في الفلسفة وأخطاء الفلاسفة

في الفلسفة وأخطاء الفلاسفة


هَل صَحَّ قَولٌ مِنَ الحاكي فَنَقبَلَهُ

                                         أَم كُلُّ ذاكَ أَباطيلٌ وَأَسمارُ

                   أمّا العُقولُ فَآلَت أَنَّهُ كَذِبٌ

                                   وَالعَقلُ غَرسٌ لَهُ بِالصِدقِ أَثمارُ

يروع المرء ما يسمعه أحيانًا من بعض المشدوهين والمفتونين بالغرب، وما يراه منهم تجاه فلسفاته القديمة والحديثة على السواء، ويدهشك سماعهم يتحدثون، وما هو بحديث معتاد، وإنما هو حديث مليء بإعجاب وتقدير بالغين – يصل أحيانا إلى مرتبة التقديس – فهل تستحق الفلسفة والفلاسفة كل ذلك!

 ويروعك أكثر كيف يعدلون بين الفلسفة والدين، وإذا تواضع أحدهم وتجوَّز وتسامح فإنه – تكرمًا – يتنزل في وضع الدين إلى جانب الفلسفة، ولمَ لا وهم يرون أنها قادرة على إيجاد الحلول السهلة للمشكلات الصعبة، والأحكام المرضية للمعضلات المستعصية! ولم لا وأصحابها –الفلاسفة- ظلت آراؤهم قوانين يعد مخالفتها والخروج عليها كفرًا وجريمة يستحق مرتكبها عقوبة الإعدام! ولو قدر لسقراط، أو لأفلاطون، أو لأرسطو، أو لأي فيلسوف آخر من الفلاسفة الكبار أن يكون موجودًا بين أظهرنا فإن ذلك من حسن الأمور، فقد يقوم بحل جميع المشكلات؛ صغيرها وكبيرها، دقيقها وجليلها، يحلها وهو يحتسي قهوته ويدخن سيجارته!

وأنا – بالطبع – لست ممن يزعم بأن الفلسفة منعزلة عن الواقع، وأنها تعيش في برج عاجي، وأن رأس مالها العلمي الفكر النظري المجرد، وأنها عاجزة عن بناء لبنة واحدة، وإن عملها فقط هو بناء القصور الشامخة، والمدن الفاضلة.. لست ممن يزعم ذلك البتة، فأنا أنظر إلى الفلسفة نظرة تجرد وتوسط بين الإفراط والتفريط، من دون سلب لمحاسنها، ومن دون نفي لمناقبها، كذلك لا أخلع عليها مطارف التبجيل، ولا أدندن لها بالتحميد والتهليل؛ فأجعلها والوحي كفرسي رهان، وفي ميدان الحياة يتسابقان! فإن ذلك يأباه البحث النزيه، ويرفضه المنهج الوجيه، فالأمر إذن هو اعتدال وتوسط ولا شيء غير ذلك.

يعلم الباحث المجرد أن الفكر الذي سطرته الفلسفة طوال عصورها، يغلب عليه الإبهام والغموض – بحسب تعبير أحد الباحثين- وأما معانيه فكثيرًا ما كانت مدفونة في قبور لفظية تقتضي بحثًا تأويليًا يخرجها حية أو مية، ولا ريب في أن سبب ذلك هو أن الفلاسفة جهلوا أنفسهم أولاً، وجهلوا قدر عقولهم ثانياً، مما جعلهم يقحمونها في مسائل أكبر من عقولهم، وقضايا أوسع من مداركهم ، وقد ظهر حديثهم فيها أشبه ما يكون بالهذيان أو بحديث السكارى وما هم بسكارى..

وليس قصدنا هنا تعقب أوهام وأخطاء جميع الفلاسفة، ولكننا معنيون أساسًا بالأخطاء الكبيرة الصادرة من العقول الكبيرة، ولأنها كذلك فقد تركت آثارًا سيئة في الحضارة الإنسانية والثقافة الإنسانية، وما ذلك إلا أن قائليها فلاسفة كبار ومقالاتهم عليها مدار البحث والدرس من التلاميذ والمريدين.

فالمعلم الأول أرسطو يحتل  بين فلاسفة العالم مكانة فريدة، ومنزلة وحيدة، فقد أثر إن سلبًا أوإيجابًا في التاريخ الفلسفي كله ،وصار أيقونة للفلسفة والفلاسفة على مر العصور، ولم تبلغ الفلسفة اليونانية ذروتها ونضجها إلا معه، ففي إطار مذهبه الفلسفي وما أسسه من علوم استوعب كل التراث الفلسفي السابق، وأضاف إليه وجدد فيه ونقح لدرجة جعلت الفلاسفة والعلماء حتى وقتنا الحاضر يدورون في فلكه، ويمشون في ركابه، ويقلدون مذهبه، وقد بالغ  الدكتور مصطفى النشار في كتابه “أرسطو رائد التفكير العلمي”، فقال:” إن هذا الفيلسوف اليوناني الكبير غيّر وجه التاريخ الإنساني حينما اضطلع وحده، وربما بمعاونة تلاميذه بتأسيس كل العلوم المعروفة منذ عصره حتى الآن”

وقد سبق النشار في الغلو في أرسطو أقوام كثر لعل أبرزهم الإمام ابن رشد، فقد كان يرى أن أرسطو وصل إلى أسمى معرفة يستطيع أن يبلغها إنسان، بل رفعه فوق مستوى الإنسان فأطلق عليه لقب:” الفيلسوف الإلهي”.

 والحديث عن أخطاء المعلم الأول” أرسطو” 384 ق .م – 322 ق .م  حديث متشعب يتصل بأصول فكره وفروعه على السواء وهذا لا يعني بالضرورة الحكم على جميع فلسفته ومخرجاته الفكرية بالخطأ والضعف بل إننا نقول بأن كثيرًا من أصوله الفكرية التي أقام عليها مذهبه الفلسفي مقطوع بخطئه، فعلى سبيل المثال لا الحصر إن جميع كلامه في الإلهيات والغيبيات أصولًا وفروعًا باطل مبني على ظنون وسفسطات لا تمت إلى العلم الصحيح بصلة، وما ظنك بكلام يخالف الوحي الثابت والشرع والصريح!

صحيح أنه كان يعترف بوجود الله، وأقام الحجج على ذلك، إلا أنه لابتعاده عن الوحي وقع في المحظور، فقد قال بأزلية العالم مع أزلية الله تعالى، اعتقادًا منه بأنه ينزه الباري عز وجل عن صفة (نقصان القدرة)، بحسب قوله «إذا اعتقدنا بأن العالم لم يكن موجود ثم أوجده الله، فإن هذا يعني أننا نقول بأن الله لم يكن قادرًا على الخلق ثم أصبح قادرًا، وهذا لا يجوز في حق الله، لذلك فلابد أن يكون وجود العالم أزليًا مع أزلية الله تعالى، لأن قدرة الله أزلية ومطلقة

وقد رد عليه الغزالي – رحمه الله – وألزمه الحجة، قال: «إذا كنتم تؤمنون بأن الله له صفات الكمال والجلال، فلماذا تذكرتم صفة (القدرة) ونسيتم صفه (الإرادة)، فالله تعالى له صفة (القدرة) وله أيضا صفة (الإرادة) وهو يخلق العالم متى شاء ومتى أراد، إذن لو أنكم لم تنسوا صفه (الإرادة) لما احتجتم لكل هذا التنظير حول أزلية العالم لتنزيه الله، لأن الله تعالى خلق العالم في الوقت الذي أراده هو مع وجود القدرة الأزلية والمطلقة ولا تعارض بينهما.

كذلك أنكر أن يكون الله تعالى يعلم شيئًا من الموجودات، بل قرَّر بأنه لو علم شيئًا لكمل بمعلوماته، ولم يكن كاملًا في نفسه !. وقد ردَّ على هذه الفرية الفيلسوف المسلم” هبة الله بن علي بن ملكا البلدي” ( ت: 560هـ). أما مقولاته الاجتماعية فهي تحفة من التحف تضحك المحزون، وتدهش المأفون…

 أنظر إليه وهو يقول بنظرية العناصر الأربعة – “الأرض، والماء، والهواء، والنار” – هي أساس كل شيء،وقد بقيت هذه النظرية حجر الأساس في الفلسفة، والعلم، والطب لألفي عام منذ القرن الثامن قبل الميلاد، وقد كان الخروج عن هذه النظرية خروجًا عن الدين يكفر صاحبها ويرمى بالهرطقة، وعقوبته الإعدام.

لقد اعتُقل الكيميائي الفرنسي إتيان دو كليف في عام ١٦٢٤م بتهمة الهرطقة، وحكم عليه بالموت لقوله بأن جميع المواد تتألَّف من عنصرَيْن — الماء والتراب — و«خليط» من هذين العنصرين مع ثلاث مواد أساسية أو «جواهر» أخرى؛ وهي: الزئبق والكبريت والملح، وإن نظرية” دو كليف”  تتناقض مع نظام العناصر الذي قَدَّمه أرسطو، وكلنا يعرف حتى الأطفال الصغار أن الماء والتراب والهواء والنار ليست عناصر بل مركبات وقد فند قوله هذا الفيلسوفان :” لو يوكوبوس” و ذيموقريطوس “وقالا بالنظرية الذرية التي تقرب ما يقال اليوم ولكن أرسطو بقي مصرًا على رأيه، ومن المعلوم بداهة أن علوم الفيزياء والكيمياء، قد قامت على إنكار هذه النظرية من أساسها، وكان يقول: – في ساحة علم الحياة- بنظرية التناسل التلقائي ،ويقصد بذلك العملية الطبيعية التي نتجت عنها الحياة من مواد غير حية، مثل المركبات العضوية، ويؤمن بأن الديدان والحشرات تتولد من تلقاء نفسها ، من الطين والجيف، ومن المعلوم أن علم الحياة الحالي، قد برهن على بطلان هذه النظرية برهنة قاطعة.

أما في المجال الاجتماعي فقد ذهب أرسطو في كتابه “السياسة” مذهب أستاذه أفلاطون في اعتبار الرق نظامًا طبيعيًا، ويجري مع أستاذه في تميز الجنس اليوناني ، ويعزو مثله هذا التمييز إلى الطبيعة، ويلتمس له تبريرًا في فلسفته، فالطبيعة عنده هي التي جعلت أجسام اليونان مغايرة لأجسام البرابرة، إذ أعطت هؤلاء القوة الضرورية في الرق الأعمال الغليظة للمجتمع ، فكانوا بطبعهم عبيدًا لا يصلحون لـغـيـر الخدمة والطاعة وخلقت  أجسام اليونان غير صالحة لأن تحني قوامها المسـتـقـيـم لتلك الأعمال الشاقة، بل وهبتهم حكمة ليكونوا أحرارًا وأعدتهم لوظائـف الحياة الدنية فحسب تلك الحياة التي تـتـنـازعـهـم فـيـهـا مـشـاغـل الحـرب.

ويفهم من هذا قوله بأن الرق ضرورة، وأن الاسترقاق من مهمات الحياة الاجتماعية، وكان يعلل اعتقاده هذا بقوله: “إن بعض الناس خلقوا ليكونوا أسيادا”، وبعضهم خلقوا ليكونوا عبيدًا..

وقد صحح هذا الخطأ الشنيع سيدنا عمر بن الخطاب حين قال قولته الخالدة:” متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا”، وكان  أرسطو يرى أن “الغزو لاسترقاق العبيد مشروع بقدر الصيد لاقتناص الحيوانات” فهل قوله هذا إلا نوع من العنصرية والاستعلاء !! وزيادة على ذلك فإن بعض الآراء التي قال بها أرسطو كانت من نوع السفسطات والمغالطات، فقد قال – مثلا -: إن الخط المستقيم لا يمكن أن يكون كاملًا بوجه من الوجوه لأنه إذا كان غير متناه كان غير كامل، إذ أن الكمال في الخط لا يتم إلا عندما يكون له شكل مرسوم بوضوح، وأما إذا كان الخط المستقيم المذكور متناهيًا، فلا يكون كاملًا أيضًا لأنه يبقى في هذه الحالة ما هو خارج عنه بطبيعة الأمر”.

وقد علق الأستاذ ساطع الحصري على هذا القول قائلا:” ومن الواضح أن كل ذلك من لغو الكلام وهو يدل على المغالطة في البرهنة والبيان”.

وما ذكرناه عن أرسطو في هذا الصدد ينطبق على الكثرة الكاثرة من الفلاسفة والمفكرين أمثال؛ سقراط، وبقراط، وكانط ، وديكارت، وماركس، وآنجلز، وفرويد، ونيتشة، ولينين.

     وبهذا يتبين لنا أن أرسطو لم يكن مُفكرًا إنسانيًا حرًا نبيلًا ولا مُصلحًا اجتماعيًا داعيًا إلى العدل والمساواة ، كما يروق لبعض المفكرين أن ينعته، فإن مواقفه من القضايا الاجتماعية    و الإنسانية في عصره أظهرته مُفكرًا  طبقيًا ، و نفعيًا مُتعصبًا ، وعنصريًا مُشجعًا على الظلم والبغي والعدوان.

وقد أرجع الدكتور عبد الله الشولي السبب في انزلاق الفكر الفلسفي – في بعض قضاياه وأحكامه- في هاوية الخطأ إلى عدم مراعاة كثير من القضايا التي لا تصلح لأن تُتناول فكريا، فخاض الفكر الفلسفي غمارها، غير آبه بفحواها الغيبي المتعالي، فوقع الفكر في التناقض واصطدمت أفكار الفلسفة ببعضها بعضًا لأن هذه الأحكام تتخطى حدود الفكر الإنساني، ومثال هذه القضايا : البحث في ذات الله وصفاته، والبحث في سر الروح ، والبحث في كيفية إعادة الأجساد إلى الحياة، والبحث في كيفية نزول الوحي وغيرها كثير.

وقد توصل كانط بعد إثباته عجز العقل المحض عن إثبات أوعدم إثبات مسائل تتخطى حدود العقل كثيرًا ما أنهك الفلاسفة في خوضها- إلى أن قدرة عقلنا لا تستطيع تقرير ما إذا كان العالم أزليًا، أم ذا بداية، وما إذا كان المكان العالمي مليئًا إلى لا نهاية بكائنات أم محصورًا في حدود معينة….إلخ.

وحسبك كلام “كانط” ردًا على كل الفلاسفة الذين تقحموا الخوض في حديث الغيبيات رجمًا بالغيب !

تقييم النص

يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد ! كن أول المعلقين !

التعليقات

إدراج الإقتباسات...