في الحوار الطويل الذي أجرته صحيفة "لوموند" الفرنسية قبل عام ونيّف مع الكاتب ميلان كونديرا، فكان أطول حوار أُجري معه منذ سنوات طويلة ونشرته الصحيفة على ست حلقات يومية، ليشكل آخر حدث أدبي عالميّ كبير قبل استشراء جائحة كورونا، كان لافتاً ألا يؤتى على ذكر كلمة انشقاق إلا بشكل عابر، مع أن كونديرا كان حين هاجر من بلده تشيكوسلوفاكيا إلى فرنسا حيث سرعان ما تبنى لغتها ونال جنسيتها، واحداً من كبار الذين تنطبق عليهم مواصفات "المنشقين". ولكن لا بد لنا من أن نتذكر كيف أن كونديرا منذ وصوله إلى فرنسا عام 1975، آثر ألا يُصنف في أية خانة. آثر أن يعامل بوصفه كاتباً حدث له أن بدل من لغته ومن وطنه، إنما دون أن يبدل طبعاً كينونته الإبداعية وعلاقته بفن الرواية كما علاقته بأوروبا بصورة عامة.
أدب ليس للاستخدام
ولا شك أن هذا كله قد أسبغ على كونديرا فرادة، وحال دون جعل أدبه الغاضب والمشاكس مع ذلك، بيادق تستخدم في لعبة شطرنج كونية. باكراً أدرك كونديرا أن أسوأ ما قد يحدث له هو أن يُستخدم. لأنه كان يعرف أن لكل "استخدام" فترة صلاحية محددة هي النقيض لفعل الإبداع نفسه. ومن هنا ما نفترضه اليوم من أن غياب الكلام عن "الانشقاق" وما آلت إليه أحواله و"مأساة" ضحاياه في حوار الـ"لوموند" كان مقصوداً ومتفقاً عليه. غير أن هذا لم يمنع أدب كونديرا، لا سيما في رواياته الخمس الكبرى الأولى، من أن يكون أدباً سياسياً بامتياز، وأدباً مرتبطاً بالأحداث التي عاشتها بلاده التشيكوسلوفاكية تحت ربقة الحكم الستاليني الأيديولوجي، ما تسبب أصلاً في إحساسه بخطر البقاء في وطنه ودفعه إلى الهجرة، لمجرد أن يجد لنفسه ملاذاً آمناً يجنبه مواصلة ذلك النوع من الكتابة المتمردة، هو الذي كان يحلم دائماً بما يعتبره "الأدب الكبير". وطبعاً يمكننا المساجلة طويلاً اليوم حول ما إذا كان كونديرا قد تمكن من إنتاج ذلك الأدب في أعماله المتأخرة التي كتبها بالفرنسية، بعدما انصرف سنوات لإتقان هذه اللغة إتقاناً مكنه أول الأمر من أن يعيد النظر في الترجمات التي كانت من نصيب رواياته الأولى التي نشرت في فرنسا، عندما كان لا يزال في وطنه الأم، غير قادر على إدراك ضعف الترجمات.
تصحيح لغوي
ونعرف طبعاً في هذا السياق أنه انكب طوال سنوات تالية على ترجمة أو الإشراف على ترجمة نصوصه الأولى، معيداً إليها طراوة وحسّ مرح كانت تفتقر إليهما. وهو بعد ذلك تسلم زمام الأمور بنفسه ليكتب رواياته وكتبه التالية بالفرنسية مباشرة، ثم يشرف على ترجمتها بعد ذلك إلى التشيكية، فيما يترجمها آخرون من الفرنسية إلى الإنجليزية والإيطالية وغيرهما من اللغات. مهما يكن تعد رواية كونديرا "خفة الكائن التي لا تحتمل" الصادرة بالفرنسية عام 1984 الخامسة في الترتيب الزمني لصدور رواياته، قبل صدور أصلها التشيكي عام 1985، نقطة الفصل في مساره الروائي. وليس فقط من ناحية اللغة التي كتبت بها (فكما حال رواياته الأربع السابقة عليها، "المزحة" و"الحياة في مكان آخر" و"فالس الوداع" و"كتاب الضحك والنسيان" وعديد من مجموعاته الشعرية والقصصية والمسرحيات والدراسات الأدبية التي كان قد بدأ يصدرها منذ نهاية سنوات الخمسين، كتب كونديرا "خفة الكائن"، المعروفة باسم "خفة الكائن التي تحتمل"، بالتشيكية لتترجم إلى الفرنسية، ولكن تحت إشرافه هذه المرة)، بل من ناحية الموضوع لأنها كانت الأخيرة التي ارتبطت حقاً بحياته في تشيكوسلوفاكيا، وبالأوضاع السياسية في هذا البلد. تلك الأوضاع التي نعرف كم أن كونديرا كان على ارتباط بها. بل لعل في إمكاننا القول هنا إن "خفة الكائن..." تبدو من وجهة نظر ما وكأنها خلاصة رواياته التشيكية في ارتباطها بحياته. ويبدو واضحاً أنه كتبها انطلاقاً من رغبته في أن تكون كذلك.
رواية أخيرة باللغة الأم
فبعد عشر سنوات من مبارحته بلده وسنوات من تحوله إلى مواطن فرنسي، وفيما كان كونديرا يستعد للتحول إلى اللغة الفرنسية، كان لا بد له من أن يكتب رواية أخيرة بلغته الأم، تعبر عن هموم وطنه الأم وتصور حياته خلال السنوات الأخيرة التي عاشها في ذلك الوطن. وكانت "خفة الكائن..." هي تلك الرواية التي يمكن أن يُنظر إليها بشكل أو بآخر على أنها عمل يجمع الروايات الأربع السابقة في بوتقة واحدة، ليقدم نوعاً من صهر لها على شكل خاتمة لرباعية متخيلة. ففي هذه الرواية التي قال عنها كونديرا نفسه ذات يوم إنها مجرد نص "عن امرأتين ورجلين وكلب وكيف سارت حياتهم في تلك المرحلة من التاريخ التشيكوسلوفاكي المسماة مرحلة ربيع براغ"، في هذه الرواية يبدو الأمر وكأن الكاتب يستعيد ما آلت إليه مصائر الشخصيات الرئيسة التي كانت قد مرت في الروايات الأربع السابقة، وأحياناً بالأسماء نفسها تقريباً، ولو في حقب زمنية مختلفة يبدو للوهلة الأولى أن لا رابط بينها، بحيث أننا نجدنا في "خفة الكائن..." في الفصل الأخير من ذلك التاريخ في معمعان ربيع براغ والغزو السوفياتي لتشيكوسلوفاكيا... تاريخ يقدمه كونديرا وكأنه الفصل الأخير من حياة أمة ومجموعة من المثقفين ومدينة، وذلك ليس فقط عشية أحداث كبرى ستكون هي ما قادته إلى الهجرة النهائية، بل حتى عشية انفراط ذلك الوطن الذي كان قد ارتبط به وناضل في سبيله، كما حال توماس بطل الرواية، الطبيب الجراح والمثقف الغاضب حتى من دون أن ندنو من اعتبار الرواية سيرة ذاتية للكاتب... وهنا لا بد أن نفتح هلالين لنشير إلى أن ثمة في ثنايا الروايات الخمس التي نشير إليها ما يضعنا دائماً أمام احتمال أن تكون الشخصية الرئيسة مرآة ما لكونديرا نفسه، حتى وإن أنكر هو دائماً استعارته لذاته في رسم تلك الشخصيات. غير أن الواقع يقول لنا إنها عاشت جميعها في تشيكوسلوفاكيا متزامنة مع كونديرا مجايلة له، تشبهه في ثقافاتها وتطلعاتها ومآزقها. وكأن الكاتب أراد دائماً أن يحكي سيرة وطن من خلال سيرة جيل وسيرة جيل من خلال فرد يشبهه إلى درجة التطابق.
مناهضة عود نيتشه الأبدي
على أية حال، لا بد أن نذكّر هنا بما ألمحنا إليه في سطور سابقة، مع نهاية "خفة الكائن..." توقف "تدوين" ذلك التاريخ، ولم يبد أن ميلان كونديرا لا يزال في حاجة إلى كتابة هذا النوع بالتحديد من الروايات، فما كتبه بعد ذلك كان دراسات عن فن الرواية وعن كتاب كبار يعتبرهم أسلافاً له (منهم هرمان بروخ صاحب "موت فرجيل"، مثلاً)، وروايات لا تكاد تخفي سورياليتها واقترابها من الكوميديا ديل آرتي، وحتى من نصوص رابليه ممزوجة بقسط وافر من الفلسفة، لا سيما من الفلسفة المناهضة لنيتشه وفكرته عن "العود الأدبي" مناهضة تظهر بكل وضوح في "خفة الكائن..." على أية حال. بل قد يكون من المفيد هنا أن نذكر أن الفلسفة التي سوف تطغى على روايات تالية لكونديرا، مثل "الخلود" (1990) (التي كانت آخر نص كتبه بالتشيكية) وبخاصة "عيد اللامعنى" (2014) التي كانت آخر ما صدر له من أعمال أدبية حتى الآن، والتي تخرج عن نطاق كل ما كتبه من قبل بسورياليتها التي تقرب من الدادائية في فوضى خلاقة، حتى وإن كانت تمت بصلة ما إلى روايته الكبيرة الأولى "المزحة"، ما يعني أن كونديرا أكمل كما يبدو دورة أدبه. بل أكثر من هذا، قال في هذا النص الأخير ما كان من شأنه أن يفتتح حياته الأدبية قبل ذلك بأكثر من نصف قرن، أي جعل "عيد اللامعنى" تبدو وكأنها ما كان يجب أن تكون عليه "المزحة" (1967) لو كان حينها يعيش في وطن طبيعي وفي ظل ظروف أيديولوجية طبيعية. ما يعني أن النص الأخير كان يجب أن يكون القاعدة لديه وكل ما سبقه استثناء.
بقي أن نذكر أن ميلان كونديرا ولد عام 1929 في برنو في ما يسمى اليوم جمهورية تشيكيا وهو منذ عام 1981 مواطن فرنسي إضافة إلى جنسيته التشيكية التي استعادها عام 2019 بعدما كانت سلطات براغ انتزعتها منه عام 1979.
باحث و كاتب من لبنان
يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا
لا يوجد تعليقات بعد ! كن أول المعلقين !
لا يوجد اقتباسات