بغداد/ كيلان محمد
تواكبُ الأعمال الروائية الكوارث التي تلقي بثقلها على مصير الإنسان وتضعُ المجتمعات القائمة على التعددية المذهبية والإثنية أمام تحديات وجودية كبيرة.
ولا تُختصرُ وظيفة السرد الروائي في تغطية الوقائع وتوثيقها بقدر ما يهدفُ إلى إثارة الأسئلة بشأن ما يستتبع الحدثَ من التحولات على صعيد التكوين المكاني والتشكيلة الثقافية التي تتمثّلُ في القيم والأعراف والميثولوجيا في التاريخ.
كل ذلك ينعكسُ في أنماط الحياة، وصورة التموقع المجتمعي الأمر الذي تراه بالوضوح في رواية "وشم الطائر"، التي وصلت أخيراً للقائمة القصيرة لجائزة البوكر للكاتبة العراقية دنيا ميخائيل إذ تمكنت من خلال نصها الروائي رصد مأساة المكون الإيزيدي جراء تفاقم ظاهرة الإرهاب متمثلة بتنظيم داعش.
عصفت رياح التطرف بالحلقة الأضعف لذلك فمن الطبيعي أن يكون لمحنة الأقليات حضوراً أوفر في التناول الروائي.
حول تجربتها في كتابة الرواية وتأثير بيئتها وخلفيتها في إبداعها الشعري وخبرتها في المجال السينما، وأثر ذلك كلّه على روايتها الأولى كان لنا حوار مع صاحبة "وشم الطائر".
*مادة الروايات الأولى أو ما يسمى بروايات التكوين مستمدة غالبًا من التجارب الذاتية للمؤلف، لكنّ "وشم الطائر" تخالفُ هذا الاتجاه بحيث يغيبُ فيها الملمح الذاتيّ. لماذا اختيار هذا المسلك في الكتابة؟
-"وشم الطائر" هي سيرة قريةٍ وشخوصها الذين يكوّنون انطباعهم عن العالم من خلال مكانهم الأول الذي فتحوا عيونهم عليه وهو عالم بمنتهى البساطة، وتتصاعد أحداث الرواية بتفاعل أولئك الشخوص مع عالم أكبر وأكثر تعقيداً.
دوري ككاتبة هو تصوير تلك الشخصيات بدمها ولحمها، أحلامها وكوابيسها، فقدانها وآمالها. ومن خلال كل ذلك، حاولتُ تمرير فكرة إنسانية استحقتْ مني الدخول في شرنقة والخروج منها بفراشة. الفن فراشة لها تأثيرها الهائل على العالم بالرغم من رقتها.
* تناولت في كتابك السابق "في سوق السبايا" معاناة النساء الإيزيديات، وهو عمل توثيقي لشهادات ضحايا العنف، ماهي الأبعاد الجديدة التي تمكنت من معالجتها لهذا الموضوع في الشكل الروائي ل "وشم الطائر"؟
-كان لابدّ لي من ابتكار مقدار كبير من الفن والجمال من أجل خلق توازن مع العالم التراجيدي والأحداث المريرة التي عالجتْها الرواية. اتكأتُ في هذا على خبرتي الشِعرية والمفارقات والأساطير الشعبية ذات المدلولات الثقافية والتاريخية.
*تدور أحداث الرواية في المساحة الجغرافية المنكوبة وتتواردُ في سياقها أسماء القرى والمناطق مع الإشارة إلى خصوصية البيئة، هل تعتقدين بأنَّ السرد الروائي آلية لإعادة التعريف بالمنسي والمهمش في الواقع؟ وهل نجحت "وشم الطائر" في كشف مستوى آخر من الكارثة؟
-في كتابتي بشكل عام، شِعراً أو سرداً، أعتني بالهشاشة والأشياء الصغيرة ذات الظلال الكبيرة. وهكذا حاولتُ في "وشم الطائر" تسليط الضوء على تلك الظلال. عن الكارثة، دعني أستعير مقولة المفكّر الفرنسي موريس بلانشو "في حين تنتزع منا الكارثة هذا الملجأ الذي هو فكر الموت وتصرفنا عن المذهل أو الفاجع وتغنينا عن كل ارادة وعن كل حركة، لا تتيح لنا، اضافة الى ذلك، أن نجازف بهذا السؤال: ماذا فعلنا لنعرف الكارثة؟
*ذكرتِ في إحدى مقابلاتك بأنكِ قمتِ ببحث وعمل ميداني تمهيداً لكتابة "وشم الطائر" هل أثرّت مقابلاتكِ مع الناجيات عليكِ نفسياً؟
-نعم، أثّرتْ فيَّ كثيرًا، لكنني لو لم أقم بذلك، لو لم أساهم في إيصال صوتهن إلى العالم، لتأثرتُ نفسياً بشكل أكبر. دعني أخبرك شيئاً، عندما انتهيتُ من الرواية وبدأت بقراءتها للمراجعة، بكيت، وكأني لستُ أنا التي كتبتُها وعايشت أحداثَها وشخوصَها ليل نهار...
*تنتهي الرواية بانتقال هيلين إلى كندا ومعرفتها بماريو الذي حمل معه أيضاً جروحه إلى أرض جديدة، هل نفهم من ذلك بأنَّ الهجرة ستكون ثيمة أساسية لأعمالك المقبلة؟
-كأي وليد جديد، يأتي العمل الإبداعي ومعه ملامحه وشكله ونبضاته. لا أقرر ذلك مسبقاً.
*أشرت سابقاً إلى محاولتك لتدوين مأساة الإيزيديين من خلال النص الشعري، كيف انعكست حساسيتك الشعرية في رواية "وشم الطائر"؟
- في خضم تساؤلاتي وحيرتي إزاء ما حدث، لا أملك أجوبة وإنما استجابات. رواية "وشم الطائر" هي إحدى استجاباتي التي حاولتُ بها تحويل الواقعة المأساوية إلى واقعة فنية.
تسرّبت الحساسية الشِعرية إلى الرواية بمفارقاتها ورموزها وظلال المعاني التي تتراءى خلف المَشاهد. الشحنات الشعرية في الرواية، برأيي، من شأنها أن تحفّز مخيلة القارئ وتنقل إليه عدوى المشاعر المتدفّقة.
*إلى جانب الإبداع الشعري والعمل في المجال التوثيقي لديك اهتمام بفن السينما ماذا أضاف وعيكِ السينمائي إلى المنجز الروائي؟
لا أدعي المعرفة الحِرَفية بفن السينما ولكن هناك ما يشبه عدسة سينمائية تتحرك في روايتي وأحياناً في قصائدي أيضاً.
*هل تعتقدين بأن الروايات التي تواكب التحولات والأحداث المجتمعية والسياسية ستصبحُ بديلاً للتاريخ؟
كُتب التاريخ تخبرنا عما حدث بشكل عام ولكنّنا لا نستطيع معرفة التاريخ الروحي للإنسان إلا من خلال الأعمال الفنية كالشِعر والرواية وبقية الفنون. الرواية تستخدم وقائع التاريخ ليس من أجل توثيقها فقط وإنما لتبيان وقعها على الإنسان وإيقاعها في الروح. ثمة تاريخ في كل رواية، ولا أقصد الرواية التاريخية وإنما الرواية بشكل عام فهي شكل فني لتاريخ ما، بشرط أن تكون قادرة على اقتناص ظلال ذلك التاريخ.
يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا
لا يوجد تعليقات بعد ! كن أول المعلقين !
لا يوجد اقتباسات