يبدو أن ظهور العباقرة من شعراء وكتاب ومفكرين لم تعدموجودة عندنا في العالم العربي بالشكل الذي كانت عليه في بدايات القرن الماضي ،ونحن هنا لا ننكر أن عندنا حاليا أفذاذا في مختلف مجالات الفكر والأدب،لكنهم ليسوا على مستوى الشهرة والصيت اللذين كانا لدى أسلافهم،فنحن لم نعد نرى أفذاذا عباقرة كما هو الشأن بالنسبة لمفكرين وأدباء مثل :الرافعي والعقاد وطه حسين وشوقي وحافظ والجواهري وقاسم أمين وجبران ونعيمة والقائمة تطول…ولا أدري ما هوالسبب في اختفاء هذه الظاهرة ،أوعلى الأقل السبب في خفوتها خفوتا ظاهرا جليا.فلا شك أن ثمة أسبابا ذاتية وموضوعية عملت على حجب الظاهرة أوعلى ضمورها ضمورا باديا للعيان..
ويجدر بنا هنا أن نسرد بعض العوامل التي أراها كانت دافعا أساسيا لبروز تلك الظاهرة ،والتي ساعدت على تلميعها وتأطيرها،وأجملها في الآتي:
الثقافة:
إن أولئك الأفذاذ اتسموا بامتلاك رصيد ثقافي واسع ومهم، حتى أننا لنكاد نقول بأنهم كانوا موسوعيين -حسب علمي فإن آخر الموسوعيين كان هوالشاعر الألماني جوته-،فالأديب أوالمفكر منهم كان لديه ما يقوله للناس،بمعنى أنه كان يتكلم ويعلم ما يقول ،ومعنى يعلم ما يقول هوأنه كان يعرف المواطن التي تحتاج إلى البحث فيها والتحدث عنها،أي أن المفكر والأديب كانا يضيفان الجديد،وفي اعتقادي الشخصي أن الإضافة النوعية هي التي تميز المفكر والأديب من غيرهما.ثم إنه كانت لديهما قناعات وأفكار يؤمنون بها ويدافعون عنها ،تارة باستعمال المنطق ،وتارة بإيرادالحجة والدليل.
وسائل الاتصال:
كان لوسائل الاتصال دور حاسم في ذيوع صيت أولئك الأفذاذ ،كما كانت سببا في شيوع أفكارهم وأدبهم،و هذا العامل وإن كان على درجة من الأهمية لا تخفى فإنه لا يصدق على كل من كانت له به علاقة من كتاب ،فكم من أديب وكم من مفكر لم يبق منه شيئا ،مع العلم أنه في وقته كان من الوجوه الدائمة الظهور في المنابر الإعلامية ،والأمثلة عن هذا تجل عن الحصر.
وضوح الفكرة والهدف:
بالنسبة للمفكرين فقد كانت لديهم أفكار واضحة وأهداف يحاولون الوصول إليها ،ففي أدمغتهم كانت تلك الأفكار واضحة على ما تتسم به من تخمر ونضج لما لأصحابها من بعد نظر و اتساع أفق، وقدبسطوها للناس بشكل سليم في كتاباتهم،وقدامتاز أسلوب هؤلاء بثلاث ميزات لا بد منها للأسلوب كي يكون أسلوبا ناجعا وراقيا ،وهي:الوضوح والدقة والمتانة.فأسلوبهم لا غموض فيه ولا لبس ،وتبعا لذلك فقد جاءت أفكارهم ساطعة واضحة ،تجد من الناس المناصر لها والمناوئ والمعادي حتى ،ومن هو دون ذلك ،وقد كنا نرى المعارك الأدبية والفكرية محتدمة ،وعلى أشدها بين كاتب وآخر،وبين القراء المناصرين وغير المناصرين،فكان الحقل الأدبي والفكري يعرف حركة دؤوبة ،ويعج بالحركة والنشاط،والمهتم لا بد أن يخرج من ذلك بالفائدة الجمة والتنوير المغذي للعقل والمنعش للروح.
ويبدو أن عامل الاحتكاك بالغرب كان له أثره في وجود هذه الظاهرة ،فكثير من المثقفين الذين كانوا طرفا في هذه المعارك هم من أولئك الذين اتصلوا بالغرب اتصالا مباشرا ،أو من الذين تأثروا بثقافته الوافدة ،مقابل المثقفين المحافظين الذين وقفوا ضد التيارمنافحين عن القيم المتوارثة ،مبينين خطورة الأفكار المستوردة على هوية الأمة.
إن ظاهرة بروز العباقرة أو الأفذاذ هي ظاهرة عالمية ، وخفوتها أو انعدامها هو ظاهرة عالمية كذلك،إلى أنها تختلف في الدرجة قوة وضعفا من مكان إلى مكان ،ومن مجتمع إلى مجتمع.
وإذا كنا قد سردنا بعض العوامل التي كانت حسب رأينا وراء ظهور بعض عباقرتنا العرب ،فلا بد أن نعطف على ذلك ببعض العوامل التي قللت منها أو جعلتها تكاد تكون منعدمة،فنقول:
ضغط الجماعة على الفرد:
إن الجماعة لها سلطة معنوية على الفرد ، سلطة قاهرة لا تلين لها عريكة ولا يهن عزم،فالمفكر أو الأديب يجد نفسه محاطا ومحاصرا بالجماعة ،لأنها تمثل القيم المحافظ على التقاليد والأعراف التي بموجبها هي محافظة على كيانها ومستمرة في الوجود،فأي كاتب أو مفكر هو مدعو لأن يكون منسجما في طروحاته وفي استخراجاته مع ما يتماشى مع القيم السائدة في مجتمعه ،وإلا سيتلقى صنوفا من الأذى والجفاء لا تتصور.
الشخص العادي:
إن الشخص العادي يرى في ما يقوله المفكر العبقري شيئا متطرفا،إما لأنه لا يفهمه ،وإما لأنه مشبع بأفكارمغايرة يراها هي الصواب وغيرها خاطئ.ولذا فهو يهمله ويحاربه على مستويات منها:
-أن لا يحفل بأفكاره.
-أن يشنع فكره ،وينشر ذلك في الملأ.
-أن يؤلب عليه العامة والخاصة.
-أن لا يقدم له الدعوة لتقديم أطروحاته والتعبير عن وجهة نظره في محاضرة أو ندوة أو في لقاء عاد.
الأفذاذ وشعور الآخرين بالنقص:
إن الأفذاذ يجعلون الناس العاديين يشعرون بالنقص،ويدخلون علي أنفسهم الضيم،فكم من عظيم أو زعيم قدم أعمالا جليلة عادت بالنفع العميم على وطنه أو على الإنسانية قاطبة،ولكنه في نهاية المطاف لم يجد من الناس ما يستحقه من إجلال وإكبار وتقديرلما قدمه،فسقراط مثلا كان سبب تقديمه للمحاكمة هو العامة،وقد مات وهو حانق على الديموقراطية التي أدت به إلى مصير سيئ،وشارل دوجول محرر فرنسا تنكر له الناس فصوتوا لمنافسه في الإنتخابات..الخ..الخ…
وأخيرا نقول هل انتهى زمن العمالقة في الفكر والأدب؟أم هل سيظهر عمالقة آخرون جدد؟وإذا ظهروا هل نستطيع تخمين وتحديد الطريقة والكيفية اللتين سيظهرون بهما؟
أرجو أن أكون قد وفقت في طرح وجهة نظري في مسألة من المسائل لها علاقة بالوضع الثقافي العربي عموما، ولا شك أن بعض الأمور قد غابت عني وأنا أكتب و أحاول قدر ما استطعت أن ألمّ به و أكون واضحا في طرحي هذا.
لا يوجد اقتباسات