الفكرة والإيقاع
إنَّ دورة الفكرة في الرأس دورة إيقاعية. والايقاع حالة فسلجة مطلوبة لأنها تعطي الفرصة لتشكيل فكرة جديدة أو قديمة بثوب جديد وما بين كل فسحة زمنية تشبه التي بين دقتين للقلب ولولا الايقاع لهلك الدماغ بحكم ما يعتريه من اجهاد واستنزاف. بين ايقاع وايقاع يراجع الدماغ الفكرة الواحدة. فالذين عطبت أدمغتهم بتخلف عقلي أو مرض عضوي أو اصابة ذهنية، يعيدون الفكرة نفسها على ايقاع. وهذا ايقاع الفكرة فيستريح الدماغ هنيهةً ليقدح بثانية ترتبط سببا ونتيجة بالأولى. وهناك ايقاع الزمن الذي يفصل بين افكار لا ربط بينها وكلما قصر زمن الايقاع ليفصل الواحد عن الآخر يوماً أو أسبوعاً أو شهراً أو سنةً أو سنواتٍ أو حين يتسارع الإيقاع يتطاير الفكر الى حد أن يوصم صاحبه بالهوس أو الجنون. وحين يتباطأ الإيقاع يُجَمّد الفكرة الى حد أن يوصم صاحبه بالغباء أو الجمود، على أن بين الحالتين وسطاً للتوازن. ومن علامات العبقرية انها لا تعرف الايقاع فقد تقفز الى سطح الذهن فكرة مبدعة لا تنتظر الزمن ولا تحترمه. وفي الخوف يضطرب الايقاع وتتسارع افكار الخلاص من القلق فلا يحكمها زمن وشرُّ أنواع الايقاع هو النوع الذي يقترب من الرتابة ولا اَلدَّ عداءً للفرد والمجتمع من (الروتين) الذي هو أقصى أنواع الايقاع. لقد ظهر لدينا شعراء حوليون يفكرون في القصيدة حولا ويكتبونها في حول ويعيدون فحصها في حول. يسمونهم الحوليين ولا يدرون انهم الايقاعيون أنفسهم. لقد صار الايقاع عند بعضٍ حسنةً فيما صار عند بعض آخر سيئةً. ومن أصدقاء الايقاع: الاختصاص الذي يقود الفرد الى أن تكون أفكاره نمطيةً واقعة في المسار الواحد للفكر. ان الافكار شبيهة بالنضج الآتي من اناء منشرخ أو شبيهة بالنزف الداخلي من شريان مجروح. وكلما تراكم النضج دق جرس الايقاع لتخرج الفكرة الى الناس على لسان قائل أو بقلم كاتب. وخير المواقف التي تجعل الإيقاع في موقف المحاصرة والمضايقة.. فأغبى الناس يحث عقله لانتاج فكر ما في موقف الضيق.
يقولون عن شاعر ما أنه بدا يعيد نفسه حينما لا يأتي بجديد، فما السبب؟ السبب أنه لم يحاصر نفسه فاستمر ايقاع النمط الواحد من (الفكر الشعري) وهو لن يحاصر نفسه ما لم يحقق أسلوب الاحاطة والالتفاف على الشعر بأدوات المعرفة. هل يعني ما قلناه ان الايقاع لا يحدث ما لم يتشيأ الفكر بمعنى أن تصبح الأفكار أشياء؟ ان الأفكار كائنات حية لذلك فهي أشياء قبل كل شيء والشيء له وزن في واحد من قياساته فهل للأفكار وزن؟ ان وزن الفكرة هو التعبير الذي نقول به لنعني عنصر الضغط الذي تحدثه على رأس الملتقى فالوزن هو الثقل بلغة الفيزياء. وبين فكرة وفكرة يختلف الثقل الحاصل من سقوطها من المرسل على المتلقي. هنا يرتبط الايقاع بشكل من أشكال التعبير عن الطاقة وهو الوزن. لذلك تصبح الافكار التي لها وزن هي الافكار المحسوبة بالايقاع وما يقع خارج ذلك يظل بلا وزن فنفهمه على أنه فضلة في التفكير ونتوءً في الكلمات لا يعنينا بشيء. بقي أن نتعرف حالة المفكر في فجوات الصمت الواقعة بين ايقاع وايقاع. هل هي حالة موت الأفكار؟ أو هل هي حالة السبات الفسلجي في الدماغ الصالح للأفكار؟ انها ليست حالة موت ولا حالة سبات. انها حالة اعداد لجديد، قد تطول وقد تقصر ولكنها تستمر. ان أفضل المفكرين هو المفكر الذي يمارس سياسة القطع التاريخي وسياسة (الطور) فيصير ما قاله وما فكر به ملكاً لغيره فلا يعيده ولا يجتره الا في مقتضيات الاشارة وربط الجديد بالقديم السابق له. ربما يظل مفيداً ان نشير الى علاقة بالمفكر. فالمفكر المريض والمفكر الذي على سفر او غربة والمفكر الجائع والمفكر الممنوع من القول والمفكر الذي يريد ان لا يفكر حالات تعطيل الايقاع الفكري. ومن تطبيقات الايقاع في الممارسة الفكرية: نمطية القراءة في اتجاه واحد، حيث لا يقرأ التاريخي الا التاريخ واللغوي الا اللغة، والشاعر الا الشعر. ومن تطبيقاته: القراءة في وقت محدد عند الفرد مثل الأكل في وقت والنوم في وقت. ومن تطبيقاته: ممارسة التأمل على دورات أو فجوات زمن أو أطوار. ومن نتائج الايقاع المرضية: داء الوسواس القهري الذي يلجئ صاحبه الى تنفيذ أفكار معينة في حياته والقصيدة عند الشاعر قد تكون ايقاعية وقد لا تكون.
فإذا كانت فهي فكر تنفيذي يمارس الشاعر فيه دورة الكتابة مثلما تمارس المرأة العادة الشهرية. وحينما تكون ايقاعية فهي القصيدة الشرود النادرة المتفردة في الفن والفكر والاخراج. ومن نتائج الايقاع في الفكر: حتمية التاريخ على طريقة أن التاريخ يعيد نفسه فالايقاعيون هم الحتميون الذين لا يرون تقلب الايام الا وجوها لعملة واحدة. ومهما حاولنا الخلاص من الايقاع وقعنا فيه فالصيف الحار متبوع بالشتاء البارد، والجفاف متبوع بالمطر، والغضب متبوع بالهدوء، والخير متبوع بالشر. ان الايقاع يبدأ من الانسان بتوليد الشيء ونقيضه وللايقاع جمال مثلما له من قبح. فجمال الايقاع كامن في (نسق) الأفكار، وقبحه كامن في اضطرابها. وللايقاع صور كثيرة منها: سوء الظن، الشك، والاغتراب أو الميل الى ممارسته فامام كل حالة استقرار على شيء ينشأ سوء الظن به وعند كل حالة يقين يبدأ الشك بالظهور وفي كل حالة ائتلاف يبرز المؤتلف بالانكفاء الى الذات. ودورة الحزن والفرح دورة ايقاعية، وانفتاح المزاج وسوداويته ايقاع. ومن أجمل حالات المفكر أن يجرب كل مراحل وأجزاء يومه في ممارسة الفكر فهو مدعو الى كسر طوق الرتابة فيكتب في زمن القراءة ويقرأ في زمن الكتابة ويتعلم في زمن الأكل ويأكل في زمن التعلم.
يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا
لا يوجد تعليقات بعد ! كن أول المعلقين !
لا يوجد اقتباسات