أبو نواس..صفحات مطوية من حياته

أبو نواس..صفحات مطوية من حياته


قبل الحديث عن أبي نواس 

وكشف المستور من حياته، نذكر معنى كنيته التي شغلت الناس قبل أن يشغلهم شعره ولهوه وعبثه. قال صاحب “خزانة الأدب” “1 /347 ” : “وَإِنَّمَا قيل لَهُ ‌أَبُو ‌نواس لذؤابتين كَانَتَا لَهُ تنوسان على عاتقة، والذؤابة: الضفيرة من الشّعْر إِذا كَانَت غير ملوية فَإِن كَانَت ملوية فَهِيَ عقيصة، والذؤابة أَيْضًا طرف الْعِمَامَة وناس ينوس إِذا تدلى وتحرك والعاتق مَا بَين الْمنْكب والعنق وَهُوَ مَوضِع الرِّدَاء.

يعدُّ أبو نواس من فحول شعراء العربية بلا منازع، وهو صورة مشرقة في سجل الشعر العربي القديم بلا مدافع، عاش ومات ملء السمع والبصر، وجودة شعره وعلو مرتبته اتفق عليها المحبون والمبغوضون جميعًا من النقاد والمحققين ذوي البصر؛ فشعره كله أو جله يدور بين الجد والهزل، وزهده ومجونه ظاهران في شعره! سئل البحتريُّ: أمسلم أشعر أم ‌أبو ‌نواس؟ فقال: بل ‌أبو ‌نواس، وعلل ذلك بقوله:” لأنه يتصرف في كل طريق، ويبرع في كل مذهب: إن شاء جد، وإن شاء هزل. وهذا ليس غريبًا، فقد عرف النقاد منه ذلك، أما أنصاف متعلمي ومثقفي اليوم فلم يروا منه       “الحسن ابن هانئ” إلا في جانب اللهو والعبث، ولم يحفظوا من شعره إلا شعره في الخمريات، على أنني ليس من غايتي -في هذا المقال- تحقيق القول في شاعرية أبي نواس، والكلام في جده وهزله، فهذا مما يعرفه سواد الناس، والكتب بحمد الله مطبوعة ومنشورة، لكن الذي يعنيني هنا هو إظهار ما خفي من شخصيته، فوراء شاعريته جد كثير وعلم كبير، وحسبك أن إمامين كبيرين كابن السكيت وابن جني تتلمذا عليه!

وابن السكيت إمام لغوي كبير، وهو من أعلام الأدب، وصاحب الكتاب المشهور” إصلاح المنطق –” قال المبرد: ما رأيت للبغداديين كتابًا أحسن منه، وله كتاب في “تفسير شعر أبي نواس” نحو ثمانمائة ورقة. أما ابن جني فيلسوف النحو، وعبقري اللغة، فحسبه أن منزلته من المتنبي منزلة التلميذ والصديق الشارح لديوانه، وكان المتنبي يقول: ابن جنّي أعرف بشعري. مني”.وقد أورد ذكر أبي نواس في عدد من كتبه : “المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها“، و”الخصائص”، و”سر صناعة الإعراب”، ولم أر له ذكرًا في كتب ابن السكيت ولا في كتب القراءات، فكأنما تحاشوه ذكره لإكثاره ذكر الخمر ومعاقرته لها.

كان أبو نواس عالمًا فقيهًا، متكلمًا جدلًا، راوية فحلًا، رقيق الطبع، ثابت الفهم، عارفًا بالأحكام ، بصيرًا بالاختلاف، صاحب حفظ ومعرفة بطرق الحديث، يعرف ناسخ القرآن ومنسوخه، محكمه ومتشابهه، وقد تأدبّ بالبصرة، وهي يومئذٍ أكثر بلاد الله علمًا وفقهًا وأدبًا، وكان أحفظ لأشعار القدماء والمخضرمين وأوائل الإسلاميين والمحدثين. عن أبي نواس أنه قال: ما ظنكم برجل لم يقل الشعر حتى روى دواوين ستين امرأة من العرب منهن الخنساء وليلى فما ظنكم بالرجال؟ قال ‌أبو ‌نواس: “أحفظ سبعمائة أرجوزة، وهي عزيزة في أيدي الناس”. ومن يصدق من شبابنا المهتمين بالقراءات أن أبا نواس قرأ القرآن الكريم على أحد أبرز القراء العشرة ” يعقوب بن إسحاق الحضرمي” وقد أجازه يعقوب وشهد له بأنه أقرأ أهل البصرة!. ومن يؤمن بأنه “النواسي” كتب الحديث عن جهابذة الحفاظ في علم الحديث مثل يحيى القطان. أما اللغة اللغة والغريب والأدب فقد درسها على شيخ سيبويه أبي زيد الأنصاري ، ونظر في كتاب سيبويه، وأخذ عن خلف الأحمر معاني الشعر، وعن أبي عبيدة معمر بن المثنى أخبار العرب وأيام الناس، وحفظ وحصل كثيراً. وقد وصفه الجاحظ –”الحيوان 2/ 27 بالعالم الراوية، وحكى ابن المعتز في طبقات الشعراء ص 201، قال: «كان أبو نواس عالمًا فقيهاً، عارفاً بالأحكام والفتيا،.. “.وقال ابن منظور في “مختار الأغاني” 3/ 17: «كان أبو نواس متكلمًا جدلًا، راوية فحلاً، ..». قال البغدادي في “خزانة الأدب “1 / 348” :”قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: “‌أَبُو ‌نواس للمحَدثين مثل امْرِئ الْقَيْس للْمُتَقَدِّمين وشعره عشرَة أَنْوَاع، وَهُوَ مجيد فِي الْكل، وَمَا زَالَ الْعلمَاء والأشراف يروون شعره ويتفكهون بِهِ ويفضلونه على أشعار القدماء”، وَقَالَ أَبُو عَمْرو الشَّيْبَانِيّ:” لَوْلَا أَن أَبَا نواس أفسد بِهَذِهِ الأقذار يَعْنِي الْخُمُور لَا حتججنا بِهِ لِأَنَّهُ كَانَ مُحكم القَوْل لَا يُخطئ”. وديوان شعره مُخْتَلف لاخْتِلَاف جامعيه فَإِنَّهُ أعتنى بجمعه جمَاعَة مِنْهُم أَبُو بكر الصولي وَهُوَ صَغِير وَمِنْهُم عَليّ بن حَمْزَة الْأَصْبَهَانِيّ وَهُوَ كَبِير جدا وَكِلَاهُمَا عِنْدِي وَللَّه الْحَمد على نعْمَة. قال عنه الجاحظ: ما رأيت رجلًا أعلم باللغة ولا أفصح لهجة من أبي نواس، وقال عنه الإمام الشافعي رضي الله عنه: لولا مجون أبي نواس لأخذت عنه العلم، توفي سنة 198هـ.

قال الرياشي: وجدت تحت الفراش الذي مات عليه ‌أبو ‌نواس رقعة مكتوب فيها هذه الأبيات:

يا ربّ إن عظمت ذنوبي كثرة      فلقد علمت بأنّ عفوك أعظم

إن كان لا يرجوك إلا محسن         فبمن يلوذ ويستجير المجرم

أدعوك ربّ كما أمرت تضرّعا            فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم؟

مالي إليك وسيلة إلا الرجا           وجميل عفوك ثم أنّي مسلم

وقال أيضًا :

إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل   خلوت، ولكن قل عليّ رقيب

ولا تحسبنّ الله يغفل ساعة            ولا أنّ ما يخفى عليه يغيب

رحم الله أبا نواس، وكم في الناس مثله علم عظم عفو الله

تقييم النص

يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد ! كن أول المعلقين !

التعليقات

إدراج الإقتباسات...