تداعيات الإنسان المعاصر/(تولستوي "موت إيڤان إيليتش") ڤ. يا. لينكوف

تداعيات الإنسان المعاصر/(تولستوي "موت إيڤان إيليتش") ڤ. يا. لينكوف


ترجمة: تحسين رزاق عزيز

جرى في الثمانينيات (من القرن التاسع عشر) تحول حاد في الأدب الروسي يسمح بالحديث عن بداية حقبة جديدة في تاريخه: اذ غادرت الساحة فعلاً الرواية التي كانت مهيمنة منذ الثلاثينيات. وحلت مكانها القصة القصيرة. ولمعت أسماء كتّاب القصة القصيرة أمثال غارشين وكورولينكو وأخيراً تشيخوف - مؤلف نتاجات النوع الفني "الصغير"؛ والجيل اللاحق من الكتاب كذلك بدأ من القصص القصيرة: بونين وغوركي هذه الحقيقة – الجوهرية والمتعددة المعاني- تشير الى عمليات عميقة ليس في الأدب وحده .

إن البشير والبداية لحقبة وجودية في الأدب الروسي في قصة تولستوي "موت ايفان إيليتش". يدور فيها الكلام من جديد كما في الرواية الواقعية الروسية الأولى عن الحياة الفاقدة للمغزى. فبدلاً عن بير واندرية بولكونسكي وليفين(ابطال رواية الحرب والسلام – م) الباحثين والمستكشفين جاء إيڤان إيليتش الذي يعيش حياة طائشة آلية.

لا شك ان بطل قصة تولستوي يتمتع بالوضع نفسه الذي كان يتمتع به البطل الرئيسي "يفغيني أونيغين" : انه إنسان عصري. ويجسد إيڤان إيليتش مبدأً حياتياً كان يمتلك في النصف الثاني من القرن التاسع عشر طابعاً جماهيرياً واسعاً. فتولستوي يُخضِع للتحليل العقيدة الحياتية التي يؤمن بها الابطال ليس بوصفها أفكاراً أو منظومة آراء بل بوصفها فهماً مباشراً للحياة له أصل. ويتحول مركز الاهتمام من المبادىء الاجتماعية التاريخية الى احساس البطل بالحياة والى فهمه وتقييمه لحياته الشخصية.

بحث الكاتب في قصة "موت إيڤان إيليتش" علاقة الإنسان المعاصر بالحياة التي تنكشف بأوضح صورة في علاقته الموت. هنا بالذات وجد شيئاً ما جديداً لم يكن مرئياً للعصور السالفة.

عرض تولستوي في بداية القصة بطريقة موضوعية وبائسة كيف يكذب الابطال وكيف يتظاهرون عند قبر الميت: فمنهم من يعبر عن مواساته ومنهم من يستقبل العزاء. وكان من الخطأ ان يرى في سلوكهم الجفاء القلبي واللامبالاة لموت قريبهم فحسب. إن أكثر شيء يثير قلق تولستوي وشجونه - هو بلادة الأبطال الروحية التي لا مثيل لها. هؤلاء الابطال غير القادرين على فهم المعنى والمغزى الفعلي للحدث الجاري. فعدم المبالاة لموت الغير - ظاهرة ليست جديدة على الأدب لكنها غير مدهشة كعدم الفهم التام لما يعنيه الموت. وهذا الشيء الأخير كان في عيون تولستوي ميزة جديدة تماماً تلصق بالإنسان المعاصر لهذا جعل الكاتب موت البطل الرئيس نواة فكرية وتركيبية للقصة. حيث يمتد في وحدة متكاملة. فجميع مظاهر وخصائص حياة الانسان المتعددة تكشف علاقته بالموت كضوء قوي.

يمكن القول إن قصة تولستوي تتحدث عن معرفة البطل لماهية الموت والحياة في الواقع.

يبدو الموت في القصة في مجموعة متنوعة من المظاهر التي تخفي جوهره الحقيقي. يظهر على شكل خبر في صحيفة حكومية ثم يصبح موضوعاً لحديث فوضوي لخدم إيڤان إليتش ويبدو لولب لتصورات خفية حول تنقلات محتملة للخدم ومادة مضجرة للقداس الجنائزي. الظاهر أن الأبطال يعرفون جيداً ما يعني هذا. فبعد أن أنهى إيڤان إليتش المدرسة اقتنى سلسلة مفاتيح منقوش عليها "تَوَقَّع النهاية". وكان يتذكر جيداً شأنه شأن جميع الناس المحيطين به مثالاً من كتاب المنطق في المدرسة الثانوية: "كاي - إنسان، الناس- فانون، وبالتالي كاي فاني". كلهم منطقياً يعرفون الموت ولكن – روحياً وأخلاقياً وشخصياً لا يفكرون به ابداً .

الفصل الاول الذي يتحدث عن كيفية استقبال اصدقاء البطل الرئيس وخدمه واقاربه لخبر موته مكتوب دون تقيمات مباشرة للكاتب. هذا الفصل يترك انطباعاً عن لوحة مرسومة نفسياً بدقة من دون استدعاء تحليل فلسفي واجتماعي عميق. لكن تولستوي يكشف في عدة صفحات من خلال ابسط الإيماءات والأحاديث والمشاعر الاعتيادية للأبطال مظاهر فهمهم المنحرف للحياة. وكأن هذه هي الطبقة السطحية الاولى للمسألة ونقطة البداية للبحث التحليلي الموجه الى عمق الاشياء والمرسل الى الحركة الداخلية للفكر الفني للكاتب: من لوحة لا تتضمن اي شيء شرير أو مأساوي -إلى أصل المأساة الحياتية للانسان المعاصر.

"وفقت العجوز بلا حركة وهمست في أذنها شيئاً سيدةٌ ذاتُ حاجبين مرتفعين بصورة عجيبة. وابنه إيڤان إيليتش كان شكلها معتماً وحاسماً وغاضباً تقريباً، ووقف زوجها ذو "السحنة المكسوة بالأشياء. فتعبيرات وجوه الأبطال وعيونهم ووقفاتهم توحي بشعورهم غير الملائم تماماً عند النعش. معارف إيڤان إيليتش تافهون ولا يعرفون ما يجب عليهم أن يفعلوا لأنهم لم يعانوا من تلك الأحاسيس التي يجب أن يوقظها بهم الموت. فكل فكرة عن الموت يزيحونها عنهم بنشاط. ويكشف تولستوي عند أبطاله آلية دفاع غريبة لإخماد أي فكرة عن الموت وأي ردة فعل إنسانية عنه. "ثلاثة أيام بلياليها من المعاناة الرهيبة والموت. فقد يحل بي الآن أو في أي لحظة"، - فكَّر، واجتاحه الخوف لبرهة. ولكنه في تلك اللحظة نفسه لم يعرف كيف جاءت لنجدته فكرة عادية، إن هذا حدث لإيڤان إليتش وليس له، ويجب أن لا يحدث هذا معه ولا يمكن أن يحدث، وإنه لو فكر هكذا لاستسلم لمزاج مظلم مما لا يجب ان يفعله...".

يبين تولستوي اعتقاد البطل ان الموت "مغامرة تخص إيڤان إيليتش ولا تخصه أبداً"، وهذا الاعتقاد ظهر بأعراض واضحة لجنون العالم المعاصر الذي خضع له الناس الوسطيون الاعتياديون. إنهم لم يعطوا اعتباراً لواقع لا يمكن انكاره من وجود الانسان. ورفضوا قبول ما كان امام اعينهم.وهم ناس يعيشون في عالم وهمي من التصورات الفاسدة، حيث الارتقاء في السلم الوظيفي ولعب الورق أكثر حقيقة وأهم من الموت الذي تَصَوَّروه كأنه لا يخصهم أبداً. وهذا بطبيعة الحال ضرب من أنواع الجنون: لأن فكرة موت الإنسان من حيث المبدأ لا تثير عند الأبطال شكاً إلاّ أن كل واحد منهم لا يقر بحتمية نهايته فحسب. إنهم يعيشون دون أن يأخذوا بالحسبان الموت، وهذا كان برأي الكاتب الظاهرة الأكثر إثارة ورعباً في العصر الحالي. يثق مؤلف قصة "موت إيڤان إيليتش" بأن نشاط الإنسان الروحي الحقيقي والجدي ينبع من الوعي بالموت. وفيه التناقض الرئيس لحياة الإنسان، الذي يجب أن يتم التغلب عليه بالعمل الروحي، "تناقض . . . سعي" الإنسان "نحو منفعته الشخصية وإدراكه استحالة تحقيقيها" (تولستوي ل. ن. الأعمال الكاملة: في 90 مجلداً، المجلد 26، ص327).

تكمن الحياة الروحية في التغلب الدائم على الوجود الفردي والنهائي. لهذا مفهوم أن الإنسان الذي يُبعد عنه كل فكرة عن الموت ليس روحياً. وهنا نقترب من محور التركيز على تصور تولستوي للإنسان. رغم التصور العام المنتشر بشكل واسع عن الروحي وكأنه شيء ما مرتفع عالياً في الهواء وبعيداً عن الحياة الواقعية. يؤكد تولستوي بقناعة أن الروحي لا يمتاز به إلا الأشخاص الذين يأخذون الحياة كما هي بكل وقائعها وأن اللاروحية توجد في عالم الأوهام والكذب. وتنفتح أمام من يقبل الحياة الواقعية بنهايتها الحتمية المقدرة إمكانيات الحياة الروحية الحقيقة الحيوية؛ وتصبح الحياة بالنسبة لمن يغض الطرف عن الموت شبيهة بالموت. لهذا بالذات نلج من بداية الصفحات الأولى في ملكوتها. يصف الكاتب البطل بالتفصيل وهو يرقد في التابوت، مكرراً عدة مرات كلمة "ميت": "رقد الميت كما يرقد دائماً الاموات، بثقل خاص، حسب طريقة الموتى مغرقاً أعضاءه المتيبسة في بطانة التابوت ورأسه مائل على الوسادة إلى الأبد عارضاً، كما يعرض الأموات جبهته الصفراء الشمعية المنحدرة على صدغيه المنكوبتين وانفه الملتصق كأنه يضغط على الشفة العليا. لا يصور المؤلف ببساطة ما شاهده كل فرد منا، الذي أمامنا ليس وصفاً طبيعياً و"دقيقاً" فحسب، بل صورة فنية لحياة أبطال القصة. يبدو وصف الميت في القصة كأنه شوكة رنانة حسية تُضبَط وفقاً لها الحكاية عن حياة البطل لأن القارئ أثناء قراءة تاريخ إيڤان إيليتش يعاني ذات الإحساس بالرعب الذي يهب عليه من وصف الجثة ولا تعد بالنسبة له عبارة "حياة الموت" تعني كناية .

إن مفهوما "الموت" و "الميت" بالنسبة لتولستوي دنيويّان بشكل محض وإنهما يصفان حياة الإنسان. "كان التاريخ الماضي من حياة إيڤان إيليتش الأبسط والأكثر اعتيادية والأشد رعباً" - هكذا عبر الكاتب بإيجاز عن خصوصية مأساة وجود إنسان وسطي مسلوب الشخصية من أفراد طبقة البرجوازية في القرن التاسع عشر. لم يعرف إيڤان إيليتش شيئاً مما عملته الحياة المأساوية في أدب القرون السالفة. ويبدو قد استبعد من قدره كل ما يمكن أن يبرر الإحساس المأساوي في القصة. لم تكن لدى إيڤان إيليتش أي رذائل: لم يكن جشعاً ولا طاغية ولم يكن قاسياً، ومن الذين يحسبون الأمور لتسلق المناصب. كان "إنساناً موهوباً مرحاً وطليق المحيا واجتماعياً"، وهو "انسان ذكي وحيوي وطيب ومحتشم". إن البطل إنسان محظوظ وناجح لم يجرب الحرمان أو المهانة ولم يتعرض لصعوبات ولم يقاس خيبة الآمال. بل بالعكس كان على الدوام يحقق كل ما يطمح اليه. ومع هذا بدت حياته فضيعة بالذات لأنه حقق كل ما أراد.

حياة إيڤان إيليتش تدهش القارئ بتفاهتها. إنها فاقدة لكل ما جعل وجود ابطال نتاجات تولستوي السابقة سعيداً ومشرقاً أو صارماً وقاسياً ولكن دائماً ذا شأن ومعنى. فقبل كل شيء ليس فيها مكان للعلاقات مع الناس لهذا ليس فيها حب وبغض وإعجاب وتعاطف، هذه المشاعر التي بفضلها يمكن تصور أبطال النتاجات الأدبية حقيقيين. اذ تعرض القصة صحراء حياة تقطنها الظلال، - الناس فيها مسلوبو الشخصية فاقدين للصفات الادمية ولا نجد فيها طبيعة ولا تشرق فيها شمس أو تغيب، ولا تنمو فيها أشجار ولا زهور وليس فيها سماء. لكن تولستوي عندما يرسم صورة تقبض النفس يبقى واقعياً وصارماً. فهو لا يختلق شيئاً ولا يُكَثِّف الألوان. هكذا هو الواقع الذي يعيش فيه إيڤان إيليتش. إنه العالم الذي كونه بجهوده الطويلة. لم يقم الكاتب رغبة منه في تخويف القارئ باستئصال الشِعْر والفِكْر من حياة البطل، بل هو نفسه يقوم بإماتة منتظمة ومستمرة لوجوده ويعمل ذلك بجد ومثابرة مَن يسعى لسعادته.

كتب تولستوي في كتاب "عن الحياة" الذي يمكن عده بمثابة موازٍ فلسفي واجتماعي للقصة: "يعيش كل إنسان لكي يكون سعيداً ومن أجل مصلحة الخاصة فحسب (تولستوي ل. ن. الأعمال الكاملة: في 90 مجلداً. الطبعة اليوبيلية، المجلد 26. ص324). وتنعكس، برأينا، في كلمات تولستوي هذه سمة هامة من سمات ابطاله البارزين. إنه يصور الإنسان بطموحه نحو السعادة. ومع كل بساطة بل وابتذال مثل هذا التعريف إلّا انه ضروري لفهم عالم تولستوي الفني لأنه يفتح آفاقاً نرى فيها أبطاله أحياءً: إذ تكتسب تصرفاتهم وأفكارهم مصداقية وإقناع حياتية عليا.

وعلى سبيل المثال في روايات تورغينيف وغونتشاروف لم تُدْرَس دوافع ميل الأبطال إلى أفكار معينة بل يجري كشف شروطها التاريخية والاجتماعية فقط. فمثلاً نفهم لماذا بازاروف - ثوري ولماذا كيرسانوف - ليبرالي ولكن المنطق الداخلي الذي قادهم الى معتقداتهم لا ينكشف في العمل الأدبي. وجليٌّ أن أبطال الروايات الروسية مشغولون في المقام الأول بالعقيدة وبحل القضايا العامة - الاجتماعية والسياسية والإنسانية. والأبطال عند تولستوي ينهكهم قبل كل شيء البحث عن السعادة الشخصية، ويأتون الى المسائل العامة إذا ما قادهم إليها منطق البحث عن الانسجام الشخصي كما حدث مع ليفين ونخلودوف (ابطال رواية تولستوي البعث).

وإيڤان إيليتش عاش "لكي يكون سعيداً ومن أجل مصلحته الخاصة فحسب". إن الإيمان الراسخ في حقيقة و"صحة" المثال الحياتي للبطل المبني على ان الجميع هكذا يعيشون ولّدت فتنة غريبة للبطل. وبهذا يقتل حياته دون أن يعي ذلك. ولا شيء من الخارج يمكن أن يوقظه لأنه يعتقد انه يفعل كل شيء لمصلحته. ولما كان يرى مصلحته في الحياة البسيطة الطيبة فصار يسعى لها: وهذا يؤدي به إلى الانهيار التام. يقدم إيڤان إيليتش ضحية للسعادة شخصيته والعلاقات الانسانية الحقيقة مع المحيطين به. ففي الوظيفة استطاع "أن يستبعد ما هو حيوي" و"يترك ما هو إنساني" و"لم يسمح لنفسه بأي علاقات مع الناس ما عدا العلاقات الوظيفية ". وهكذا وضعه في العائلة حيث "سوّر عالمه المستقل، تجنباً للازعاجات وغادر في هذا العالم المغلق، ولكن كتب تولستوي في مذكراته" لا يمكن العيش من اجل النفس وحدها. إنه الموت" (تولستوي ل. ن. الأعمال الكاملة في 90 مجلداً. المجلد 50، ص 195).

وفي واحدة من اكثر النتاجات الادبية اشراقاً وتأكيداً للحياة ليس في الأدب الروسي فحسب بل وفي الأدب العالمي كذلك، في "الحرب والسلام"، يجد الأبطال السعادة في اكتساب الصلات الإنسانية المتنوعة والحيوية. وكل ما كان أوسع العالم الذي يشعرون معه باتحادهم كل ما كان وجودهم اكثر سعادة وفرحاً واكتمالاً. عالم إيڤان إيليتش، على العكس، ضيق، البطل نفسه يتجنب العلاقات الطبيعية مع الناس ويحكم على نفسه "بوحدة رهيبة"، "ليس بحجمها وحدةٌ في أي مكان: لا في الأرض ولا في البحر..." .

يكشف تولستوي عدم تناسق الوجود الأناني بوصفه كذباً وبشاعة وشراً. وهذا يعطي انتقاده قوة اقناع خاصة. وكتب تولستوي في 27 كانون الأول عام 1889 في مذكراته: "إذا كان نشاط الإنسان مكرس للحقيقة فإن عاقبة هذا النشاط تكون طيبة (طيبة له وللآخرين)؛ إظهار الخير (الطيبة) رائع دائماً، (المصدر السابق).

الأنانية من وجهة النظر هذه – ليست شراً للأناني نفسه وللمحيطين به فحسب لكنها كذب وبشاعة. ينكشف في مضمون القصة جانب كامل من النتائج الحتمية لحياة الأنانية وسماتها. وتعرض القصة استلاب شخصية الأبطال وخواء وجودهم والقسوة اللامبالية بالاقرباء واخيراً تعرض عدم ملائمة الأنانية للعقل. "الأنانية جنون " (المصدر السابق) هذه الفكرة التي صاغها تولستوي في مذكراته واحدة من الأفكار الأساسية في القصة وظهرت بصورة واضحة عندما فهم إيڤان إيليتش انه يحتضر (يموت).

إن معرفة حقيقة الحياة وفقاً لتولستوي تتطلب من الإنسان قدراً من القدرات العقلية يفوق قدر الرجولة والطهارة الأخلاقية. والإنسان لا يتقبل البصيرة ليس بسبب الغباوة بل بسبب الخوف من الحقيقة. فالوسط البرجوازي الذي ينتسب إليه إيڤان إيليتش إختار نظاماً كاملاً من الخداع الذي يخفي حقيقة الحياة. وبظل هذا النظام لا يدرك أبطال القصة إجحاف البنية الاجتماعية والقسوة على الأقارب واللامبالاة بهم ولا يدركون خواء وتفاهة وجودهم. إن واقع الحياة العامة والاجتماعية والأسرية وواقع حياة أي جماعة أخرى يمكن أن ينكشف للإنسان الذي يدرك جوهر حياته الشخصية بمعاناتها الحتمية وبموتها. لهذا بالذات يبدأ استبصار إيڤان إيليتش من بداية مرضه الذي يقسم عمر البطل إلى مرحلتين: الأولى- قبل المرض - حياة ميتة طائشة والثانية - أوان المرض والموت الذي أيقض الحياة الحقيقية وإدراك الكذب الاجتماعي وأخيراً الانبعاث الروحي.

المرض- هو "شيء ما مخيف وجديد وله من الأهمية ما لم يكن أكبر منه في حياة إيڤان إيليتش أبداً" - صار واقعاً لا يمكن تغييره وأُجبِر البطل على قبول الحقيقة.

إن تعريف تولستوي للمرض الذي يضم خصائص إيجابية (جديد ومهم) وخصائص سلبية (مخيف) يطرح تقيماً مزدوجاً لحياة البطل منذ لحظة المرض. مهما كانت مؤلمة لكنها حياة على كل حال ولا تشبه حالها قبل المرض. ويدخل في وجود البطل شيء جديد ومهم، وبعبارة أخرى، تظهر فيه أحداث وهذا يعني تطور وحركة بما يجعل حياة الانسان حياةً. لهذا تتحول بشكل حاد طبيعة الحديث: عدة أشهر تطلبت من الصفحات اكثر مما تطلبته حياة البطل في السنوات الـ 45 الماضية كلها.

كان وجود إيڤان إيليتش قبل المرض يشبه الموت - رتابة وانتظام ولا معنى. وتُذَكِّرنا نغمة الإيقاع في الفصول الأولى بقصص تشيخوف عن حياة الابتذال عديمة المعنى. "استيقظ في الساعة التاسعة وشرب القهوة وقرأ صحيفة ثم لبس معطفه الرسمي وذهب الى المحكمة". فنشاطات البطل وأفعاله تقاس بالزمن الماضي ولا يرتبط بعضها ببعض. وكل لحظة تزيح الأخرى وكأنه يموت. تجري أحداث في وقت مرض إيڤان إيليتش: الماضي لا يذهب بلا عودة بل يستمر يعيش في المستقبل بما يشكل سلسلة من الاحداث التي تؤدي الى نتيجة تعطي مغزى وتكامل لحياة البطل في الأشهر الأخيرة. وهذه النتيجة – هي الانتصار على الموت والتغلب عليه - وربما تسمى الحدث المطلق أو فكرة الحدث في العالم الفني لتولستوي.

كشف المرض لإيڤان إيليتش الواقع "الذي لا يمكن غض الطرف عنه" (قُدِّر له في السابق أن يغض الطرف عنه ويتجاوزه)، هذا الواقع نفسها أكسبه سمات الحقيقية التي لا يمكن الآن "تجنها" و"حجبها" وإزاحتها والاعتراف بكذبها وعدم صحتها وإيلامها إنها فكرة الموت، "ليست فكرة فحسب بل وكأنها واقع جاء مرّة ثانية ووقف أمامه". وقوة الاشياء نفسها تجبر البطل على الذهاب الى الحقيقة متغلباً على مقاومته اليائسة. ولكن قبل الانتصار على الموت واكتشاف الحقيقة قدر لإيڤان إيليتش أن يجتاز وهماً آخراً بعد. فبدلاً عن التصور بأن لا يوجد موت بالنسبة له ظهرت فكرة أن الموت وحده هو الواقع. والموت يجعل لا معنى للحياة من اجل السعادة الشخصية ويفضح "الخداع الكبير الرهيب" الذي يخفي "الحياة والموت". وبالتالي الواقع نفسه ينكر الموت بوصفه جنوناً.

يورد تولستوي في القصة فكرته المنشودة: حقيقة الحياة تكمن في التغلب على كل شيء يعارضها وهذا يعني التغلب على الموت في نهاية المطاف. وعندما صار الموت في وعي إيڤان إيليتش حقيقة غير قابلة للتغيير استنتج انه لا يوجد إلا الموت ومن تلك اللحظة وحدها بدأت بالنسبة له الحياة الحقيقية - الحياة تغلبٌ على الموت. وهكذا صارت عدة أشهر من المرض مخاضاً عسيراً لولادة إنسان جديد يرتبط بصورة وثيقة بحياة الناس الآخرين ولهذا لا يخاف الموت. وعندما صارت آلام إيڤان إيليتش البدنية لا تطاق وصار موعده مع الموت لا يتعدى الساعات بل الدقائق لم يعد يخافه .

"لقد فتح عينيه ونظر الى ابنه. وصار يتحسر عليه. جاءت إليه زوجته . . . وتحسر عليها . . . وشعر بالأسف عليهم، يجب فعل شيء، كي لا يتألموا. . . بحث عن خوفه الاعتيادي السابق من الموت ولم يجده. أين هو؟ أي موت؟ لم يكن هناك أي ذعر لأنه لم يكن هناك موت". تأسف إيڤان إيليتش على ابنه وزوجته. لأول مرّة لم تفصل "الأنا" خاصته عن الآخرين بل باتحادها معهم اتسعت. وصار يدرك بتعاطفه انه أصبح جزءً من العالم الذي بقي حتى بعد موته، لهذا لم يعد الموت موجوداً بوصفه تدميراً كاملاً بالنسبة له.

يؤكد تولستوي وجوب المعايير الأخلاقية لكل إنسان ليس بوصفها مطلباً ذاتياً أو وضعاً حسناً، ولا بوصفها عقيدة دينية متحجرة مستمدة من الذات الإلهية بل بوصفها قانوناً موضوعياً للطبيعة البشرية ذاتها.

تقييم النص

يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد ! كن أول المعلقين !

التعليقات

إدراج الإقتباسات...