الأكاديمية والابداع

الأكاديمية والابداع


الأكاديمية كلمة معربة. لا مترجمة. لأخرى اجنبية. ولهذه الكلمة وجود كما ان لها ايحاء ووقعا عند من يسمعها. فهي تعني المنهجية والنمطية والتوثيق والمصدرية. وعني في ذلك النظام بقانون والانضباط بمقياس والانتظام بأساس، والالتزام بتجربة وإحصاء. والاكاديمي رجل تدريس وإن لم يدخل صفا فيه طلبة. ورجل ثبت في القول، خائف على نفسه من كلماته، ملزم أن يعرف كل شيء عن شيئه الخاص وغير ملزم ان يعرف شيئاً عن أشيائه العامة. والأكاديمي رجل مؤسسة وان لم ينتم الى مؤسسة. والاكاديمي مطالب ان يعرف ما يقول لا ان يقول ما يعرف. فالأكاديمية ترتبط بالتعليم اكثر من ارتباطها بالمعرفة. والتعليم نظام معقد على أسس لا افتراض فيها ولا اجتهاد بينما المعرفة مجال واسع للإفتراض والاجتهاد والانشطار والتمدد الذهني والوجاني. والأكاديمية ظرف موضوعي لا ظرف ذاتي فالذاتية وتصوراتها وتفسيراتها شيء يقع خارج مجال الأكاديمية محدودة ً مراقبةً من الضمير الذي اوجد الأكاديمية والاكاديمي. في المادة العلمية أو الأدبية أو الفنية تظهر الأكاديمية وكأنها نصوص جامدة، يميل صاحبها الى التاريخ (والأرشفة) ميلا يُفقِدُهُ القدرة على اظهار الصوت الفردي والرأي الخاص الى حد كبير. والمنهج في الأكاديمية هو مرحلة التلمذة في المعرفة وليس مرحلة من مراحل المعرفة في التلمذة. من هنا نبدأ بتعيين معوقات الأكاديمية عن ان تكون عملا ابداعيا. ان المعوقات التي تقف في وجه الاكاديمي هي: (1) الوظيفة الادارية. (2) منهج المؤسسة المقرر. (3) التاريخية وضرورة قيام المصدرية والتوثيق. (4) محدودية وعي الطبقة التي تخاطبها المادة الأكاديمية. (5) النواميس الاجتماعية والسياسة التي تحيط بالأكاديمية. (6) التخصيص المالي لجهد الأكاديمي والدعم الاقتصادي لميدانية العمل الاكاديمي. هذه هي أبرز المعوقات التي تواجه الأكاديمية. نسأل الآن: هل يصلح الأكاديمي للإبداع؟ نجيب عن هذا السؤال فنقول: الإبداع نوعان عام وخاص. إبداع في الموضوع الواحد. وإبداع في جارات الموضوع الواحد. في الموضوع يندر ان يظهر الابداع لأن حدودية المنهج ونمطية النظرة تقفان في الضد من الابداع أما في حالة استفاضة الأكاديمي وتسرب قدراته الى خارج خارطة المقرر، فالابداع أمر قائم. لماذا كل هذا؟ انه كل هذا لأن الإبداع هو اختراق المألوف وقطع الذاكرة عن الحالة القائمة ومهاجمة (الروتين) والزحف بالمخيلة الى الأمام المكاني والزماني وانَّ كل هذا الإبداع هو نقيض الخوف من أي شيء. المبدع هو الذي يقول ما يراه لا ما يراه المنهج. والمبدع يفترض ثم يثبت ما افترض. قد يصلح المعلم للإبداع لكن المبدع لا يصلح للتعليم لأن المبدع حالة متطايرة، تتسامى من حالة الى حالة بسرعة قد يعجز عن متابعتها المعدل العام من العقل الاجتماعي. والأكاديمية لا تأتمن المبدع كثيرا على مفردات منهجها. فالمبدع امام المقرر المنهجي مثل المقاتل الذي ترسم له قيادته خطة مسبقة للقتال. لكنه يتدبر خطة جديدة على أرض المعركة حين يجد ان ظروف الميدان غير ظروف المكتوب على الورقة ونضائد الرمل.

         والمبدع يسبق زمنه كما يسبق زمن مؤسسته. هل ننسى عشرات المبدعين الذين رفضتهم الجامعات في العالم واحتضنتهم الصحف والمجلات الكبيرة؟ هل ننسى الذين غادروا الدراسة في الجامعة في سنواتهم الأولى وانصرفوا الى استكمال ذواتهم في البيوت والمكتبات؟ هل ننسى الذين أنشأوا مختبرات في بيوتهم بعيداً عن المجال الأكاديمي؟ ان ظهور المبدعين عالمياً في قطاعاتهم الخاصة هو الذي اوحى الى الحكومات بضرورة ظهور الجامعات الأهلية، لتصبح من جديد قيداً أكاديميا أخف وطأة على معاصم اتباعها. ومن مخاطر الأكاديمية على الفرد، انها تأخذ الفرد الى المؤسسة بدلاً من ان تأخذ المؤسسة الى الفرد. فالبريق الاجتماعي الذي تملكه اكاديمية الطب منع ويمنع كثيرين من الافراد من الذهاب الصحيح الى حيث تكون الرغبة الحقيقية والقدرة الحقيقية، ومن ثم الى حيث يكون الإبداع الحقيقي. ومن مخاطر الأكاديمية انها تسقط اعمارنا بطيئا وتأتي على أحلى سنوات العمر بالتأجيل الثقافي ومنع التسارع الفردي نحو استظهار الذات واستخراج الحالة المبدعة. ومن مخاطر الأكاديمية انها مستعدة ان تلغي شخصية التفكير المبكر وترجئها الى سنوات لاحقة بدعوى ان العقل لا يزال طفلاً في ان يبتكر ويبدع. والأكاديمية تدعو اصحابها الى البحوث التوليفية التي يسودها التوثيق الشديد لأراء من سلف، حتى يظهر البحث وكأنه كتاب جديد في تاريخ قديم. ربما هي الأمانة او ربما هي الرصانة، ولكن من الذي اعترف لأصحاب الافكار الأولى بالمصداقية حتى أصبحوا مصادر صحيحة لغيرهم لاحقاً؟ ان الأكاديمية لا تعترف بي حين اقول: انني أرى ... او انني اعتقد، فمن انا في نظرها حتى ارى واعتقد. لكن حين أقول: يقول فرويد او يقول رولان بارت او يقول البرت اينشتاين او يقول المعري... تعترف بذلك الأكاديمية. اسأل هذه الأكاديمية من جديد هل اعترفت الأكاديمية القديمة بفرويد حين قال في وقته انني ارى... أنني أعتقد؟.

لقد جرى لفرويد ولبارت ولأينشتاين ما جرى ويجري لأن الأكاديمية البارحة هي غير الأكاديمية اليوم. ما الحل اذن؟ الحل هو ان لا تنحاز الأكاديمية الى ذاتها كثيراً. مطلوب منها ان تتغذى يوميا بالغذاء الفكري بغض النظر عن مصادر هذا الغذاء. فالجريدة اليومية مصدر من مصادر الفكرة، والمجلة الشهرية مصدر من مصادر الفكرة والرواية التي في السوق مصدر من مصادر الفكرة وديوان الشعر الملقى على رصيف الشارع عند البائع المنكود مصدر من مصادر الفكرة، والإذاعة والتلفزيون مصدر من مصادر الفكرة، وتجربة على الهرمونات في مختبر بيتي صغير مصدر من مصادر الفكرة. هل لاحقت المؤسسة الأكاديمية فكرة الناس المنشورة والمرئية واختارت منها ما تراه جديرا بالبحث والفحص؟ لا أظن ذلك قد حصل. ان بناية الجامعة ليست الجامعة. فالجامعة في بناياتها مثل (علوة) الخضر والفواكه في بنايتها، فــــــ (العلوة) لا تزرع المحاصيل التي تبيعها بل تغذى بها من مصادرها الأولى، فالفلاحون والفلاحات، والجامعة مثلها لا تزرع محاصيل الأفكار في بنايتها بل تتغذى بها من مصادرها في الجريدة والمجلة والمختبر والتلفزة والاذاعة. ان علة الأكاديمية تكمن في كونها وظيفة. فالمفكر لا يمكن ان يكون موظفا يصنع الأفكار وراء مائدة غرفته. الموظف سريع التآلف مع الساعة الثامنة صباحاً والثانية بعد الظهر، نهاية الدوام الرسمي لذلك اليوم. والموظف سريع التآلف مع موعد الراتب الشهري في نهاية الشهر. والذين يعرفون علم النفس، يعرفون ان طريقة المكافأة المتغيرة مع نسبة الإبداع وفاعلية الانحياز هي خير طرق التعزيز السلوكي باتجاه الإبداع نفسه. اما آن الأوان ان يصبح الأجر على قدر المشقة؟ ان الابداع هو الانشطار الميداني بالجسد والذهن عن رتابة الأكاديمية ونمطية العمل، وهو طريق من طرق التفريق بين من يخترق الأقواس الى المطلق ومن يعرف سلفا انه يعيش حياته وأفكاره وحالاته وعواطفه جميعا ويحصرها بين قوسين من حديد لا فكاك منها إلا بالإنتقال الى فسيح جناته تعالى.

 

من كتاب  

إسترخاءٌ على مواقد الجَمْر/ "كلماتٌ في الهَمِّ الثقافي"

تقييم النص

يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد ! كن أول المعلقين !

التعليقات

إدراج الإقتباسات...