طرائف الذكريات عن كبار الشخصيات / حفيدة كارل ماركس زوجة جاري أحمد الأخضر غزال

طرائف الذكريات عن كبار الشخصيات / حفيدة كارل ماركس زوجة جاري أحمد الأخضر غزال


  كان جاري في شاطئ الهرهورة، قرب الرباط، اللغوي المغربي المعروف أحمد الأخضر غزال  ( 1917 ـ 2008). وكانت لي علاقات علمية وثيقة معه قبل أن أصبح جاره في الهرهورة. وكان يكبرني بثلاثين عاماً على الأقل، وقد تعلّمت من أبحاثه اللغوية كثيراً، خاصة كتابه " "التعريب المواكب" الذي يبسّط فيه أشكال الحروف العربية التي ابتكر خطّها بطريقة تتلاءم مع المحارف المحدودة العدد في المطابع الحديثة. كما ابتكر الشفرة العربية للحروف العربية في الحاسوب، وهي الشفرة التي تبنّتها المنظَّمة العربية للتربية والثقافة والعلوم.  وكان يعمل مديراً لمعهد الدراسات والأبحاث للتعريب بالرباط منذ تأسيسه في مطلع الستينيّات من القرن العشرين حتى تقاعده في أواخر القرن. وقد أسس في هذا المعهد أوَّلَ بنك كلمات عربي اسمه " قاعدة المعطيات المعجمية ".

       في الأسبوع الأول من انتقالي إلى دارتي في الهرهورة، تركتُ سيارتي ـ مضطرّاً ـ بباب مرأبه (كراجه) لأخذ شيء من الدارة والعودة إلى السيّارة بسرعة.  

       عندما خرجتُ من دارتي بعد دقائق معدودة وجدتُ زوجة  أحمد الأخضر غزال ، وهي فرنسيّة في الستين من عمرها آنذاك، واقفة أمام المرأب، فسارعتُ بالاعتذار إليها باللغة الفرنسية قائلاً بأدب:

       ـــ آسف، يا سيدتي، أعتذر عن خطأي، أرجو أن تغفري لي زلتي فقد كنتُ على عجل، ولن أكرّر هذا الخطأ البتة. وبالمناسبة، أنا لم أتشرف بمقابلتك من قبل. اسمي علي، وأعدّ نفسي أخاً أصغر للأستاذ الكريم زوجك.

       أجابت بالفرنسية جادّة: 

ـــ حتى الأخ الصغير يحتاج إلى جرّ أذنه بين الفينة والأخرى.

       عندما رويتُ ما حدث لأحد الأصدقاء المشتركين، قال لي:

       ـــ من حقّها أن تتكلَّم بهذا الوضوح وتلك الصرامة، فهي حفيدة كارل ماركس (1818 ـ 1883).

       قلتُ له: هل تمزح؟

       قال: لا، أنا جادٌّ تماماً.

       بعد مدّة رويتُ ما قاله هذا الصديق لصديق آخر من المطّلعين على بواطن الأمور، فأكّد لي ما صرّح به الأوّل. 

       توثّقت علاقتي بالأستاذ أحمد الأخضر غزال وزوجته الفاضلة. وبعد سنوات حينما كان الأستاذ في التسعين من عمره المبارك، دعاني مرة لتناول العشاء معه وحدّد الساعة السابعة موعداً للقاء في داره، وقال:

       ـ سنأكل في هذه الوجبة " الببوش"

والببوش أكلةٌ مغربيةٌ شعبية تتألَّف من القواقع البحرية المغلية بالأعشاب والبهارات. وقد أحببتُها ـــ أنا ذو الجذور البدوية الصحراوية ـــ محبَّتي  المغرب والمغاربة. 

       عندما طرقتُ باب منزل الأستاذ أحمد الأخضر غزال، خرجت زوجته الفاضلة وقالت لي:

       ـ تفضّل أدخل.

ولمّا كانت تربيتي لا تسمح لي بدخول منزلِ صديقٍ ليس موجوداً حتّى لو كانت زوجته في الثمانينيات من عمرها، قلت لها:

       ـــ ولكن، أين الأستاذ؟

       أجابت: لقد ذهب بعد الظهر إلى فاس لأمر يقضيه، وقد أخبرني هاتفياً أنه الآن يقترب من الرباط وطلب مني أن أرحّب بك ريثما يصل.

       قلتُ لها محاولاً تمضية أطول وقت ممكن خارج المنزل: وهل السائق معه؟

       قالت : لا، أنه يقود السيّارة بنفسه.

       قلتُ محتجّاً: ولكن هذا يُتعبه. كيف يسوق رجل في مثل سنّه ست ساعات في نصف نهار؟

       قالت: إنه معتاد على ذلك.

       في تلك الأثناء، وصل الأستاذ الأخضر غزال ودخلنا جميعاً إلى المنزل. أثنيت على صلابته وقوته داعياً الله أن يمتّعه بالصحَّة وطول العمر، ونصحته بالحذر من قيادة السيّارة. فقام الأستاذ وأخرج من الخزانة خوذة عسكرية. أراني رصاصةَ اخترقت الطبقة الأولى من الخوذة، وتوقّفت عند الطبقة الثانية منها. وقال: 

       ـــ هذه خوذتي التي كنتُ اعتمرها في إحدى معارك الحرب العالمية الثانية بعد أن جنّدني الفرنسيّون. وأنا الآن ألعب في الوقت الضائع، والأعمار بيدِ الله.

       اغتنمتُ فرصة ذلك العشاء لأسأل عما سمعته قبل ربع قرن من أن السيدة الفاضلة زوجته هي حفيدة كارل ماركس. فقالت:

       ـ لا، نعم. كان جدّي من أبرز زعماء الحزب الشيوعي الفرنسي ومن منظّريه وشرّاح كتاب " رأس المال" لكارل ماركس حتى لُقِّب بـ " كارل ماركس".

       كان الأخضر غزال ذو أصول أمازيغية جزائرية ومن أحرص الناس على تنمية اللغة العربية والتحدّث دائما بالفصحى. وتروى نكات كثيرة عن تمسّكه باستعمال الفصحى مع بسطاء الناس. وقد روى لي هو شخصياً كيف أنه كان يجلس في مقهى ذات يوم فأقبل عليه النادل وسأله ما إذا كان يحتاج " السندرييه". والسندرييه كلمة فرنسية تعني الصحن الذي يوضع فيه رماد السجائر، ويسميه العراقيون بـ " المنفضة" التي وردت في إحدى قصائد عبد الوهاب البياتي التي يتوعّد بها الحكّام الخونة: " سنجعل من جماجمهم منافضَ للسجائر" .

       المهمُّ أن نادل المقهى سأل الأخضر غزال ما إذا كان يحتاج " السندرييه". أمسك الأخضر غزال بيد النادل، وقال له:

ـ يبدو أنك كنتَ مهاجراً إلى فرنسا وعدتَ إلى المغرب مؤخَّراً.

قال النادل: نعم، هذا صحيح. كيفَ عرفتَ؟

قال الأخضر غزال: لأنك تسمّيها " سندرييه". وقد أخذ الناس هنا يسمونها منذ زمن طويل " المرمدة"، اسم آلة من الرماد على وزن "مفعلة".(ولكن في واقع الأمر، فقط الأخضر غزال يسميها “مرمدة”)

قال النادل: إذن أنتَ لستَ بحاجة إلى " المرمدة"؟.

       ويولي الأستاذ الأخضر غزال اهتماماً خاصاً لتعريب المصطلحات الحضارية، وهو الذي وضع مصطلح (حاسوب) ليحلَّ محل (العقل الإلكتروني) و(الحاسب الآلي) و (الكمبيوتر)، بل ليحل كذلك محل مصطلح (الرتابة) الذي وضعه هو نفسه مقابلاً لـ (ordinateur) الفرنسية لينافس به مصطلح (النظّامة) الذي وضعه غريمه لغوياً الأستاذ عبد العزيز بنعبدالله مدير مكتب تنسيق التعريب بالرباط آنذاك. وقد كُتِب لمصطلح (الحاسوب) القبول والذيوع والانتشار، ربما لسهولة الاشتقاق منه مثل (حوسبَ) و(حاسوبي) و (محوسَب)، إلخ. وهو على وزن (فاعول) الذي يستعمل في العربية لتسمية الآلات الضخمة مثل ناعور، وصاروخ. وقد تردَّد مجمع اللغة العربية بالقاهرة في قبول هذا المصطلح حتى مؤتمره الحادي والسبعين، عندما قدَّم المجمع وثيقة يستخدم فيها (الحاسب الآلي) ثمَّ لاحظ بعضنا أن الوثيقة نفسها تستعمل الفعل (حوسبَ)، فقلنا: مادام المجمع قبل الفعل فلا بدّ أن يقبل الاسم (حاسوب) كذلك. وهكذا كان. 

       وسمعت نادرة أخرى رويت عن الأستاذ أحمد الأخضر غزال. يُقال إنه أخذ سيّارته ذات مرَّة إلى ميكيانيكي وطلب منه إصلاح (المِقوَد)، فتساءل الميكانيكي الذي يستعمل عادة المصطلحات الفرنسية لأجزاء السيارة عن معنى المقود، فأشار الأستاذ إلى (السكّان) قائلاً إنه المِقوَد الذي تقود به السيارة. وعندما عاد الأستاذ في المساء لاستلام سيّارته، قال له الميكانيكي:

ـ لقد أصلحنا (المقود) وبقي (المِخزَق)، فقد اكتشفنا أنه بحاجة إلى إصلاح كذلك. وقد اشتقَّ الميكانيكي كلمة المخزق من (الخزاق) وتعني باللهجة المغربية (الضراط).

       وللأستاذ أحمد الأخضر غزال عدة أشقاء ذكور منهم الدكتور محمد الأخضر الذي كان أستاذاً في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. وقد اشترك مع عميدها الدكتور محمد الحجي (1923 ـ 2003)، مؤسّس " معلمة المغرب"، في ترجمة كتاب " وصف أفريقيا " الذي ألفه الحسن الوزان (1488 ـ حوالي 1554) باللاتينية، ويصف فيه شمال أفريقيا جغرافياً وتاريخياً وسياسياً واجتماعياً. وكان الحسن الوزان، أحد علماء المغرب، وسفيراً لسلطانها، وقد اختطفه القراصنة الإيطاليون مع ركّاب سفينة  وقدَّموه هديةً للبابا ليو في روما، الذي حمله على اعتناق المسيحية، وخلع عليه اسمه وصار يُعرف بـ (ليو الأفريقي) ويدرِّس اللغة العربية في جامعة الفاتيكان قبل أن يختفي في تونس إثر رحلة قام بها. ولهذا الكتاب ترجمة أخرى أنجزها الدكتور عبد الرحمن حميدة الأستاذ في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض ونشرتها الجامعة سنة 1399هـ/1979م.

تقييم النص

يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا

التعليقات

محمد علام

26-06-2021 06:09

لقد سبق للاستاذ غزال ان التقيت به في عملي كتقني كهرباء بشركة توزيع الكهرباء بتمارة وسالني هل تعرف ما معنى كلمة العلام في اللغة العربية فقلت له هي من يحمل العلم عند الحروب قال لي لها معنى اخر.. هو الطير الحر

التعليقات

إدراج الإقتباسات...