تعيش الترجمة في عصرنا الحالي وفي السنوات القادمة تحولًا جذريًّا، فبمساعدة الكمبيوتر والبرامج توشك على إحداث تغيير كبير في طرائق اتصالنا وفي علاقتنا باللغات؛ لذلك يجب تجديد التفكير في قضايا الترجمة من منطلقات وقضايا جديدة، وفي هذا السياق يأتي كتاب «الترجمة والعنف» لتيفاين سامويولت الصادر في 2020م عن دار سوي الفرنسية، والمؤلفة متخصصة وأكاديمية في الأدب المقارن، وأستاذة جامعية في السوربون، وهي معروفة أدبيًّا بمشاركتها في الترجمة الجماعية لرواية عوليس: جويس (عن دار غاليمار في عام 2004م)، وهي مؤلفة عدد كبير من الدراسات والمؤلفات المهمة، ولعل أبرزها كتابها عن سيرة رولان بارت وكتابي «حيوان السيرك واليد السلبية»، و«الساعة المحطمة»…
تدرس تيفاين سامويولت قصص العنف التي ربما لعبت فيها الترجمة دور (الهيمنة الاستعمارية، معسكرات الإبادة، مجتمعات الفصل العنصري، الأنظمة الشمولية)، إضافة إلى الحالات الأدبية التي تجسد العنف المحدد في الفضاءات المترجمة. غير أن الترجمة تتعلق أيضًا بالعدالة والإنصاف، ولأننا لا يمكننا التنبؤ بالمواجهة والتحولات في المكان والزمان، فإن الانفصال الذي ينجم عنها، يمكن أن ينعكس على جبر العنف المقترف.
وبعيدًا من قضية الترجمة في حد ذاتها، فإن كتاب «الترجمة والعنف» يتوجه إلى جميع المهتمين بالحوار بين الثقافات والآداب واللغات، والمؤمنين بالإمكانية السياسية لصنع عوالم مشتركة.
يبدأ عمل تيفاين سامويولت من ملحوظة عامة: عادة ما يُنظر إلى الترجمة على أنها عملية إيجابية جدًّا، فهي تضمن الانفتاح والتواصل مع الآخرين. بتشجيع من أعلى السلطات السياسية (المفوضية الأوربية، اليونسكو…)، الترجمة تحتفل بالتنوع، وتسهل التواصل بين الناس من مختلف أنحاء العالم وتسمح بالتفاهم والاحترام المتبادلين. ولمواجهة هذا التفاؤل الكبير، يسعى كتاب «الترجمة والعنف» إلى تفكيك الافتراض التسامحي للترجمة من خلال استدعاء آليات الهيمنة المتأصلة فيها: حيث من المفترض أن تكون ممارستها من أجل التواصل والاتحاد والبناء، لكنها قد تكون من أجل التفكيك، والتقسيم والتدمير. من خلال الفحص التفصيلي للعديد من الحالات التاريخية، تهدف الباحثة إلى تسليط الضوء على أشكال العنف التي يولدها أو يرافقها عمل المترجم؛ أي «إعطاء الترجمة إمكاناتها السلبية النشطة».
اللغة والهيمنة
يمكن التعرف إلى هذه السلبية، وأفكار عملية الترجمة، بأشكال متعددة؛ أولًا عبر الصيرورات التاريخية، إذ غالبًا ما لعبت اللغة دورًا رئيسًا في منطق الهيمنة، وفي العلاقات التي تعتقد أنها تقوم بإنشائها، والتي تكون، في الأغلب، قاب قوسين من سوء الفهم، ولكن أيضًا في فعل الترجمة ذاته، الذي لم يعد إقصاؤه الدلالي قابلًا للإثبات. وإلى جانب التركيب النقدي البارع الذي يقدمه هذا الكتاب، وبلا ريب سيرضي أي قارئ يرغب في التعرف إلى الأدوات المفاهيمية للدراسات عن الترجمة، تنشر تيفاين سامويولت فكرًا متطلبًا وموسوعيًّا، بحيث تسبر الباحثة بسهولة عالم التاريخ الأدبي لتستنبط أمثلة رمزية عن ضراوة الترجمة.
إذا كانت أنواع العنف كلها متعددة الأشكال، فإن أكثر أشكاله إثارة للانتباه هي تلك التي تُرى على نطاق واسع. وهكذا تبدأ تيفاين سامويولت سعيها وراء التناقضات في الترجمة عبر استكشاف عميق لتاريخ الإمبريالية السياسية. تذكر المؤلفة، على غرار إدوارد سعيد، أن التنافس بين المستعمِرين والمستعمَرين يتجلى أيضًا في المجال اللغوي، حيث تصف العديد من الحالات في أميركا الجنوبية والمغرب التي أدى فيها فرض لغة الغازي الأوربي إلى تدمير الثقافة الأصلية. وبذلك تلعب الترجمة دورها الكامل في حالات العنف التاريخي، فهي تخاطر دائمًا بإخضاع الأجنبي لعبء اللغة المهيمِنة، ونتيجة لذلك «تشارك في إجراءات السيطرة والقمع والرقابة».
أثبتت الجغرافيا السياسية للترجمة أنها عديمة الشفقة؛ يمكن أن تؤدي الأخطاء في النسخ من لغة إلى لغة أخرى إلى أزمات دبلوماسية حقيقية، كما كانت الحال في أثناء الحرب الفرنسية البروسية أو المفاوضات الأميركية اليابانية عشية الاستسلام. وفي هذا السياق تضاعف الباحثة من استثمار الحكايات التي تثير الذهول أحيانًا عن العواقب السياسية الناتجة عن تشويه اللغة الأصلية وانحطاطها أو استيعاب اللغة الأصلية.
إلى جانب هذه الأشكال الخارجية من العنف، تقدم الترجمة أيضًا تناقضات داخلية يكون «فضاء النضال هو الترجمة نفسها». هذه الدعوة لمراقبة السلبية الكامنة في الترجمة هي ضد المقاربات التقديسية للغة الأصلية. وهنا تنتقد الكاتبة أفكار ميشونيك خاصة، عبر فصل الترجمات «الجيدة» عن «السيئة»، يقدس المُنظِّر النص المرجعي ويبطل العديد من الترجمات، التي يحكم عليها على ضوء الأصل المثالي المفترض. تتصدى تيفاين سامويولت إلى مثل هذا «الغموض غير القابل للترجمة» الذي يفرض اختلافًا في القيمة بين النص المصدر والنص الهدف، عبر التذكير بالطابع غير الكامل بالضرورة للترجمة، واستبعاد أي ترجمة مقترحة. إن هذا العنف اللغوي الملازم للترجمة، الذي وصفته الباحثة بـ«العداء»، في استحضار واضح للفيلسوفة شانتال موف، لا يمارس على مستوى شكلي بحت، ولكن أيضًا على المستويين الدلالي والتأويلي. وما دامت المساواة بين اللغات لا تعني هوية أنساق التعبير، وأن «التكافؤ مستحيل»، فإن أي ترجمة محكوم عليها بتحريف النص الأصلي. لذلك فإن الترجمة تمارس عنفًا مزدوجًا؛ أحدهما يغذي عمليات الهيمنة الثقافية، والآخر يتدخل حتمًا في أي عملية للترجمة، وكلاهما يخاطر دائمًا بمحو الاختلافات.
الاستخدام السري للترجمة
قد تكون الأشكال المتعددة للفصل التي تنطوي عليها الترجمة كافية لإبطالها نهائيًّا. ومع ذلك، يبدو أن في هذه السلبية تكمن (أيضًا) قوتها الحيّة. تقدم المؤلفة مثال الاستخدام السري للترجمة في السياق التوليتاري، ثم مثال بريمو ليفي الذي يحاول ترجمة دانتي داخل معسكرات أوشفيتز، بحيث تتوقف الترجمة عن كونها وسيلة للصراعات، وتصبح وسيلة للمقاومة. أما مؤلف كتاب «لو كان رجلًا»، فإن «إدخال الكتاب المفقود إلى اللغة المفقودة» (ص 92) هو الوسيلة المؤقتة للهروب من العنف التاريخي.
إن ممارسة الترجمة قد تمكن من استبدال نشيد دانتي بجحيم المعسكرات؛ أي «نوع من بابل الأبدية، حيث يصرخ الجميع، بأوامر وتهديدات بلغات غير معروفة تمامًا». يمثل هذا المثال في الفصل الرئيس محورًا أساسيًّا: ماذا لو استطاعت الترجمة التي تتميز بالفجوة والمسافة، أن تجد بطريقة ما علاجًا لدائها؟ ومن هنا، يبدو عنوان الكتاب مضللًا بعض الشيء؛ هدف تيفاين سامويولت ليس مجرد الإشارة إلى العنف الكامن في أي مبادرة للترجمة، ولكن أيضًا وقبل كل شيء وضع الأسس لسياسة الترجمة. لكي يغدو «ما يفصل هو أيضًا ما يرأب الفجوة». إذا كانت كل ترجمة غير كاملة وتحتوي دائمًا على «أثر غير عادل»، فهذا مردّه أيضًا إلى محافظتها على تعذر الفهم الكامل الذي يطبع جزئيًّا أي علاقة بالآخر.
لذلك سيكون هناك جزء اللايقين في أي محاولة للترجمة. يقدم النسخ الكريولي لبروست بقلم غاي ريجيس جونيور مثالًا عن لقاء غير متوقع: إن نسخته الافتتاحية لكتاب «بجانب منزل سوان» تنقل النص إلى الشفوية الكريولية، وبذلك تأخذه «إلى منطقة، نوعًا ما، ممنوعة وجديدة». يحدث الانتقال من لغة إلى أخرى هنا في ظل نظام المفاجأة. ويسمح للمؤلفة لجوؤها إلى دولوز ودريدا بأن تدعم فكرة الترجمة هذه باعتبارها تجربة محدودة، لكنها قادرة على تطوير إمكانات جديدة وباستمرار «على حساب عدد معين من عمليات التخلي الذاتي». هذه الأخلاق لها علاقة بسياسة تسعى بطريقة ما لتأسيس عوالم مشتركة.
يعيد فصل «الترجمة والمجتمع» إعادة النظر في العديد من المحاولات النقدية، من أنطوان بيرمان إلى ليلي روبرت فولي، من أجل التفكير في أشكال الترجمة التي لم تعد تسحق الآخر تحت وطأة المقارنة بالذات. وبذلك تستنتج المؤلفة أن الترجمة، على عكس النص الأدبي، ستواجه دائمًا صعوبة في الانتشار.
في نهاية المطاف، يدعونا كتاب «الترجمة والعنف» إلى الانفتاح على فكرة دراسة ترجمة مجالات العلوم الإنسانية الأخرى، ودراسات النوع الاجتماعي، على سبيل المثال: يمكن عدّ الترجمة بمنزلة عملية توارث جيني، تدعونا إلى إعادة النظر في العلاقة بين النص الأصلي وامتداده إلى لغة أخرى من خلال استعارة التوالد. أخيرًا، يدعو الفصل الأخير «منعطف حساس» القارئ إلى تخيل ترجمات قادرة على استعادة الأشكال الصوتية والمرئية للنص الأولي. بما أن تأثير النص في القارئ لا ينحصر في معنى الخطاب الذي يحتويه، فإن المسألة تتعلق بابتكار ترجمة قادرة على «إضافة الحواس إلى مقام المعنى».
يأتي النداء إلى الإصغاء خاتمة لكتاب تيفاين سامويولت، الذي انفتح على نقد الإيجابية الزائفة للترجمة، التي ينقلها الخطاب الرسمي العرقي، لتقترح في النهاية فكرة ترجمة قادرة على تحويل الخلاف إلى أخلاقيات يقظة واستماع.
ولما كانت الترجمة فعلًا متعديًا في جوهره، يتوجه نحو الآخر، فهي بلا شك تشكل حصنًا ضد اللامبالاة، أو الصمت، أو بتعبير شاعر ومترجم (مارتان ريوف) تحب تيفاين سامويولت أن تستشهد به، تشكل الترجمة حصنًا «ضد الرماد».
-----------------------------
سعيد بوكرامي:
كاتب وناقد ومترجم ، حاصل على إجازة في الأدب العربي ودبلوم الدراسات العليا المعمقة.. مؤسس ورئيس الصالون الأدبي بالدارالبيضاء، ومدير مجلة أجراس الثقافية.حاصل على الكثير من الجوائز.
كاتب وناقد ومترجم ، حاصل على إجازة في الأدب العربي ودبلوم الدراسات العليا المعمقة.. مؤسس ورئيس الصالون الأدبي بالدارالبيضاء، ومدير مجلة أجراس الثقافية.حاصل على الكثير من الجوائز.
يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا
لا يوجد تعليقات بعد ! كن أول المعلقين !
لا يوجد اقتباسات