أنا في مطار "كييف" مرهون جوازي
إذْ أتيتُ من العراقِ وقد تكون عليه
آثار الجريمةِ،
فالحضارة في ترابٍ صار وحلاً والتلالُ،
الدارساتُ، خنادقٌ ومسلحون هناك
مغتصبون، محترفو انفجارتٍ،
وربما
أنا واحدٌ منهم أو اني جئتُ أهربُ
أو أُهرِّبُ ..، أيّةً ،
لابد من نظرٍ :
"لماذا جئتَ ؟ "
" لا أدري ، مللتُ الارض حولي
قلتُ علَّ الكون يرحمني باخرى، علني
القى الحياةَ و ان في الاسفار عشر فوائدٍ
... قالوا ، يقولون الحياة جميلة ببلادكم
"بعد الثلوج ..." وها أنا !
وأزاحَ كلَّ البِشْرِ من وجهي بنظرتِهِ
خبيرٌ في الوجوه ، ملامحي
ليست كما يُبدي الجوازُ ، يقول لي:
"هل أنتَ ياسينُ بن طه؟ أنتَ هذا ؟
دخلَتْ عيناهُ في عينيّ ، اصبعُهُ
امتدتْ لتُنطِقَ صورتي ( وكأن تلك الصورة
ارتجفتْ ووجهي ظلَّ يسألها التطابقُ ..،)
لم يزلْ
صيداً جوازي في يديهِ ، كمثل عصفورٍ أعارَ
جناحَهُ مستسلماً ..،
"هل أنتَ هذا ؟ " صاحَ مثل مؤكّدٍ شكّاً بأمرٍ ،
"سيدي لا شكَّ في هذا . السفارةُ
حقّقت ، ختموا جوازي . هذه تأشيرةٌ فيه ،
فما معنى الشكوك ؟ ولستُ ممن يستطيع
جريمةً ، عمري ..، ولستُ مغامراً فكما ترى ..."
هذَرٌ. كلامٌ ليس يُجدي، كادَ يلمسني احتقارُهُ –
قلتُ في نفسي : " أأبقى طول عمري لا تفارقني
شكوكهمُ ، الرقابةُ حيثما وليّتُ وجهي ، ها أنا
في غرفة التحقيق في "الأمن القديمة" ها أنا
في مركز الشرطة في بعقوبةٍ ..،
هذا عريف حْسين يكتب محضراً وجليلُ
ضابطُهُ. لطيفٌ خيّرٌ ومؤدّبٌ لكنه ،
عفواً ، يرى
"أن الشيوعيين طاعونٌ" ، ولم يثبتْ بمختبرٍ
كلامُهُ .. ، انما
هو يُتقِن الكلماتِ يبقى طيّبا ،
يبقى بلا خبثٍ يؤدي واجبا .
لكن " عريف حْسين " منطفيءٌ ومسمومٌ ولا أحدٌ
سيذكره بخيرٍ .. كيف جئتُ لذكرهِ ؟ هذا
مطارُ كييف ! تلك تعاسة تبقى تلاحقُنا .
ومضى كمن يأتي بشيء ..، ثم عادَ، تتابَعتْ ،
في لهجةٍ مكسورة النغمات ، أسئلةٌ وشكٌّ
مثلما هم في الجراحةِ قبل حسم الامرِ –
مازال الجواز الأخضرُ المنحوس بين يديهِ ،
قلّبَهُ وقلبّني
ليقول لي "أبطاقةٌ أخرى لديكَ ؟ "
" نعم .. وهذي .. لست أملكُ غيرها. "
وكأنه اختلفت ملامحُهُ، رأيتُ الشعرَ
يخطف فوقَ شدّتِهِ ، وصار يرِقُّ عذباً :
" شاعرٌ ، ومن اتحاد كتاب العراقِ ؟ "
تهلّلَتْ في الغيم سحنتُه القَطوبُ وقال لي :
" اجلسْ هناك، وسوف ننظرُ .. ربما .. "
وكأن إنساناً جديداً فيه لا ذاك المفتّشُ ،
قال : " ان الواجب الأمني يقضي .. "، قال لي :
"انا قبل هذا كنت أكتب في الصحافةِ ،
كنتُ يوماً شاعراً . مازال ناسٌ يكتبون
الشعرَ؟ شيءٌ مضحكٌ . حِرَفٌ
كثيرات تدرّ المال . هذي مهنةٌ بطُلَتْ
وغادرها الزمانْ ،
يوماً كتبتُ قصيدةً عن أرنب نفخوه فيلاً ،
لو ترى ، كل المدينة أغرقَت في الضحْكِ ،
صار حديثُهم "الأرنب المنفوخُ". حتى لامني
ناسٌ لترْك الشعر.. هذي ذكرياتٌ
حين أذكرها أهزّ الكَف ، كيف أضعتُ
وقتي في سفاهاتٍ ، فلولاها لزدتُ الآن
مرتبةً ومرتبتينِ .. دعْ هذا ،
تُمارس مهنةً أخرى ؟ "
يصطاد في حوضي .. واعرف كيف يستلّون ..،
حدّق بي طويلاً قبل أن تأتي "انتظرني!"
كم تغيّر صوته في "انتظرني" فهي مثل تحيةٍ
وكأنما أملٌ ..
أمضي لكرسيّ: بزاويةً ومحفظتي النحيفة تحت إبطي
ليس غير قصائد فيها واوراق وقاموس صغيرّ
ربما احتاج نجدته وغير رواية اكملت نصف فصولها ..
لكنني في وحشة النظر الطويل على البَلاط لكي ارى
الباب التي واروا جوازي خلفها ،
أوشكتُ أن أُعلي صراخي في المطار : خذوا
كتاباتي واوراقي خذوا حتى الجواز خذوا ماشئتمُ
مني ، فاني قد أتيتُ هنا
خطأً ، أتيت هنا !
دعوني فوق هذي الارض جوالاًَ بلا هدفٍ
ولا معنى ولا وطنٍ ، دعوني مثل باقي الناس
حرّاً ، ارتضي في البارك مصطبة ومثلهُمُ
ألهو ووجهي طازجٌ فرِحٌ أُنكِّتُ أو اغازلُ
أو
اسبّ حكومتي !
لو أن لي سقفاً صغيراً هادئاً ، أو غرفة
حجمََ السرير ، رواية أحيا بعالمها واشرب
قهوتي –
ها قد أتى !
ليقول معذرةً عن التأخير ثالثةً "ولكن
الاوامرَ غير روح الشعر ، نعرف أنتَ
قصّتَها
لا لن يطول الوقت ، بضع دقائق وتكون
في كييف ضيفاً .. "
سبحانك اللهم : هل ضحك الجدارُ ؟ أحلّ ضيفاً ؟
نكتةٌ لم تنتهي ، حتى أشاروا "لو تفضّلتم!"
مديرٌ آخرٌ أو ضابطٌ أو أنه ...، ماذا
لو اني هارب من كونتنامو، ما يكونْ
لو انني خلْق غريب حطّ فوق الكوكب الارضي،
لو اني بذيلٍ أو بقرنين على رأسي
وأدخل في المطارْ ؟
الصمت فاجأنا كما غيم تكوم كلُّ شيءٍ هاديءٌ
لا صوت . ضوءٌ، كاميراتٌ من اتى ؟
قالوا رئيسٌ قادمٌ أو حاكمٌ
أبقى جرائمه و راءه كي يُرحّبَ فيه وفْدٌ ،
كي يُقابَلَ بالتحيات الكثيرة وهو يهملها ويمضي .
وأنا هنا
في القاعة الأُخرى، يكاد النوم يأخذني
ورأسي مالَ من تعبٍ
وأجلس مثل شحاذ وراء البابِ
انتظر الجوازْ !
يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا
لا يوجد تعليقات بعد ! كن أول المعلقين !
لا يوجد اقتباسات