مركزية الراوي ولامركزية الشخصيات في رواية "افرح يا قلبي"

مركزية الراوي ولامركزية الشخصيات في رواية "افرح يا قلبي"


مركزية الراوي ولا مركزية الشخصيات في رواية "افرح يا قلبي" / صالح الرزوق

 

تتابع علوية صبح في "افرح يا قلبي"* مشروعها التنويري الذي وصل لمحطة أساسية في "اسمه الغرام" و بلغ ذروته في "أن تعشق الحياة".

تتكون هذه الرواية من محطات وحلقات وعي - يقطعها أزمنة وأمكنة ، لكل مكان زمانه الحضاري والاجتماعي، أو موضعه من سلسلة التطور، وتتبنى فيها الكاتبة سياسة الصوت الواحد، وتوزعه على عدة شخصيات ومونولوجات. وعلى هذا الأساس أنظر لكل شخصية على أنها حامل لجزء من المونولوج. ويمكن تجاوزا القول إن الشخصيات لم تكن منفصلة عن ذات الكاتبة ولا عن وعيها. وهي موجهة وتحت السيطرة ولها هدف واحد: أن تعطي للمكان هويته وطعمه الخاص. ومع أن لغة الرواية موزعة بين الفصحى والعامية، بالأخص في المنطقة المخصصة للحوار، فقد غلبت عليها لهجة أهل بيروت بشكل عام، لا يمكن أن أرى فيها رواية أصوات.  وذلك لسبب بسيط: أنها لا تعبر عن لحظتها الخاصة وإنما عن وعي الكاتبة التي تدير الأحداث. ويوجد فرق أساسي بين رواية الأصوات، ومن أمثلتها "المرايا" و"ميرامار" لنجيب محفوظ، و"عذارى لندستان" لحنان الشيخ، وبين الرواية المونولوجية.

فالنوع الأول لا يحرك الشخصيات ولا يقارن بينها، وإنما يسمح لها بأن تحرق مضمونها بالتجربة. في حين أن النوع الثاني يتعامل مع أمكنة تفرض علينا مستويات وعينا بها أو أنها هي التي تؤثر بالشخصيات وليس العكس. ولا يوجد أي عيب بنيوي في ذلك لأن الإنسان غالبا ما يتبع مجتمعاته. وعلى هذا الأساس تطور وعي غسان بطل الرواية والعروة التي تتفرع منها بقية الشخصيات وتحول إلى اثنين: الأول يحمل هوية وطنية. والثاني يعبر عن الوضع المعرفي بسبب الغربة. وأساسا تدور الرواية حول هروب غسان من قريته دار العز إلى أمريكا، وهناك يتعرف على كيرستن ويقترن بها.  وأعتقد أن الأسماء هي جزء من لعبة خطاب الرواية، إن لم يكن عمدا أقله بإيحاءات من الوعي الباطن. فدار العز شيء له علاقة بالكرامة، أما كيرستن هي إشارة على ندبة روحية ومادية، ودليل على النزاع اللانهائي بين الماضي الروحي للمرأة والحاضر المعرفي والذهني لها. في حين أن غسان هو إشارة وجودية عن القلق الحضاري والتاريخي الذي مزق هوية العرب الغساسنة ورسم في داخلهم شقا بنيويا يعزل المكونات عن العناصر. وللتوضيح تعبر الهوية المجزأة لغسان في الرواية عن الوعي الجريح للغساسنة، فهو على شاكلتهم موزع بين مملكة لها حدود وطنية، وإمبراطورية تعمل على تصدير وصيانة الحضارات. 

ولا تضيف بقية الشخصيات شيئا لمضمون الرواية وإنما تساعد على توسيع الحبكة وتنويع التفاصيل. ومن بينها رلى زوجة غسان اللبنانية التي تلعب دورا محدودا في الأحداث ولكنه أساسي في الرؤيا، فهي ليست مجرد زوجة ثانية، بل إنها شيء له علاقة بالذاكرة القديمة التي تقاوم النسيان والإلغاء. ولذلك سرعان ما تتحول الى رمز يشير إلى الأرض، والاستمرار، والخصوبة، والإرادة. وفي نفس الوقت تعمق مشكلة الحفرة المعرفية للمثقف العربي. وبرأيي يعكس غسان بشخصيته أزمة معرفية مر بها جيل الحداثة الوطنية في الستينات والسبعينات أكثر مما يحمل هما هوياتيا وحضاريا. فالحداثة العربية كانت كوزموبوليتانية وتحريرية، بمعنى أنها راهنت على تحرير المضمون من كل التصورات المسبقة. وإذا اختارت الرواية له الموت بحادث عشوائي وهو على متن الطائرة في الجو عائدا من بيروت إلى نيويورك - إشارة إضافية للعودة المستحيلة أو المستقبل الإنكاري، فإنها لم تبتعد عن الحقيقة على وجه الإطلاق، فقد اختارت الظروف لتوفيق صايغ مؤسس "مجلة حوار" أن تنتهي حياته بأزمة قلبية وهو في المصعد، بعد اكتشاف العلاقة بين تمويل المجلة ووكالة المخابرات الأمريكية.  لا يمكن أن لا نجد إعادة تركيب فني لجانب تراجيدي من واقع ثقافتنا المنكوبة. وتصميم شخصية غسان له خطة ثقافية. فهو مولع بالموسيقا والفنون والكتابة. واستغل حياته في أمريكا للتعبير عن نقطة لقاء يقوم على الجدل وليس النفي، ولكنه جدل له جيوب سرية، وربما كانت هذه هي نقطة الضعف التي استهدفها منطق المأساة، ثم بنى على أساسها مرافعته ضد الأطروحة.  وأعتقد أن الرواية فعلت كل شيء لتبرير منطق غسان الإصلاحي. فقد وسعت رقعة الأحداث بتحريك الحدود شرقا لتشمل العراق وغربا حتى باريس وشمالا إلى اسطنبول، وأغنت المضمون بمعلومات موسيقية وسياحية، حتى أنها في كثير من الحالات تقاطعت مع تجربة "أمريكانلي" لصنع الله إبراهيم بما قدمته من تفاصيل ووثائق عن الغرب وأمريكا والحياة السرية للمهاجرين.  ولكن كلما اتسعت الأمكنة كبرت معها احتمالات المأساة، وكأن علوية صبح تريد أن تؤكد على مقولة كبلنغ أن الشرق شرق والغرب غرب، وأن تؤيد شكيب الجابري مؤلف "نهم" في أن الرحلة الروحية مكتوب عليها أن تحترق عند نقطة تتحكم بها الأخلاق والمعارف.  وحينما اقتنع غسان أنه آن الوقت ليعزف موسيقى تحرك عاطفة التآخي بين البشر، وأنه هناك أدوات شرقية وغربية لكن لا يوجد خط يعزل بين أنواع وأشكال الموسيقى، فهي كلها لغة روحية لمبدأ إنساني واحد ص348، كان معلقا في الفراغ، داخل مطب هوائي أو فقاعة فضائية وعرضة للسقوط. 

ويقول عن هذه اللحظة المرعبة: أنا عاجز عن الوصول وخائف من المواجهة.  قبل أن يضيف وهو نهب للشك والقلق: هل ستقبلني كرستين على حقيقتي؟  ص 350.

ما يسجل لعلوية صبح هو رغبتها الصادقة باكتشاف طريق للمصالحة وتوسيع الهوية الوطنية إلى هوية إنسانية عابرة للحدود والقوميات، وقبل كل ذلك عابرة للأديان. فقد كان المشهد الافتتاحي يدل على مركزية أطروحة المصالحة الدينية من خلال العلاقة الحميمة بين عائلة غسان وعائلة جورج، وهو صديق لغسان، ونحره سليم التكفيري شقيق غسان نفسه. 

وترك الأطروحة معلقة في الفضاء دون نهاية محتمة لا يختلف عن ترك نجيب محفوظ لأطروحة سعيد مهران معلقة في المقابر لأن استسلامه الأخير بلا مبالاة لرجال الشرطة لم يكن جازما وكان مفتوحا على مجموعة خيارات مؤجلة. ومع أننا لا نعرف مصير غسان، لكن نعلم أنه وصل إلى جدار الأزمة الوجودية التي ناقشها سارتر بقصته المعروفة "الجدار"، وفيها يتابع اللحظات الأخيرة من حياة مقاتل محكوم بالموت. وأعتقد أن جدار سارتر يوازيه فضاء علوية صبح.  ولا يمكن لأحد أن ينكر الاتجاه المعاكس الذي تتبناه الرواية. لأن مبدأ العودة المستحيلة يطرح أمامنا هما شموليا وهو مبدأ السعادة المستحيلة. ويبدو أن مكمن الفاجع ليس في اختلاف الحضارات فقط ولكن في القطيعة بين الروح والجسد أو الحرية المشروطة والالتزام المفتوح. وهو ما يتحول إلى فجوة في حياة كل إنسان عاقل، وهي كلمة ترادف معنى متحضر يستعمل عقله. 

وهذه هي ثالث نقطة هامة في الرواية. أنها تبدأ من ترجمة الغرائز النوعية، وبالتحديد الصراع لأجل البقاء، وتنتهي إلى اكتشاف شرط التعقل واستعمال الإرادة أو اللجوء إلى أعصبة المعرفة. ولذلك عرفتنا الرواية في أول جزء منها عن "جزئيات"، لكنها في الأجزاء التالية تحولت إلى رحلة سياحية لا تخلو من كل أساليب فجر الرواية، وبالطريقة الكلاسيكية التي وضع أسسها المراش في "غابة الحق". ويمكن أن تقول إن علوية صبح دمجت أساليب رواية العودة (ومنها "زينب" - رواية عائد من الغربة) مع روايات الهروب والمصير التراجيدي المحتوم الذي يرافقه ما أسميه الوعي الشقي (ومنها "كتاب خالد" لأمين الريحاني). ولا أعتقد أنها ناقشت المشكلة الحضارية بأسلوب رحلات التثقيف والاستطلاع مثل الطهطاوي وإدريس و الحكيم وآخرين.   بتعبير آخر كانت روايتها مركبة من مشاهد متناوبة، تبدأ بالتعايش وتنتقل إلى المعايشة أو الاكتشاف وتنتهي بالتأزم، والأزمة هي سطح له وجهان. أحدهما نحو الداخل بمضمون اجتماعي والآخر نحو الخارج وبمضمون معرفي وفني. وتوسيع رقعة الخارج يبدو أشبه بحفر أنفاق بين النقيضين، الالتزام  والانفصال. ولم يكن اختيار باريس واسطنبول للتوسط بين بيروت ونيويورك ناجعا لأن الخطأ السابق لا يلغي خطأ لاحقا. بالازمة مع الباب العالي ثم المشكلة مع الانتداب لم تمهد درب الخلاص، وبالعكس إنها سدت منافذ الخروج، وسمحت بتفاقم الإشكالية ثم انفجارها. وهو ما تسميه علوية صبح الزمن الرديء ص 97. وترى أنه زمن الطوائف المعلبة ص 97، والذي تتحكم به حركات دينية ومنظمات تقاتل بعضها بعضا ص 97.  

ولكن حرصت الرواية على اكتشاف حل لعقدة الحرب الأهلية. فهي لم تكن تبني حكاية على حكاية بطريقة شهرزاد في ألف ليلة - وهو الخط الأساسي الذي أخلص له عراب الرواية الأهلية إلياس خوري، وبعده هدى بركات، ولكنها قسمت السيناريو 1- إلى حبكة لرواية عائلية حسب المفهوم الفرويدي الأساسي، وفيه رأس العائلة رجل دموي وسادي لا يفهم إلا بلغة العقوبات - ضرب الصغير وتحديد مكان إقامة المرأة، ومن حلفه أخوة أعداء يتنافسون على أحضان أمهم.

2- وإلى امرأة شابة لها معنى أم كبيرة أو أحيانا جدة، أم أثرية بلغة التحليل النفسي، ويتبعها رجل كبير له معنى ابن فرويدي، وهو غالبا شرقي مغترب.  وفي هذه الحالة لا تستطيع أن تجد فرقا بين خزانة المعلومات وعقل الشخصيات. وكان كلاهما يندمج في شيء واحد وهو وعي الخطاب. ولكن نقطة التنوير في هذا القطاع كان من نصيب تبادل المعلومات. فقد كان إدراك كل طرف يهاجر إلى إدراك نظيره. ومن الأمثلة على ذلك رجولة سعيد (صديق لغسان) فقد كان يريد أن ينتقم من الغرب بمضاجعة أكبر عدد من بناته ثم التخلي عنهن (أسلوب الطيب صالح في "موسم الهجرة"، وإلى حد ما الجابري في "نهم")، ووصاية أخت كيرستن (محبوبة سعيد). ويمكن فهم الوصاية هنا بمعناها السياسي. فقد كانت تريد أن تفرض عليه معاهدة زواج - وثيقة امتلاك وتخصيص، ولم تكن لتكتفي بعلاقة مفتوحة حسب النظام الغربي. وهو ما أدى عند سعيد إلى تفجير عقدة شهريار وتجريم المؤنث وتدنيسه ثقافيا وروحيا.  

ولا يجدر بنا إغفال حقيقة أن العمل يدخل في نطاق روايات الكدح. فغسان يهرب من الجحيم دون خطط جاهزة ويتبع حدسه. ويبدو لي أن هذا المبدأ يدفع كرة الغربة لمسافة إضافية، ويعيد سيرة هجرتين سابقتين، الأولى تناولت تغريبة المسيحيين هربا من سياسة الحاكم العثماني. والثانية تابعت هجرة أبناء الريف إلى المدينة بحثا عن الأرزاق. ومهما كانت طبيعة النماذج السابقة أو تركيبتها يبقى القاسم المشترك هو الكدح أو بلغة اجتماعية ومحافظة السعي. ولكن أرى أن غسان أراد أن يدخل في فراغ الكدح والمشقة وليس في طابور السعي الإيماني. وأساسا لم يدفعه لحسم أمره غير مشكلته المعرفية مع الإسلام الاجتماعي (بين قوسين التدين وليس الدين. وبلغة مباشرة الدين الطقوسي). وقد تفشى مؤخرا ما أقول عنه تحت - النوع (أو الرتبة إن أردنا الإستعارة من تصنيف داروين للمملكة النباتية)  بين الكتاب الأفرو آسيويين المهاجرين إلى أوروبا وأمريكا أمثال أرافيند أديغا وكيران دايزي وخالد حسيني وميرون هاديرو (أمريكية من إثيوبيا) وقصي الشيخ عسكر (والأخير دانماركي من أصول عراقية). 

بالنتيجة لا أستطيع أن أنظر لرواية "افرح يا قلبي" على أنها عمل تقليدي، يتكون من شجرة حكايات. وهي بنظري أقرب لأساليب ما بعد الحداثة، والدليل على ذلك غياب المركز وتعدد بقع الضوء. فالمسرح مقسم بعدة ستائر، والشخصيات تتنقل بينها. أحيانا يغيب شخص مساعد ويحل محله قناعه. فالمعاني متكررة والأزمة متنقلة. ولا يمكن وصفها إلا بتعبير همنغواي المعروف "إنها مهرجان متنقل - أو مائدة متحركة movable feast". وإعادة ارتباط الأزمة الروحية بمعنى المأساة يزيد من دخولها في مضمار ألعاب ما بعد الحداثة. وأعتقد أن مخالفة علوية صبح لماضيها الفني في هذا العمل ليس عضويا بل هو شكلي. فمبدأ إطلاق الروح بتعذيب وقهر الجسد موجود بطريقة أو أخرى كما فعلت بكثير من الاقتدار في "أن تعشق الحياة". لكن في تلك الرواية كان مبدأ الصورة واحدا والروح متعددة، وفي هذه الرواية يوجد لكل روح صورة. وحقيقة أن الأرواح متقابلة فرضت مشكلة التقابل على الصور أيضا.  وحتى العبارات الدينية التي تبدو مقحمة في "افرح يا قلبي" كانت تفصح عن نفسها في "أن تعشق الحياة" من خلال الإعراب عن فحواها بالإشارة والتلميح، وهذا هو سر نجاح خلطات علوية صبح منذ بداياتها وحتى الآن..

 

*افرح يا قلبي. دار الآداب. بيروت. 2022.(351 ص).

 

**جزء من مشروع عن سياسة واتجاهات الرواية العربية





 

تقييم النص

يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد ! كن أول المعلقين !

التعليقات

إدراج الإقتباسات...