الوصية / من مجموعة (رسالة إلى حبيبتي) القصة رقم 8

الوصية / من مجموعة (رسالة إلى حبيبتي) القصة رقم 8


 

       وأنتَ مُسَجّى على فراشك، يا أبي، تجابهُ خصمَكَ العاتي في معركةٍ أخيرة خاسرة لم يربحها أَحدٌ قبلك، أمسكتُ يَدَكَ اليمنى بكلتا يديّ، وأنا مُطأطئ الرأس. ودون أن أرفع وجهي إليك، ضممتُ يدكَ إلى موضع القلب من صدري. قرَّبتُها من فمي. لثمتُ أصابعك الخمسة واحداً واحدا، بشفتَيّ وأنا صامت. تسربتْ منها رائحةُ المسك إلى أنفي. ما أطيبَ رائحتكَ، يا أبي! أمررتُ راحة كَفِّك على خديّ. أحسستُ بيدك ثقيلةً جافة؛ ولطالما كانت هذه اليد تمسّد شَعري بخفَّة، وتمسح دموعي برقّة. وكمن يخشى المجهول، صعّدتُ نظري إلى وجهك على مهل، فأبصرتُ لحيتك التي كفّنها الشيب، وشفتيْكَ الذابلتين، وخدَّيْك الشاحبيْن قبل أن تلتقي عيناي بعينيْك الوَسنَييْن.

       لا بُدَّ أنَّكَ كنتَ تحاول، منذ برهةٍ، مخاطبتي بعينيْكَ، بعد أن ثَقُلَ لسانُك وخَفَتَ صوتُك. نعم، كنتَ تريدني أَن أَرى ما تريد بلحظِ عينيْك، فأنا لم أَنسَ حكايتَك عن الصديقيْن الحكيميْن اللذيْن كانا يتحاوران بأعينهما في مجلسٍ عامٍّ بلا صوت ولا إشارة، فيفهم أحدُهما الآخر، في حين لا يعي بقيةُ الجلساء شيئاً مما يجري بحضرتهم، على الرغم من إدراكهم بأنَّ أمْراً ما يحدث في الهواء. صوَّبتَ نظركَ إليّ، فحاولتُ أن أُخفي عنك دموعي المترقرقة في المآقي. بذلتُ أقصى جهدي، وتمالكتُ نفسي، كيلا تنحدر دمعةٌ واحدةٌ على خدّي فتلحظها وأنتَ على ذلك الحال. فأنا أريدك أن تعرف، يا أبي، أَنَّني أُحبُّكَ وأُطيعك، وسأفعل كلَّ ما أمرتَني بهِ، حتّى بعد رحيلكَ عنّا، يا أبي. نعم علَّمتَني مرارًا، في كلِّ مرَّةٍ بكيتُ فيها، أَنَّني أصبحتُ رجلاً، ولا يليق البكاءبنا، نحن الرجال. نعم، يا أبي، لن أبكي، لأنني لمْ أَعُدْ طفلاً، فأنا قد بلغتُ العاشرة.

       صوّبتَ نظرَك إليّ. وبعد أَنْ استقرَّتْ عيناك على عينَيَّ هنيهة، أدرتَ مقلتيْكَ نحو جدار غرفتنا الوحيدة، حيث يوجد رفٌّ وضعتَ عليه كُتُبكَ العتيقة، وفوقَها علّقتَ سيفَ جدي القديم. ثمَّ عادت مقلتاكَ إلى عينَيّ، واستقرَّتا عليهما برهة، ثُمَّ استدارتا ثانيةً صوب الكُتُب والسيف. وعند ذاك، قلتُ لك بصوتٍ متهدِّج ـ هازًا رأسي بإشارة ٍواضحةٍ، خشية أن يتعذر عليك سمعي:

 ـ : " نعم، فهمتُ، يا أبي. استوعبتُ قصدك، يا أبي. أَعِدك بأنّي سأفعل ما تروم. سأواظب على قراءة القرآن كلَّ صباح، حتّى إِنْ لم أفهم ما أقرأ. فستحلُّ البركة في الدار، في كلِّ مرَّةٍ أتلو فيها القرآن، ويكثر الرزق. وإذا كنتُ حيّا عند ظهور المهدي في آخر الزمان، ليملأَ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما مُلِئتْ ظلماً وجورًا، سأمتشقُ سيفَ جدي القديم، وأنضمُّ إلى أنصاره، لأفديه بنفسي. سأجلو السيَف بين آونةٍ وأُخرى، ليبقى دومًا حادًا بتارًا، كما كنتَ تجلوه أمامي. اطْمئنْ، يا أبي، لن يصدأَ سيف جدي، فأنا أعرف كيف أضع الزيت على نصله، وأمسحه بِخرقةٍ نظيفة، ثم أُعيده بعنايةٍ إلى غِمْده، وأعلِّقه من حمّالته في مكانه فوق رفِّ الكتب، كما كنتَ تفعل تمامًا."

وما إن أتممتُ قولي، حتّى لاح لي خيالُ ابتسامةٍ على شفتيكَ، فغمرتني سعادةٌ حزينة.

       ثمَُّ استقرتْ عيناك على عينَيَّ هنيهة، وأدرتَ مقلتيكَ تجاه أُمّي وأخواتي الصغيرات اللواتي كانت تنسكب عبراتُهنَّ بصمتٍ في الجانب الآخر من فراشك، فأسرعن إلى مسح دموعهن، ورسم ابتساماتٍ يائسةٍ بائسةٍ على شفاههن. وعادت مقلتاكَ إلى عينيَّ ثانيةً واستقرتا عليهما، ثُمَّ استدارتا تلقاءَ أُمّي وأَخواتي. ففهمتُ. نعم، لقد فهمتُ، يا أبي. سأغدو مسؤولاً عنهنَّ، قوّاماً عليهنَّ، وسأكون ربَّ العائلة بعدك. أَعِدك بإعالتهن ورعايتهن، فقد أصبحتُ رجلاً، يا أبي، فأنا قد بلغتُ العاشرة.

       وشعرتُ بجسامة وعدي. وخشيتُ ألّا أتمكَّن من الوفاء به. ما الذي أستطيع أن أفعله من أجلهن؟ ومن أين لي بالنقود وأنتَ لم تترك لي مالاً؟ كنتَ تقول لي دوماً:

ـ " كلنا نرحل من هذه الدنيا عراةً كما وُلِدنا." 

وتضرب لي مثلاً بكبير الإغريق الإسكندر المقدوني الذي ملكَ الدنيا كلَّها، ولكنَّه طلب أن يُخرجوا كفيه مبسوطتيْن من النعش عند تشييعه، ليدرك الناس أَنَّه رحلَ عن هذه الدنيا ولم يحمل معه منها شيئًا.

 نعم، يا أبي، ولكن كبير الإغريق ذاك خلّف لورثته الذهب الكثير، وأنت لم تترك لي نقيرا. نعم، كنتَ تقول لي مرارًا:

ـ " إنّني قد لا أخلف لك مالا، ولكنّي وهبتكً علمًا وأدبًا. والعلم خيْرٌ من المال. فالعلم يحرسكَ، وأنت تحرس المال." 

 نعم، نعم، لقد فهمتُ، يا أبي. ولكن أنّى لي أن أعولَ أُمّي وأخواتي الصغيرات بلا مال، وأنا لم أتعدَّ العاشرة؟

       والتقتْ نظرتانا، وأدركتَ ما يدور في عقلي الصغير؛ فركّزت مقلتيْكَ عليّ. وبعد أنْ استقرَّتْ عيناك على عينيّ هنيهة، أدرتَ مقلتيكَ إلى الجدار الآخر الذي علّقتَ عليه بندقيةَ الصيد التي اشتريتَها من أحد الجنود الإنجليز. وفهمتُ قصدك، يا أبي. نعم، ما زلتُ أذكر يوم أيقظتَني لصلاة الصُّبح عند الفجر، واصطحبتَني خارجًا قبيل طلوع الشمس، وسرتُ معك في الغسق إلى ضفة النهر، وأنتَ تحمل بندقيتكَ على كتفكَ. وهناك شاهدتُكَ وأنتَ متربص في مكمنك. وما إن مرّ سربٌ من الوز البريّ، حتّى أطلقتَ عليه النار من البندقية، وأسرعتَ إلى قنيصتك. وعدنا إلى الدار وأنت تحمل مزهوًا ثلاث إوزات. وفي ذلك اليوم أكلنا حتّى شبعنا، كما لم نشبع من قبل، ولم أشعر بالدوار الذي كان ينتابني كلما عضّني الجوع، وأنا لم أتعدَ العاشرة.

       نعم، فهمتُ مغزى نظرتكَ إلى البندقية، وأدركتُ قصدَك، يا أبي. سأحمل البندقية في فجر كلِّ يوم. وأتوجّه إلى الأهوار والأنهار، لاصطياد البطِّ والأرانب البرية والغزلان، وستشبع أُمّي وأخواتي الصغيرات. ولكنَّني… ولكنَّني أخفيتُ عنك أمرا، يا أبي. فقد حاولتُ قبل أيام، وأنتَ في سكرات المرض، أن أُعبّئ خزانَ الذخيرة في البندقية من الخرطوش، كما شرحتَ لي، فلم أفلح. لم أعرف كيف أفتح خزان الذخيرة، ولم أدرِ كيف أَسحب المُلقِّم، الذي نسيتُ اسمه، وخلطتُ بينه وبين الزناد، وبقيتُ في حيرة من أمري. وأخفيتُ فشلي عنك. ولكنَّني أعِدُك بأنَّني سأتعلَّم، وسأتدرَّب، وسأتقن استعمال البندقية، فأنا ما زلتُ في سن العاشرة.

       ورفعتُ وجهي إليكَ، لأطمئنكَ، يا أبي، على أنّني سأحمل البندقية على كتفي فجرَ كلِّ يوم بعد صلاة الصبح، وأسير بها إلى ضفة النهر أو البراري، وأصطاد البطَّ والإوز والأرانب والغزلان. وستشبع أُمّي وأخواتي الصغيرات. ولكنّي ألفيتُ نظرتكَ قد جمدت. وشخصتْ مقلتاك إلى الفراغ بلا حراك. وشعرتُ ببرودةٍ مميتةٍ في يدك. وعلا نحيبُ أُمّي الحزين، وعويلُ أخواتي الصغيرات، فقد غادرتنا، يا أبي، وأنا لم أتعدَّ العاشرة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

تقييم النص

يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد ! كن أول المعلقين !

التعليقات

إدراج الإقتباسات...