قلوب ٌ وأَيد ٍ

قلوب ٌ وأَيد ٍ


قصة: أو. هنري

ترجمة: تامي الشيخ علي

 

في دنفر كانت ثمة َ حشود ٌ من الرّكاب ِ تتدفقُ إلى عربات القطار السريع

" بي آند إم " المتوجهِ شرقاً. في إحدى العربات كانت ثمة َ امرأة ٌ شابة ٌ فائقة الجمال تجلسُ وقد نمتْ ثيابها عن ذوق ٍ رفيع ٍ محاطة ً بكل أسباب الراحة والرفاهية التي يتميزُ بها مسافر ٌ متمرّس. بين الوافدين الجدُد ِ كان ثمة َ رجلان شابّان أحدُهما بهيُّ الطلة ِ وذو ملامح جريئة ٍ وصريحة ٍ وأنيقُ اللباس ِ، فيما كان الآخرُ شخصاً مكدَّراً كالح َ الوجه مفطوراً على الجدّية ِ ومضطربَ اللباس. وكان كلّ ٌ منهما مقيداً إلى الآخر.

حين طفقا يعبران ممشى العربة كان المقعد الشاغر الوحيد المتبقي هو المقعد المعكوس المواجه للشابة الجذّابة، فجلس الاثنان اللذان رُبطَ كلٌّ منهما بالآخَر عليه.

وقعت نظرة ٌ من المرأة الشابّة عليهما بلا مبالاة ٍ رشيقة ٍ ونائية ٍ ثمّ، وبابتسامة أضفت على ملامحها المزيدَ من السطوع والإشراق وبتورّد ٍ رقيق ٍ اعتلى وجنتيها، مدّتْ يداً صغيرة ً مكسوّة ً بقفاز ٍ رماديّ. وحين تحدّثتْ دلّ صوتها العذبُ الجهوريُّ والمتروّي على أن صاحبته معتادة ٌ على التحدّث وعلى وجود ِ منْ يسمعها. قالت:

- حسن ٌ يا سيد إيستون. إن كنتَ ترغب في دفعي إلى التكلّم أوّلا ً فإنني أعتقد أن عليَّ أن أفعل ذلك. ألا يمكنك أبداً أن تميّز َ الأصدقاء القدامى عندما تقابلهم في الغرب؟

أوقظ الشابُّ الأصغرُ نفسهُ على نحو ٍ حادّ ٍ لدى سماع صوتها وبدا أنه كان يكافح ارتباكاً طفيفاً طرأ عليه لم يلبث أن طرَحهُ على الفور ثمّ شبكَ أناملها بيده اليسرى وقال مبتسماً:

- الآنسة فيرتشايلد! سأطلبُ منك ِ أن تعذري يدي الأخرى فهي مشغولة ٌ الآن.

ورفعَ يدَهُ اليمنى على نحو  طفيف ٍ وكانت تكبلها عند الرُّسغ ِ إلى يد ِ رفيقه اليسرى "إسوَرَة ٌ " برّاقة ٌ، فاستحالت النظرة ُ المسرورة ُ في عيني الفتاة وببط ء ٍ إلى رعب مرتبك. بهت التوهجُ في وجنتيها وانفرجتْ شفتاها في أسى ً مسترخ ٍ وغامض. ضحك إيستون ضحكة صغيرة وكأن ذلك أمتعهُ، وكان على وشك التكلم مرة أخرى عندما سبقه الآخر ُ إلى ذلك. كان الرجلُ ذو الوجه الكالح ِ يراقب ملامحَ الفتاة بنظرات ٍ خفية ٍ من عينيه الحادّتين. قال:

- معذرة ً إن تكلمتُ أيتها الآنسة غير أني أرى أنك تعرفين الماريشال. لو طلبْت ِ منه أن يتحدّث َ عني بكلمة ٍ عندما نصل إلى السجن فسوف يقوم بذلك، ولسوف يسهلُ هذا الأمورَ بالنسبة إليّ. إنه يأخذني إلى سجن " ليفن وورث " وإنها فترة ُ سبع ِ سنوات ٍ بسبب التزوير.

قالت الفتاة ُ بنفس ٍ عميق ٍ وقد استعادت لونها:

- أوه. هذا ما تفعله هنا إذن؟ ماريشال !!

قال إيستون بهدوء:

- عزيزتي الآنسة فيرتشايلد. كنتُ مرغَماً على القيام بشيء ٍ ما، فالنقود تبدو وكأنها تكتسبُ أجنحة ً وتعرفين أن المرء يحتاج إلى نقود ٍ ليجاري أقرانه ُ في واشنطن. لقد أبصرْتُ هذه الفتحة في الغرب و..... حسن ٌ، ليست الماريشالية ُ منصباً رفيعاً كمنصب السفير تماماً، ولكن.....

قالت الفتاة بدفء ٍ:

- لم يَعد ِ السفيرُ يتّصل، ولم يكن في حاجة قَطُّ إلى ذلك. عليك أن تعرفَ هذا. إذن أنت َ الآن واحد ٌ من أولئك الأبطال الغربيّين البواسل، تمتطي صهوة َ الحصان وتُطلق ُ النارَ وتتوغلُ في جميع أنواع المخاطر، وهذا يختلف عن الحياة في واشنطن. الأصدقاء القدامى يفتقدونك.

وعادت عينا الفتاة مبهورتين وقد اتسعتا قليلا ً لتستقرّا على الأصفاد المتلألئة. قال الرجل ُ الآخر:

- لا تقلقي بشأنها أيتها الآنسة فجميع ُ الماريشالات يكبلون أنفسهم مع سجنائهم ليمنعوهم من الهرب. السيّد إيستون يعرف عمله.

تساءلت الفتاة قائلة:

- هل سنراكَ في واشنطن مرة أخرى عما قريب؟؟

قال إيستون:

- ليس عما قريب على ما أعتقد إذ أخشى أن تكون أيامي الصاخبة قد ولتْ.

قالت الفتاة على نحو ٍ لا صلة له بالموضوع:

- أعشقُ الغرب.

كانت عيناها تشعان على نحو ٍ رقيق ٍ وسرَحتْ بنظرها خارج نافذة العربة. طفقتْ تتحدّث بصدق ٍ وبساطة بعيداً عن بهرجات الترف والتكلف:

- قضينا، أنا والماما، الصيف َ في دنفر. رجعتْ هي إلى المنزل قبل أسبوع لأن أبي كان متوعكاً بعض الشيء. كان في مقدوري أن أعيش َ وأن أكون َ سعيدة ً في الغرب. أعتقد أن الهواء هنا يلائمني. النقود ليست كلّ شيء غير أن الناس دائماً يسيئون فهم َ الأمور ويبقون أغبياء.

دمْدَمَ الرجلُ ذو الوجه الكالح قائلا ً:

- حسن ٌ أيها السيد الماريشال. هذا ليس عدْلا ً. إنني في حاجة إلى مشروب ولم أدخنْ طيلة َ اليوم. ألم تتحدّثْ لفترة طويلة كافية ؟؟ خذني إلى جناح المدخنين الآن فأنا أستعِرُ شوقاً إلى تدخين غليون.

نهض المسافران المكبلان على أقدامهما وقد ارتسمتْ على وجه إيستون الابتسامةُ البطيئةُ نفسها. قال بمرح:

- ليس في مقدوري أن أرفضَ التماساً للسماح بالتدخين. إنه الصديقُ الوحيدُ لسيئي الطالع. وداعاً أيتها الآنسة فيرتشايلد فالواجب يدعوني كما تعلمين.

ومدَّ يدَهُ لتوديعها. قالت وهي تعيد إضفاءَ سمات ِ الترف والتكلف على نفسها:

- من المؤسف للغاية أنكَ لستَ ذاهباً إلى الشرق. يتحتم ُ عليك َ الذهابُ إلى " ليفن وورث " على ما أعتقد ؟؟

قال إيستون:

- أجلْ. عليَّ الذهاب إلى " ليفن وورث ".

ومشى الرجلان بشكل ٍ جانبيّ ٍ في ممشى العربة مُتجهين ِ إلى جناح المدخنين. كان الراكبان الجالسان في مقعد ٍ قريب ٍ قد سمعا معظم َ أطراف المحادثة. قال أحدُهما:

- إن ذلك الماريشال ينتمي إلى صُنف ٍ ممتاز ٍ من الرجال. بعضُ هؤلاء الغربيين على حقّ.

سألهُ الآخر:

- أليسَ صغيراً على شغل ِ منصب ٍ كهذا؟؟

فهتفَ المتحدّث ُ الأوّلُ قائلا ً:

- صغيراً ؟؟ يا لَلعجب !! ألمْ تدرك ما الأمر؟؟ هل تناهى إليك قطُّ أن ضابطاً يمكن أن يكبلَ سجيناً بيدِهِ اليمنى ؟؟

***

 

.......................

 أو. هنري: هو الاسمُ الأدبيُّ، أو الاسمُ المستعارُ، للكاتب الأمريكي ويليام سيدني بورتر.

- وُلدَ عام 1862 في غرينسبورو في ولاية كارولاينا الشمالية في الولايات المتحدة.

- تلقى تعليمه في مسقط رأسهِ ثم عمل في صيدلية عمهِ لمدّة خمس سنوات.

- في عام 1882 انتقل إلى تكساس وفيها أصدر مجلة أسبوعية ً ساخرة لم تدُمْ طويلا ً، ثم استلم عموداً في صحيفة " هدسون ديلي بوست" اليومية.

- بعد ذلك توظفَ في مصرف أوستن.

- في عام 1894 اتهمَ بالاختلاس، ففرَّ إلى نيو أورليانز ثم إلى هندوراس ولم يعدْ منها إلا عام 1897 حين سمع أن زوجته مصابة بمرض ٍعضال ٍ لا سبيل إلى الشفاء منه وأنها قيد الاحتضار.

- في أوهايو حكمتْ عليه إصلاحية ُ المجرمين الفيدرالية ُ بالسجن خمس سنوات، قضى منها فعلياً ثلاث سنوات في سجن تلك المدينة من عام 1898 إلى عام 1901.

- في السجن قابل حارساً كان في غاية اللطف والإنسانية معه، وكان اسمُ الحارس أورين هنري، واعترافاً بصنيع ِ ذلك الحارس معه تسمى باسمهِ في كلّ كتاباته، وكان قد بدأ كتابة القصص في السجن.

  في عام 1902 جاء إلى نيويورك، وبدأت قصصه تنهمر على المجلات، وكان

إنتاجهُ لمدّة ثماني سنوات غاية ً في الغزارة إذ خلفَ أكثر من ستمائة قصة كاملة.

 في عام 1904 نشر روايته الوحيدة " ملفوف وملوك "، وكان في الثانية والأربعين من عمره آنذاك.

- في عام 1906 نشر مجموعته القصصية " الملايين الأربعة" التي رسختهُ في عالم الأدب.

- توفي أو. هنري ( ويليام سيدني بورتر) عام 1910 بداء السلّ ودُفنَ في أشيفيل في كارولاينا الشمالية.

- من أشهر أعماله: " الملايين الأربعة" (قصص)، " المصباح المزركش" ( قصص)، " قلب الغرب" (قصص)، " صوت المدينة" (قصص) و" طرُق القدَر" (قصص).

تقييم النص

يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا

التعليقات

الحسين بوخرطة

16-06-2021 06:05

قلوب وأيد صورة في قصة تثير التشويق والقراءة من البداية إلى النهاية. هنيئا للمترجمة تامي الشيخ علي على هذا المجهود. تحية ومودة.

التعليقات

إدراج الإقتباسات...