طرائف الذكريات عن كبار الشخصيات / أبي يخطب أُمَّ الزعيم الفلسطيني أسعد عبد الرحمن

طرائف الذكريات عن كبار الشخصيات / أبي يخطب أُمَّ الزعيم الفلسطيني أسعد عبد الرحمن


في عام 1964 فزتُ بمنحةٍ للدراسة في الجامعة الأمريكية في بيروت للحصول على الماجستير. وكانت بيروت في أحلى أيامها، والجامعة الأمريكية في أوج نشاطها العلمي والسياسي، فقد كانت أحد مراكز الحركة العربية الهادفة إلى تحرير فلسطين وتوحيد الأمة العربية.

وفي نهاية الفصل الدراسي الأول، خضعتُ لعمليةٍ جراحية في مستشفى الجامعة الأمريكية في بيروت، وكانت عمليةٌ جراحيةٌ بسيطة لإزالة كيس شعر ينمو تحت الجلد ويسبِّب التهاباً. وفي الغرفة التي نقلتُ إليها بعد العملية، كان زميلي في الجامعة، الفلسطيني أسعد عبد الرحمن، يمضي فيها فترة نقاهة بعد عملية جراحية أجريت له لإزالة الزائدة الدودية.

سعدتُ كثيراً بالتعرف على أسعد عبد الرحمن خاصَّةً أنه يحب المزاح والضحك والمقالب، إضافة إلى ذكائه الحادِّ ونشاطه السياسي الوطني، فقد كان من زعماء الحركة الطلابية الفلسطينية.

زارتنا في المستشفى أم أسعد قادمة من نابلس حيث كان زوجها (أبو أسعد) يعمل مديراً للقسم الداخلي للمدرسة الثانوية، ولهذا لم يستطِع مرافقتها. ومن المصادفات أن أبي زارني في اليوم التالي قادماً من العراق، ووجد أم أسعد جالسة معنا؛ وكانت سيدةً طويلةً رشيقةً بيضاءَ الوجه صبيحته. وكان أبي القادم من أرياف العراق يلبس الملابس العربية، الكوفية والعقال والبشت. أحسستُ أن أبي أُعجِب بالسيّدة أم أسعد، فمثلها من البيضاوات قليلات في بلدتنا، ولهذا أخذ يحدّثنا بالطرائف والنوادر التي يجيد سردها.

قال أبي إنه جاء بالسيّارة من دمشق إلى بيروت. وفي الحدود السورية اللبنانية، سأل ضابطُ الجمارك السوري ركّابَ السيّارة الخمسة ما إذا كان لديهم أيَّة ليرات سورية، لأنه يُمنَع إخراجها من البلاد. فقال رجلٌ وقورٌ ملتحٍ يحمل مسبحةً بيده ولا يتوقَّف عن ذكر الله، مخاطباً ضابط الجمارك السوري مطعِّماً كلامه بعبارة “سبحان الله، الحمد لله”: 

ـ أنتَ سألتنا، وأنا أستحرم أن أُخفي عنك شيئاً أو أكذب: لقد سمعتُ هذه السيّدة (وأشار إلى سيّدة عجوز مسكينة من ركاب السيّارة) تقول إنها تحمل خمسمئة ليرة وتسألنا ما إذا كانت في آمان. 

فسارع ضابط الجمارك إلى تفتيش حقيبة السيّدة ومصادرة الليرات منها. وبعد أن غادرت السيّارةُ الأراضي السورية، انهال ركابُ السيّارة لوماً على الحاج الواشي. فقال هذا مفسِّراً سلوكه: لقد فعلتُ ذلك لصرف نظره عني، فأنا أحمل ملايين الليرات، ومدَّ يده إلى جيبه وأخرج 550 ليرة ومنحها للسيدة العجوز.

بعد قليل خرجت أم أسعد من الغرفة، لعلَّها ذهبت لتطلب شيئاً من الممرضة لنا. فاغتنم أبي الفرصة وتوجَّه إلى أسعد بالسؤال: 

ـ هل لأمك زوج شرعي؟ 

فوجئ أسعد بالسؤال، ولكنه سرعان ما استجمع جأشه وأجاب بنوعٍ من الجدِّية وبوجهٍ يوحي بكثيرٍ من الأسى: 

ـ لا، مع الأسف. وهي تتمنّى لو وجدتْ الرجل المناسب.

قال أبي:

ـ هل تظنُّ أنها سترضى بي زوجاً؟ هل لكَ أن تسألها؟

قال أسعد:

ـ سترقص فرحاً، ولكنَّ العادة في فلسطين أن يتقدَّم الرجل بخطبته إلى المرأة مباشرةً، خاصَّة المرأة الثيِّب.

هنا نظر أبي إليَّ ليتأكَّد من صحَّة كلام أسعد. فهززتُ رأسي أي نعم بجدِّيةٍ وتشجيع.

في تلك الأثناء، عادت أم أسعد إلى الغرفة، واتخذتْ مقعدها قبالة والدي.

نظر والدي إليها، ثم نظر إليّ وإلى أسعد، وكأنُّه يشكُّ في المعلومات التي حصل عليها منا.

ثم قال بهدوء للسيّدة أم أسعد:

ـ هل صحيح أنك تودّين أن تتزوجي؟

هنا فوجئت السيدة أم أسعد بهذا السؤال من رجل غريب، فرفعت صوتها باندهاش قائلة:

ـ اسم الله، ورجلي فين أديه؟؟!!!

قال والدي بنبرة اعتذار:

ـ هذان الملعونان حاولا أن يورطاك.

بعد خروجنا من المستشفى أصبحنا أنا وأسعد صديقين، خاصة أن لنا صديقاً مشتركاً هو رفيق الحريري الذي كانت تجمعه بنا ميوله السياسية العروبية.

بعد مغادرتنا الجامعة، بقيتُ أتابع نضال أسعد السياسي والأكاديمي، ولم ألتقِ به سوى مرّتيْن: مرّةً عندما أمضيت شهر العسل أنا وزوجتي في فلسطين، ومرّةَ عندما كان مديراً عاماً لمؤسَّسة عبد الحميد شومان الثقافية في عمّان. لقد انتُخب أسعد عضواً في المجلس المركزي الفلسطيني منذ سنة 1979، وعضواً في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية منذ سنة 1996، وواصل دراسته بقسم العلوم السياسية في جامعة كالجري ـ ألبرتا في كندا وحاز الدكتوراه سنة 1973 بإشراف العراقي الكندي الدكتور طارق إسماعيل، الذي درس الابتدائية في بلدتي " الحمزة الشرقي " حيث كان والده مفوضاً للشرطة، وكان أخوه الأصغر خالد إسماعيل صديقي وزميلي في تلك المدرسة الابتدائية. وقد ألّف الدكتور أسعد عبد الرحمن حوالي خمسة عشر كتاباً عن القضية الفلسطينية والحركة الصهيونية، واختاره ياسر عرفات (1929 ـ 2004) عند تشكيل وزارة السلطة الفلسطينية، مكلَّفاً بملف اللاجئين الفلسطينيِّين.

تقييم النص

يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا

التعليقات

انه ذلك التطابق الشفيف بين الشخصية و المؤلف والسارد ليأتينا هذا "المقطع العرضي" لـلــ "السيرة الذاتية" للدكتور المبدع علي القاسمي هذا البهاء... حيث تتعالق و تتواشج بمرونة مع الرواية لترصد هذا الكم الهائل من الأحداث و المواقف. دمت متألقا عاليا أستاذنا الكبير
الحسين بوخرطة

07-06-2021 06:05

إن ما تتحفنا به صحيفة آفاق معرفية كل مرة، تحت إشراف مدير ورئيس تحريرها، يزج بنا، ونحن نتأمل كلمات وسطور موادها المختلفة والمتنوعة منبهرين بقامة كتابها ومكانتهم الفكرية والعلمية، في عالم الرقي الفكري والحماس المستفيض للتفكير في أدوار مفكرينا والحاجة إلى تكثيف التفاعل بين المثقفين القدامى والجدد. الدكتور العلامة علي القاسمي يمثل نموذج حياة إنسان عربي بمراحل زاخرة بالدروس والعبر. إنه تعبير عن مستويات عليا لتلاقح وتناقح وتراكم الأفكار بين زعامات الثقافة عربيا، والتي تحولت إلى ينبوع لا ينضب ترتوي منه الأجيال بدون انقطاع. كلما زاد الإقبال المستمر على مواده الحيوية وإبداعاته الفكرية والأدبية، كلما ارتفعت مردودية محاصيله ومحاصيل المتفاعلين والمتعاملين معه. إنه نموذج يحتدى به، ومرجع بقيمة ثمينة، وأمل في تشكل منظمة عربية للفكر والمعارف والعلوم المختلفة بتمثيليات ترابية تمتد من الخليج إلى المحيط.

التعليقات

إدراج الإقتباسات...