من عاديته ليغدو إلماعاً، وبرقاً، وروحاً خالصة دون أن يفارق واقعيته الصادمة التي قد لا يلحظ مفارقاتها العابر غير المعني بالشعر، وما يعتمل بها من أضداد.

2- لماذا تأخر العرب في كتابة الهايكو مائة عام عن بقية دول العالم وخاصة في أوروبا والامريكيتين؟

 *

    ثمة عوامل كثيرة تختفي وراء ذلك. منها ربما الفارق الحضاري، لكن هذا لا يكفي إنْ لم يكن هناك تفاعل أيضاً، وليد العاملين الموضوعي والذاتيّ معاً، فبالنسبة للعامل للموضوعي كان ثمة علاقات بين مصر في عهد محمد علي باشا واليابان، كما تذكر العديد من المصادر، إذ كان الوافدون من اليابانيين في دهشة من التطور الحاصل في مصر آنذاك، غير أن هذا العامل الموضوعي لا يبدو فاعلاً أنْ لم يكن هناك عوامل ذاتية أخرى، وتفاعل أبعد من هذه الأطر الدبلوماسية والوفود العابرة، يحفر عميقاً في المجتمعات والأفراد. وهذا ما حدث في بعض البلدان الأوربية كإنكلترا في تفاعلها مع اليابان عبر أفراد معنيين بالثقافتين الإنكليزية واليابانية في أواخر القرن التاسع عشر، وفرنسا وأميركا في بدايات القرن العشرين، وغالباً ما تُذكر قصيدة إزرا المكتوبة في عشرينات القرن الماضي: “في محطة المترو” من بين الأشعار الأولى المتأثرة بالهايكو على الرغم من أنها ليست هايكو تماماً ولكنها قريبة منه ومشبعة بروحه وألوانه.

    أما بالنسبة إلينا فأنا لا يمكنني أن اتخيل معرفتنا بالهايكو قبل معرفة الشعر الحر، وقصيدة النثر. كيف نألف شكلاً متميزاً كالهايكو قبل الأشكال الأخرى السائدة الآن منذ أواخر الأربعينات، وأوائل الخميسنات؟ حتى هذه الأشكال كقصيدة النثر لا تزال هناك من يعارضها من الشعراء المبدعين أنفسهم.، غير أنّ هذا الشكل رغم تأخر التعرف عليه هو من الأشكال المألوفة في أدبنا وتراثنا الصوفيّ.

بالنسبة إلى الأميركتين وبعض دول أوربا أود أن أضيف إلى أن هناك أجيالاً كانت تتطلع نحو الشرق باحثة فيه عما افتقدته في أوطانها من قيم حياتية وتراث حقيقيّ، لذلك تجد  الكثير من مثقفيها ومبدعيها أبدوا حماساً للتراث الشرقي عموماً ومن هنا ترى اهتمام باوند بالشعر الياباني والصينيّ وإليوت بالهندوسية لعلاقتها بالإفلاطونية كما يذكر ذلك كاتب سيرته بيتر أكرويد.  

3- هل كانت الحداثة الشعرية العربية في القرن العشرين على معرفة بأن حركة  الحداثة الأوربية قد تأسست في احد جوانبها وهي الصورية الشعرية على قصيدة الهايكو اليابانية، تجربة عزرا باوند و ت.س إليوت كمثال على ذلك؟

*

    بعض الشعراء الرواد كانوا على اطلاع على التجربتين ولا سيما تجربة إليوت وهم الذين قدموا هذه التجربة إلى قرائهم، إذ أسهم الكثيرون منهم بترجمة شعر إليوت ولا سيما قصائده الشهيرة ومسرحياته التي ترجم بعضها صلاح عبدالصبور، ولكن اهتمامهم كان أقل إزاء شعر باوند اللصيق بالتجربة الصينية واليابانية في مجال الشعر. كان شعر إليوت أقرب إلى الذائقة العربية في تلك الفترة المشحونة بالأحداث المصيرية، والانعطافات الحادة، والأشكال الخارجة على المألوف في شعرنا العربيّ، بالإضافة إلى مضامينها الناقدة لجوانب من هذه الحضارة الأوربية التي هي موضع نقد القارئ العربيّ من زاويةٍ أخرى . أما شعر إزرا باوند فهو، ربما، كان أبعد عن هذه الذائقة بمنحاه اليوميّ، والتماعاته الصغيرة، وشخوصه المهملة، وميله إلى اللغة المحكية التي لم يألفها شعرنا العربيّ آنذاك. ربما هذا يفسر لماذا كان تأثير إليوت في الأوساط الأكاديمية، بينما اقتصر تأثير باوند في الأوساط الأدبية مثلما يرى الكثير من النقاد. ليس هناك في شعر إليوت ما يسمى بشعر الهايكو أو ما هو شبيه به، ولكن لا نعدم لدى إليوت الصور، والمشاهد الحسية، والضربات المفاجئة التي هي روح الشعر التي تسري في كل أشكاله: الهايكو، والقصائد القصيرة، والطويلة، والسونيتات، والأبيغرام، و المقاطع، وقصائد الأطفال، وحكايا الجنيات، مع ذلك فإن عالم إليوت الذي يستدعي الماضي بألفاظه، وأساطيره، وعلائقه المتشابكة، هو نقيض الهايكو الباحث عن اللحظة الهاربة المضيئة بحضورها. وهذا ما كان يؤخذ على إليوت حتى في ترجماته أيضاً كترجمته الشهيرة لقصيدة سان جون بيرس: “أناباز” إذ تأخذ عليه الشاعرة والناقدة الإنكليزية كاتلين رين العارفة باللغة الفرنسية وآدابها بعمق، عدم إدراكه لبساطة صور بيرس الواضحة التي تنتسب إلى طبيعةٍ بلا ماضٍ ولا تاريخ، حيث المتحجر والعابر شيء واحد في حضوره في هذه اللحظة، بينما كانت الترجمة تعتمد على الألفاظ المحتشدة بالمعاني، واستدعاءات الماضي، وهذه مفارقة لم ينتبه إليها إليوت على حد قول الشاعرة كاتلين رين. أماعلاقته بالمدرسة التصويرية فهي ليست بذلك العمق ولا تذكر إلا حين تتم الإشارة إلى قصيدتين له هما “صباح عند النافذة” و”مقدمات” التي كثيراً ما تكررت صورهما في قصائد أخرى. وحتى هذه المدرسة فإن الكثير من النقاد يتحفظ على تسميتها بـ “المدرسة” كما إنها لم تستمر طويلا إذ سرعان ما انقلب عليها إزرا باوند لأن شعراءها لم يحققوا المعيار الذي تتطلبه مواصفاته في كتابة القصيدة التصويرية. كما أنه تخلى عن هذا المصطلح. وهو حين كتب قصيدته القصيرة الجميلة الشبيهة بالهايكو في باريس عن محطة المترو كانت باريس آنذاك مكاناً حقيقياً للتفاعل بين الثقافتين اليابانية والفرنسية، ففي الوقت الذي نشهد فيه تعرّف الفرنسيين على الهايكو أوّل مرة نجد، من جهة أخرى، أن اليابانيين لم يكونوا بعيدين عن معرفة ما يجري من اتجاهات في الشعر الفرنسي، فهذا، مثلاً، الشاعر شينكيتشي تاكاهاشي الذي يعتبر من أهم شعراء الزن في اليابان بدأ حياته متأثراً بالدادئية، في العشرينات من القرن الماضي، إذ أصدر رواية له بعنوان “دادا” أعقبها بإصدار مجموعة شعرية بعنوان:”شعر شنكيتشي الدادائيّ” (سبق أن ترجمتُ له العديد من القصائد في الحوار المتمدن، قبل أكثر من عشر سنوات) أي أن الثقافات في تفاعل دائم إذا أحسن الأفراد بعيداً، عن المؤسسات الهرمة، في لعب أدوارهم الحقيقية في تقديم أدبهم، لأن المؤسسات كثيراً ما تتواطأ في تقديمها لثقافتها مع ما هو خارج روح هذه الثقافة من أفراد ومسؤولي ثقافة ومنتفعين. 

4- أنك الشاعر العراقي  الوحيد من جيل الستينيات الذي أقتنع بأهمية كتابة قصيدة الهايكو، كيف تفسر اهتمامك بهذا النوع الشعري الجديد خلافا للكثير من مجايليك؟

*

    منذ منتصف الستينات وأنا معنيٌّ بالشعر الذي يغلب عليه طابع الإيجاز والمشهدية والتجربة، كما يبدو ذلك من خلال ديوانيّ الأولين:”الحقائب” و”النقر على أبواب الطفولة”، لما لذلك من أهمية كبيرة في الشعر، وخاصة في قصيدة الهايكو التي هي وليدة التجربة المباشرة في اللحظة المباشرة التي يعيشها الشاعر، لا بتأمل موضوعه بل بالنفاذ إليه، أي ليس بإضفاء مشاعره عليه، بل بتمثل مشاعر موضوعه شجرة كان أم حجراً أو إنساناً.

    كان لتنقلي، منذ سن السابعة عشرة، بين المجتمعات العديدة في عقد من الزمن أثره الكبير في توجهي الشعريّ، فقد عشت مجازر وحروباً وتنقلت بين ثلاث مجتمعات: العراق، سوريا ، الجزائر.

    في 1963 كنت طالبا في السنة الأولى في معهد اللغات أدرس الفرنسية، حين حدثت مجازر شباط إثر انقلاب البعثيين، فهربت إلى سوريا وحصلت على قبول في جامعة دمشق قسم الفلسفة، وفي 67 شهدت هزيمة 5 حزيران عن قرب ثم رجوعي إلى العراق مدرّساً لعلم النفس في معهد المعلمين، وكان معي الشاعر الكبير محمود البريكان مدرّساً للغة العربية، وبعد إغلاق المعهد اضطررتُ إلى التدريس في مدارس أخرى، وأخيراً في نهاية الستينات سافرت إلى الجزائر. كل ذلك كان له تأثير كبير في كتابتي الموجزة التي رفدها اطلاعي على التجارب الشعرية العالمية، ومن بينها الشعر اليابانيّ ولا سيما الهايكو. وكان لقراءاتي بالفرنسية دور في تطوير تجاربي هذه التي جعلتني أسعى إلى ترجمة الأشعار القريبة من روح الهايكو كقصائد جورج شحادة وبول إيليوار وآراغون وكانت هذه الترجمات هي الأولى التي ترجمتها عن الفرنسية أوائل السبعينات. سأورد منها هذه النماذج لأراغون وهي جزء من مقتطفات نشرت في جريدة الجمهورية عندما كان يحرر صفحتها الثقافية “آفاق” الأديب محمد كامل عارف، مأخوذة من نشيد الأنشاد في ديوان “مجنون إلزا”:

أنت التي تسيرين في داخلي موسيقى عميقة

ها أنا أسمع عطر خطواتك يبتعد

*

لا أستطيع أن احبك أبداً

ما دمت أحبك

*

أنت العطش والماء أنت الصباح والمساء

أنت الجسد الذي لونه شبيه بكل النقائض

*

إنني مليءٌ بصمت الحبّ الأصمّ

*

يدي التي تهم أن تلمس ركبتيك بخجل

تندهش لأن فيهما قلب طفل ينبض

*

أنت تهبطين بهدوء من شرفة إلى شرفةٍ

يا حبي الجميل يا من له في ليلي خطوات القمر

*

هلي تسمعين حديثي إليك عندما لا تكونين معي

    بعض هذه المقاطع اوردها البياتي في مقدمة أحد دواوينه دون أن يشير إلى المترجم.

5- بداية الكتابة بجنس الهايكو، هل بدأ مع ترجمتك عن اللغة الإنجليزية مختارات “نكهة الجبل”  عام 2005 للشاعر  الياباني “سانتوكا تانيدا ” ؟

    لا طبعاً .. في بداية الثمانينات ترجمت عن الفرنسية كتاباً بعنوان “مختارات الشعر الياباني” نشرتُ جزءاً كبيراً منه في مجلة الكرمل التي كان يصدرها الشاعر الكبير الراحل محمود درويش، مع مقدمة طويلة عن تاريخ الشعر الياباني، ولكن انشغالاتي واهتمامي بالشعر الياباني والصيني وبشعر الهايكو خاصة سابق لذلك. ولا يزال هذا الكتاب لم يطبع بعد، بسبب ظرفي الخاص في المنفى، وتنقلي بين العديد من البلدان، وانشغالي بمشاريع أدبية أخرى أكثر إلحاحاً، ولعل السبب الرئيسيّ هوعدم تفرغي لطباعته؛ لأنه مكتوب بخط اليد، كما إنني لا يمكنني أن أعهد إلى شخص آخر طباعته، لما يتطلبه من دقة وعناية قد لا تتوفر في من يقوم بهذه المهمة. آمل العودة إليه قريباً بعد الانتهاء من أعداد الكثير من كتبي المؤجلة للطبع. أقول ذلك رغم أن كتبي المطبوعة أقتربت من السبعين كتاباً، فبالإضافة إلى كتبي التي تجاوزت الخمسين كتاباً هناك ما يقرب من 12 ديواناً مترجماً لريتسوس بالاشتراك مع الصديق جمال حيدر احتوتها المجلدات الخمسة التي صدرت لنا.نحن الاثنين.

6- متى تورخ لأول قصيدة هايكو كتبتها؟

    في السبعينات ولكن سبقتها الكثير من القصائد القصيرة المنشورة في الستينات والشبيهة بالهايكو التي لا تتجاوز بضعة أسطر في مجموعتيّ الأولى والثانية ومنها هذه اللقطات المنشورة التي تحمل سمات الهايكو أو ما يشبهه بعنوان: “لقطات منزلية”  في ديواني الثاني: “النقر على أبواب الطفولة”، إذا ما نظرنا إلى الهايكو بمفهومه الواسع الذي طرحه الناقد الإيطالي حين تناول شعر أونغاريتي، وتساهلنا في شروط الهايكو الذي يتجنب العنونة كما يتجنب الوزن والقافية وهذا ما فعله إزرا باوند حين وضع عنواناً لقصيدته الأولى عن الهايكو والتي هي في الحقيقة شبيهة بالهايكو كقصائدي هذه:

طفل:

أخي الصغير

يحطّ كالفراشةِ على الأكتاف

برك:

البركْ

سوف يشربُها البطُّ عند الصباح

خطىً:

يهبط الليلُ فوق السلالم

يوقظ فانوسُهُ المستريبُ

الكلاب

ضيف:

بين الأنقاض

يرتعش الفانوسْ

يدخلُ محمولاً للغرفةِ بين الضيف وعائلتي

مسافة:

بين الأنقاض

وضوءِ الغرفة

أدركني الليل

عريشة:

عريشةُ المنزل مدّتْ راحتيها للسياج

وأغمضتْ أهدابها حتّى الصباح 

قيلولة:

كلّما أيقظني الخطو على الدرب

استفاقت قطةٌ بيضاء

في الظلّ وأزهارٌ ثلاث

خراف:

ثلاثةُ خرافٍ سودٍ ترعى

عند السياج

كعباءاتٍ تنحني لالتقاط الحَبّ

كثلاثة آلام صغيرة.. سوداء

على صحراء فرحي

٧- أول ديوان صدر لك خاص بالهايكو؟

*

    لم أكن معنياً يوما بشكل شعريّ منفرد، وما زلت، لذلك لم يستغرقني مثل هذا الهاجس، ولكنك قد تجد قصائد هايكو متناثرة هنا وهناك في مجموعاتي الشعرية العديدة التي تحتوي على الكثير منها. أما الديوان الأول الذي صدر لي فهو “شجرة عند الباب” وقد نشر في البداية بعنوان “مئة هايكو وهايكو” في المغرب، سنة 2018  في كتاب واحد مع الشاعر سامح درويش، وبأربع لغات هي اليابانية والفرنسية والإنكليزية؛ لأننا تناولنا في هذا الكتاب الموضوعات ذاتها، وصدر هذه الأيام منفرداً في القاهرة عن “مؤسسة أروقة” بمصر، ولديّ مجموعتنان معدتان للطبع. إحداهما تحتوي على قصائد هايكو وتانكا أيضاً، بالإضافة إلى كتابين آخرين أحدهما مقالات عن الهايكو، وآخر مختارات من الهايكو لشعراء معاصرين في العالم التقيت بهم في إيطاليا واليابان.

٨- تسمية الهايكو المكتوب باللغة العربية بالهايكو الزراعي من قبل بعض الشعراء ، هل هي صحيحة أو متاتية من تدني مايكتب باسم الهايكو أو ربما النظرة السلبية للزراعة أو غير ذلك؟

*

لماذا الزراعي؟ ألا تتضمن الطبيعة ما يمكن تسميته بـ “الزراعيّ”؟

٩- قصيدة الهايكو اليابانية، بنيتها الصوتية تعتمد على التقطيع الصوتي 5/7/5

كيف تحل هذه الاشكالية في اللغات العالمية ومنها اللغة العربية؟

 *

إنها محلولة أصلاً في الشعر الياباني نفسه، وقد كتبت موضحاً ذلك في مقالة لي جاء فيها ما يلي:

لو أخذنا مثلاً  المقاطع السبعة عشر باعتبارها إحدى هذه القواعد الرئيسية لبدا أن التماثل يكاد يكون مستحيلا، وهذا ما أكده بعض الدارسين في اللغة الإنكليزية أيضاً ممن تناولوا شعر الهايكو في لغتهم خلافاً لما يطرحه كينيث ياسودا في كتابه الذي لاقى رواجاً بين شعراء الهايكو العرب “واحدة بعد الأخرى تتفتح أزهار البرقوق” المليء بالتزمت، والرؤية الضيقة للهايكو، والأحكام المتعسفة في تقييمه تجارب الشعراء الآخرين كإزرا باوند، على الرغم من احتوائه على الكثير من المعلومات التاريخية ذات الفائدة الكبيرة عن الهايكو ، فهو لا يكتفي بفرض عدد المقاطع شرطاً رئيسياً وإنما يتناول باهتمام وشغف ما لم يكن في صلب تركيب الهايكو ألا وهوالقافية مستشهداً بشعره الذي يكاد يخلو من الشعر باعتباره مثالاً، في الوقت الذي يؤكد فيه الكثير من هؤلاء الدارسين أن هذا غير ملزم وأن ما يقرأونه من شعر في الإنكليزية ليس قصائد هايكو وإن التزم بعضها بالمقاطع السبعة عشر، بل إن هذه المقاطع لن تماثل في اللغة الإنكليزية غير 12 مقطعاً بسبب أن (المورا) أي الوحدة الصوتية في اللغة اليابانية لا تماثل المقطع تماماً في اللغة الإنكليزية حتى لو حرص المترجم أن ينقلها بأمانة، لذلك  تفتقد قصائد باشو المترجمة إلى اللغة الإنكليزية هذه الصفة حالها حال الكثير من شعر الشعراء الإنكليز الذين قرأنا قصائدهم المسماة بقصائد الهايكو دون أن تلتزم بهذه القاعدة. فإذا كان الإنكليز لا يرون مثل هذه القاعدة شرطا أساسيا في كتابتهم الهايكو فهل يمكن أن يتحقق هذا الشرط في لغات أخرى ومنها لغتنا وما هي الأرضية التي يمكن أن نعتمدها في ذلك؟.

لم يتقيد باشو نفسه بهذه القاعدة التي خرج عليها في ما كتبه من قصائد هايكو تضمنت أكثر من 17 مقطعاً، بل أن قصائد كتبت بسبعة عشر مقطعاً لم يعتبرها باشو قصائد هايكو لأن هذا الشرط على أهميته ليس هو المعيار الأساسيّ في تحديد قصيدة الهايكو. من بينها قصيدته الشهيرة:

على غصنٍ ذابل

حطّ غراب –

غسقٌ خريفيٌّ

هذه القصيدة تترجم في كتاب كينيث يا سودا بإضافة صفة “وحيد” إلى غراب و”الآن” إلى “غسق خريفيّ” الذي يرد في الترجمة “مساء الخريف” وترجع هذه الإضافات لا إلى خطأ المترجم صديقنا العزيز الشاعر محمد الأسعد وإنما إلى الأصل الذي يحرص أن يضيف في الترجمة ما يجعل البيت سبعة عشر مقطعاً في اللغة الإنكليزية:

 

على غصن ذابل

يجثم غراب وحيد

مساء الخريف الآن

من دون الشرْطة التي تمثل (قطْعاً) يعقب السطر الأول. البعض يستبدل نقطتان بها وفي الحالتين فإنهما،الشرطْة أوالنقطتان، يؤديان هذا الدور الذي هو (القطْع).

    يذهب بعض الدارسين أنّ ما يميّز باشو عمّن سبقه من شعراء هو الـ (كارومي) أي الاستنارة وهذا ما كان يدفعه أحياناً إلى خرق ما هو مألوف من مواضعاتٍ في الشعر. ولعلّ مواقفه هذه هي التي مهدت للتطورات اللاحقة في الشعر الياباني.

١٠- يقول الشاعر الياباني (بانيا ناتسويشي) في احد حواراته بما معناه ان اللغة الإنجليزية هي اللغة العالمية للهايكو الآن، هل يمثل هذا الكلام قطيعة مع الإرث الياباني للهايكو بأساليب معاصرة تتجاوز الكثير من الأسس التي وضعها الكبار الأربعة (باشو -بوسون -إيسا -شيكي)وما الذي اضافه للهايكو؟

*

    ما قاله بانيا هو نقيض هذا تماماً في محاضرته التي ألقاها في ملتقى الهايكو الأخير في طوكيو والذي لخصتُهُ ونشرتُ عبارات منه في مقال لي نشرتُهُ في صفحتي. يمكنك الرجوع إليه. ما قاله هو كما لخصته في مقالتي عنه:

“فهو – أي بانيا – يستهلّ المداخلة بالحديث عن تجربته المرّة مع اللغة والترجمة خلال السنوات التي أعقبت انعقاد ملتقى الهايكو العالمي الأول سنة 2000 ، ففي الملتقى الثاني فأجأه المقطع التالي الوارد في كلمة تتحدث عن مهمة الملتقى: “من أجل تطوير الهايكو في كلّ اللغات وممارسات الترجمة المرافقة للهايكو، والإقرار بأن اللغة الإنكليزية هي لغة الهايكو العالمية الحالية” فيعلّق على هذا المقطع بما يمكن تلخيصه” أيّ لغة عالمية لن تكون ابداً شاملة أو أبدية. إنْ هي إلا لغة مؤقتة عابرة. ثمة أنواع عديدة من الإنكليزية، كما أن هناك لغات عالمية أخرى منها على سبيل المثال: الإسبانية، الروسية، الفرنسية، العربية.. إلخ. إنني لا أنكر أهمية اللغة الإنكليزية في عالمنا المعاصر ولكنني أجد في المقطع السابق غروراً وتجاهلاً من قبل الذي كتبه وهو زميل مؤسس في الملتقى”

١١- كثيرا ما نجد في نصوص الهايكو العربية تداخل بين قصيدة الومضة والهايكو وكأن الشعراء العرب لا يعرفون  الحدود الفاصلة بين هذه الأشكال الشعرية. هنالك رأي يقول إن بعضا من نصوص الهايكو الفرنسية امتازت بهذه السمة التي انعكست لاحقا على الهايكو العربي؟

*

    الهايكو مهما اختلفنا في خصائصه الشكلية فله مواصفاته التي يجمع عليها الشعراء قاطبة، أمّا الومضة فيمكن أن تجدها في القصيدة الطويلة المقطعية، وفي القصائد القصيرة، وفي البيت الواحد، وفي السونيتات،  والزهيريات أي المواويل المكتوبة بالفصحى. وهذا ما حدث للهايكو أيضاً حين أشرنا إلى مقالة جيوفاني عن أونغاريتي.

    الومضة ليست مصطلحاً دقيقاً، ولا شكلاً أدبياً له سماته وحدوده، وهي عبارة عن لفظة لا تسعف في توضيح أيّ شكل شعريّ. يستخدمه الأكاديميون والمولعون بالمصطلحات من دون البحث عن روح المصطلح وواقعيته في أشكاله الملموسة.

    في الكثير من الكتب التي تحتوي على مختارات مما يُسمى بالومضات لشاعر أو أديب ما غالباً ما نلحظ أن هذه الومضات تُستعار من نصوص طويلة متخذة شكلاً آخر غير الشكل التي كانت فيه. وهذا ما يجعل توصيفها غائماً.

١٢-الشعرية العربية عبر تاريخها الطويل اتسمت  بإستخدام المجاز والتشبيه والإنسنة وتحاول إسقاطها على قصيدة الهايكو، ما رأيك بهذه المحاولات  التي ربما تتعارض احيانا مع بعض  خصائص قصيدة الهايكو ؟

 *

    ومن قال إن الهايكو الياباني لم يستخدم المجاز والتشبيه والأنسنة؟

    هذه الإشكالية تتعلق بمهارة الشاعر وليس بقانون مفترض. يمكنك أن تطبق مواصفات قصيدة الهايكو المتفق عليها، في نصّك، بحرفية المجتهد العارف، من دون أن يكون نصك قصيدة هايكو أبداً، والمثال على ذلك ما يُروى عن باشو أنه في يوم من أيام الخريف، حين كان يسير مع أحد تلاميذه يُدعى ” كيكاكو” أطلعه هذا على قصيدة هايكو ألّفها حول يعسوب أحمر أثار خياله، هي: 

اقتلع زوجاً من أجنحةِ

يعسوب، وستحصل

على قرن فلفل

(ترجمة محمد الأسعد)

فقال باشو: ” لا.. هذه ليست قصيدة هايكو. أنت تقتل اليعسوب بهذه الطريقة.. فإذا أردت تأليف هايكو ومنحها الحياة يجب أن تقول:

أضف زوجاً من الأجنحة

إلى قرن فلفل، وستحصل

على يعسوب

(ترجمة محمد الأسعد)

إذن علينا أن نجد معايير الهايكو ليس في مقاطعه وأسطره الثلاثة، وفصله وأصله، بل في مكان آخر.

سأورد لك ما ينقض هذا التصور الشائع الخاطئ:

أمثلة بترجمتي على ورود التشبيه في قصائد أعظم شعراء الهايكو

مساء خريفيّ –

ركبتاي بين ذراعيّ

كقديس

(إيسا)

*

حول الحقل

يتنقل الغراب

كما لو أنه يحرث

(إيسا)

*

حتى وأنا في مدينتي

أنام الآن

كمرتحلٍ

(شوشيكي)

أما الأمثلة على المجاز والاستعارات والأنسنة بل على الشطحات فهي لا تحصى:

بحر هائج –

يمتد على جزيرة سادو

مجرّة

(باشو)

*

صمت –

غناء زيز الحصاد

يثقب الحجر

(باشو)

*

حين أموت

احرسْ قبري جيداً

أيها الجندب!

(باشو)

*

مريض في رحلةٍ –

على حقولٍ جفّت

أحلامي تتجول

(باشو)

*

سماء صيف

صاحية بعد المطر-

نملٌ في استعراض

(شيكي)

*

غياب:

حسبك قلْ “إنه خارج”

يعود

بعد خمسة بلايين سنة

(تاكاهاشي)

*

سماء:

متسلقاً شجرة شمع

على السماء المرعدة

أخرج لساني

يا لانهمار المطر

(تاكاهاشي)

 

*

سحابة من البعوض

من دونها

أكون عارياً

(إيسا)

*

حدآتٌ تصرخ

معاً –

رحيلُ آلهةٍ

(إيسا)

مستعيراً بيتي

من الحشرات

نمت

(إيسا)

    وهناك مئات الأمثلة الأخرى التي يضيق بها هذا الحوار، ولكني أريد هنا أن أشير إلى الهايكوين الأولين لـ “إيسا” اللذين استخدما التشبيه؛ لأبين للقارئ كم تنطبق عليهما مواصفات الهايكو بإيجازهما وبساطتهما وعمقهما. لم يكن التشبيه إلا ضوء هذا السطوع الذي يشيع فيهما.

    مادام الهايكو يتمثل جوهر الشعر الكامن في كل شعر جيد، كما يرد ذلك على لسان باشو فلماذا الاستثناء في الاستعارة والتشبيه والمجاز. أما الانسنة فما أكثرها في قصائد الهايكو! أقرأوا إيسا!

    ثمة دعاوى أخرى لا أفضل الحديث عنها هنا، وكأن الهايكو لا يتحدث عن الأشياء في تفتحها أو اكتمالها، بل في ما بينهما… إلخ من هذه الدعاوى التي لا تعرف من الشعر إلا ظاهره الدعائي الملفق:

زهرة لوتس بيضاء –

الراهب

ارتدّ بشفرته إلى الوراء

(بوسون)

هل ارتدّ الراهب عن قطع زهرة اللوتس بشفرة سكينه عند تفتحها أو بين تفتحها واكتمالها أم في اكتمالها المبهر البهيج الساطع؟

١٣-هل مطلوب من الشاعر لكي يكتب الهايكو أن يكون مؤمنا بفلسفة الزن ومعلم يرشده الطريق؟

*

    ليؤمن بما يشاء ولكن عليه أولا أن يكتب هايكو حقيقياً بروحه لا بشكله المتعارف عليه: بيت واحد في الشعر الياباني وثلاثة أسطر في اللغات الأخرى.

    لم تعد قصيدة الهايكو محصورة بالطبيعة حتى في لغتها الأصل فهي قد تتسع لشعراء الزن وغيرهم، مثلما تتسع لشعراء الطبيعة وقد اتخذوا العين أداتهم .. العين التي توجهها الروح لا العقل، وحتى لو كان ثمة عقل فهو عقل يستدق في الشعر ليصبح روحاً، ليس له ثقل العقل ولا منطقه. لكن هذا لا يعني غياب الحواس الآخرى التي قد تندمج أو تترافق أو تحضر مفردةً بكل عمقها وبهائها.

    في لقطة الهايكو وإيجازها ثمة عالم يضيق ويتسع دون أن يفارق ديالكتيكه الخاص في صراع الأشياء والأشكال وتحولاتها.

 *

١٤- توجد اتجاهات عالمية مختلفة في كتابة الهايكو بين الكلاسيكي والهجين والحديث، إلى أي اتجاه تفضل الكتابة وما مدى تأثير وتنظيرات رئيس جمعية الهايكو العالمية الشاعر الياباني( بانيا ناتسويشي) وحراكه المستمر في عقد الندوات والمهرجانات  الدورية وليس آخرها ما عقد في إيطاليا عام 2017 وفي اليابان عام  2019 وكنت ضمن المشاركين مع الشاعر المغربي سامح درويش، رئيس نادي هايكو موركو المغربي؟

*

    لا توجد مثل هذه الاتجاهات والحدود في هذه الوحدة الكلية.. وحدة الواقع والشعر معاً. في الشعر لا تختلط أشياء العالم مع بعضها بعضاً حسب، بل تختلط العوالم جميعاً.. عالمنا وعالم السماء كما في هايكو باشو الذي أوردته عن المجرة. لم ألحظ في الندوات من يرتدي هناك ثياب المعلم ليمارس تأثيره أو تنظيراته. كنا نتبادل تجاربنا وأشعارنا بفرح الأطفال فلا جهامة ولا جدية، حتى في أدق الموضوعات وأصعبها. لم يقف هناك من يجزم ويرشد أو يقرر. كنا نمارس أحيانا لعباً كلعب الأطفال باعثة على المسرة ومحتواها الهايكو. ولو كان هناك معلمون قادمون بأسلحتهم من التنظيرات، لما شاركنا في مثل هذه الندوات، ولكنا في غنى عن قطع كل هذه المسافات لحضورها، وحين تنتهي لا تنتهي كمهرجاناتنا، بل نتبادل ما كتبناه وقرأناه وننشره لنقول إن نشوتنا ليست هي النشوة العابرة بل المقيمة المتجددة.

    التقيت في ملتقى طوكيو بشعراء أغلبهم أساتذة فلسفة في الجامعات الكورية والصينية والفيتنامية وعلى معرفة بلغات عديدة، ولكنّ أغلبهم لا يجيدون جملةً واحدةً من الإنكليزية أو الفرنسية ما أثار استغرابي حقاً، بينما يجيدون هم أغلب لغات جيرانهم من الشعوب الأخرى، وهؤلاء الشعراء لتواضعهم وإنسانيتهم لم نعدم التفاهم معهم وتبادل المشاعر العميقة، وقراءة  أشعارهم المترجمة. أي أننا دخلنا عوالهمهم من خلال الترجمة رغم عدم تواصلنا المباشر معهم، بينما يجري العكس في مهرجاناتنا إذ يمر الشعراء المدعوون، دون أن نعرف عنهم شيئاً، وأحيانا لا يتوفر حتى المترجم. في الملتقيات التي حضرتها تجد قصائد جميع المدعوين مترجمة من قبل، في كتاب توزع نسخه على الحاضرين، بل وحتى غير المدعوين كما لاحظت ذلك في الملتقى الذي عقد في أيطاليا.

*

١٥-هل توجد صلة قرابة لغوية -تاريخية – معرفية بين مفهوم الاستنارة في الهايكو ومفهوم الاستنارة أو التنوير في الفكر الغربي؟

*

    هناك استنارة في مدارج الروح، وهنا استنارة في العقل والتجربة والمنطق، وقد تفترق الاستنارتان أو تلتقيان في هذه اللحظة لحظة الكشف عن الحقائق روحية أومادية، فإنْ لم يلتق الروح والعقل في البداية فقد يلتقيان في النهاية أي في لحظة الاستنارة ذاتها حين يقف الشاعر والعالم مدهوشين أمام اكتشافيهما. أنا أتحدث هنا عن الصلة المعرفية التي تعني القلب والروح والعقل معاً. أما القرابة اللغوية والتاريخية فقد يتبينها آخرون وقد يفتقدونها. مع ذلك ينبغي إلا يغيب عن بالنا أن التنوير في الفكر الغربي هو من الاختلاف والتنوع والتعقيد ما يجعلنا شديدي الاحتراس في المقارنة والتعميم.  

 *

١٦-وحدة الشهود والحلول والاتحاد ووحدة الوجود والوحدة المطلقة وهي مصطلحات صوفية ارتبطت بالتصوف الإسلامي والشعر الصوفي عبر تاريخه الطويل،ألا تعتبر الاستنارة بمفهوم فلسفة الزن وبالتالي نصوص الهايكو اليابانية إمتداداً أو تحصيل حاصل لهذه الفلسفات الصوفية مع الاختلاف في العقائد والتوجهات بحيث تكون أفقية (الطبيعة) في الهايكو و عمودية (المطلق) في التصوف؟

*

    هناك من يقول إن فلسفة الزن وقصيدة الهايكو هما شيء واحد. ومثلما تقف فلسفة الزن وراء باشو وشعراء آخرين، كذلك تقف الكونفشيوسية وراء شيكي، والبوذية وراء إيسا.

    الطبيعة والمطلق حاضران في الهايكو:

كم أشتاق أن أرى

وسط زهور الفجر

وجه الله

(باشو)

 *

١٧-السؤال السابق يقودنا إلى تساؤل آخر وهو أن قصيدة النثر على الأقل في نماذجها المعروفة قد استفادت ووظفت التصوف والشعر الصوفي لكنها تجاهلت أو فقدت القدرة على التواصل مع الهايكو؟

*

    لا أظنّ هذا القول دقيقاً. وإذا سمحت لي في الحديث عن شعري فأنا منذ ديواني الأول “الحقائب” أي منذ الستينات وشاغلي هذه العلاقة التي لم أتعمّدْها أو أطلبْها قاصداً وإنما هي وليدة تجربتي وتوجهي الشعريّ الذي يمكن تلمسه في قصائدي: “العزف على أوتار طاغور” المكتوبة سنة 1969، و”مكاشفات”، وحتى في القصائد الطويلة التي تحتوي مقاطع أو أبياتاً باعثها اللحظة الراهنة ومفاجآتها ووضوحها الصادم. كان أقرب الشعراء إليّ في هذا المنحى صديقيَّ الراحلين مهدي محمد علي، ومصطفى عبدالله، وشاعر ثالث هو الصديق كاظم الحجاج الذي أتمنى له طول العمر. كنا نشكل اتجاهاً متميزاً في الشعرلاقى اهمالاً من قبل النقاد لأسباب باتت معروفةً، معظمها سياسيّ. اسمح لي ثانية أن أورد جزءاً من قصيدة “مكاشفات”، آملاً أن يعود القارئ إلى ديواني الأول ليتبين ما أردت قوله:

مكاشفات رقم 3

ضعيني على فراشك

على طاولة زينتك

بين ذراعيك

ضعيني جسماً.. خفيفاً بلا حركهْ

وحين أظهرُ في مرآتك

أرجوكِ

لا تحدّقي في عينيّ

*

سآتيكِ لا لكي أراكِ، بلْ لكي تريني

صامتاً

مطرقاً

تملؤني عيناكِ.. كما لو أنني فراغ

*

أتيتُ بكِ نائيةً

بلا سلاسلَ

ولا أزهار

*

أنا الشجرهْ

تهزُّ ريحَكِ

*

يعكسُ الصمتُ وجهَك مثل الزجاج

*

أنت تجعلين أشيائي الصامتةَ تتحرّك

ولكن لماذا.. لماذا حين تنطقين

أبصرُ الصمتَ بين كلماتك؟

*

نحن لا نتلاقى

بل نتقاطعُ

مخترقين بعضَنا بعضاً

1974

١٨-هل يمكن توظيف الهايكو في كافة المواضيع التي يرغب الشاعر بطرحها كالسياسة مثلا؟  

*

    لماذا لا؟ إنه كأي شعر مفتوح على العالم بنقائضه وتشابكاته، والشاعر الحقّ هو الذي يستطيع أن يرى ما خلف النقائض والتشابكات من وحدة يتجمع فيها ضوء الشعر وغموضه في آن واحد. ثمة وضوح مشعّ يعمي الذي يتطلع إليه للوهلة الأولى؛ ليكتشف فيما بعد أن ما يراه ضوءاً وليس ظلاماً.

    وهذا الرأي لست وحدي الذي أقوله فهذا باشو يقول بوضوح شديد ” ليس هناك موضوع لا يناسب قصيدة الهايكو”، لأن ما كان يشغل باشو ليس الشكل، بل روح الهايكو حين يستطيع الشاعر أن يلتقط اللحظة المفاجئة الممتزجة بالاستبصار والاستنارة من قلب جريان الزمن وهي مصفاة لامعة متبلرة.

١٩- يُتهم شعراء الهايكو العراقيون على وجه الخصوص  بالخروج على التراث الشعري العربي وبأن ما يكتبون مستورد ولا علاقة له بالشعرية اصلا؟

*

    الخروج على التراث الشعري هو في الإصرار على كتابة الشعر الرديء في أيّ شكل كان، ولا سيما في ما هو موروث من هذا التراث كالشعر العامودي الذي يشيع في المهرجانات وأسواق المديح، والخطابة المقفاة، والتهريج، وانتظار المصفقين القادمين لأداء مهمة التصفيق، وهذا ليس حصراً على هؤلاء فقد ابتليت فيه أشكال الشعر الأخرى.

    لقد قيل عن الشعر الحر إنه مستورد من الخارج مع العلم أن هناك مقالات كثيرة منها مقال إليوت الذي يحمل عنواناً هو: “تأملات في الشعر الحر” أن هذا الاسم غير دقيق وأنه يختلف معناه في الشعر الإنكليزي عما يراد به في الشعر الفرنسيّ، وهو حتى في الشعر الإنكليزي ليس له معنى محدد، فهو إذن مشاع لكلّ شاعر قادر أن يطوع هذا الأسلوب في لغته أو يستنبط منه أسلوباً أو أساليب أخرى. إن الواقع أغنى حتى من تصوراتنا فماذا تقول بالنسبة إلى التصورات الخاطئة الأخرى التي لا تعرف عن الهايكو شيئا سوى أنه ثلاثة سطور وأنه ذو أصل ياباني.

٢٠- كان لك دور مهم وغير مرئي مع اتحاد أدباء البصرة في إقامة أول مهرجان للهايكو في العراق نهاية عام 2020 بالرغم من حشره مع عنوان آخر وهو الأدب الوجيز، رأيك بالمهرجان وأبرز الإيجابيات والسلبيات التي رافقت تنظيمه؟

*

    من الصعب تقييم مهرجان لم أحضره ولم يتم نشر مواده ومداخلاته النقدية ولكن تم الاتصال بي للمشاركة بنصوص لي وبتكليف أصدقاء آخرين ليرسلوا نصوصهم من أجل المراجعة النقدية، لم أطلع إلا على اليسير من محتوياته. وأنا عموماً لستُ معنياً كثيراً بالمهرجانات إن لم يرافقها أو يتبعها توثيق للنصوص التي شاركتْ فيها شعراً أو نقداً لا سيما وإن أغلب مهرجاناتنا تفتقد لا التوثيق وحده، وإنما حتى المتابعات الصحفية فما بالك بالمتابعات النقدية التي نفتقدها تماماً.

في المهرجانات التي حضرتها في أيطاليا واليابان وانكلترا كل شيء معدّ سلفاً لتقرأ على مهل، وتقيّم ما تسمعه على مهل، وليس ارتجالاً سواء أكان هذا يتعلق بالقصائد أم المقالات النقدية.

٢١-رحلتك إلى الاهوار جنوب العراق تمخض عنها كتابك الأخير (الاهوار..الجنة الضائعة)

هل كان للهايكو من نصيب فيها؟

*

    نعم احتوى الكتاب على فصل بعنوان “ديوان الاهوار” معظم نصوصه من الهايكو أو القريبة منه لأن الأهوار حاشدة بالمشاهد الساحرة والغريبة بمفارقاتها في الطبيعة وبين البشر:

من هذه القصائد:

أيتها الريح

قصبةٌ أنا

فاحمليني!

*

كالبشر

ينام الماء هنا

ليلاً.. في الأهوار

*

ستارةٌ ترتفع

وأخرى تهبط –

طيور الماء

*

البيوت تضيء

المشاحيف ساهرة

بانتظار الضيوف

*

بمنجلهِ يحشُّ القصب

مهتزّاً في قاربه:

السومريّ

*

عند تلك التلة البعيدة

نصبوا مدافعهم:

العثمانيون

*

وراء القصب

آلهة

تصغي

*

سأقول لتلك السمكة التي تمرّ

أنا ماؤكِ الذي يَحنّ

*

الطائر السابح في الهواء

يحطّ ملاكاً

فوق الماء

*

الطريق الذي حذرتُ

كم يبدو جميلاً

في الليل

*

على ظهر جاموسةٍ

يقفُ الآن

طائر

٢٢-في الختام نشكرك على هذا الحوار الشيق والمهم، نختمه بنصوص من الهايكو تعتز بها؟

هذا الصباح

ملائكة بثياب زرق

يغسلون السماء

*

المدينة ثملة

بطيخ أصفر

يتجوّل

*

ملاكي الحارس

يتنقل بين كتفيّ

حائراً بماذا أفكّر

*

رجلٌ نحيف

نحيفٌ جدّاً

يسدّ الطريق

*

بحرٌ مريض

في داخلي

وسّدتُهُ الساحلَ كي ينامْ

*

ما أشبهني بهذا الخفّاش

وقد أمضيتُ حياتي

معلّقاً في الفراغ

*

شجرتي الواقفة عند الباب

منذ سنين

تهمّ بالدخول

*

المقهى مغلق

الرابعة والنصف فجراً

قطارٌ طويل وطابورٌ أطول

*

على زجاج نافذةٍ في قطار

كم يبدو وجهي حزيناً

وهو يحدّقُ بي!

*

نقّار الخشب، يا نقّار الخشب

انقرْ، انقرْ!

ما عاد بقلبي ماء

*

حلمتُ ذات مرّةٍ

أنّ يداً واحدةً

تصفّق لي

* 

يا لهذه المدينة الغريبة!

بشرٌ يتسابقون

وخيول تراهن

*

هذه القطّةُ

أتنْصتُ لثرثرتي؟

نبذه حول الكاتب

شاعر و كاتب و صحفي من العراق

تقييم النص

يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد ! كن أول المعلقين !

التعليقات

إدراج الإقتباسات...