أوراق الخريف / دراسات ومترجمات نقدية / نقدمها للقارئ الكريم على شكل حلقات

أوراق الخريف / دراسات ومترجمات نقدية / نقدمها للقارئ الكريم على شكل حلقات


فصاحـة العامّيـة

 

كانت بدايات عصر الانبعاث في أورپا قد ظهرت في إيطاليا في المئة الثانية عشرة، duecento ثم توسعت تلك المظاهر حتى بلغت ذروتها في القرن السادس عشر، وفي بريطانيا بشكل خاص. وكان التطور في اللغة أحد المظاهر البارزة في عصر الانبعاث الأورپي، الذي يطلق عليه اسم عصر النهضة. ومعروف أن اللغة اللاتينية هي اللغة التي سادت في أورپا، متمثلة في التعبير عن فنون المعرفة العلمية والأدبية، نقلاً عن التراث الإغريقي حيناً، وعن التراث العربي حيناً آخر. تسجل التواريخ الأدبية أن أول كتاب طبع في بريطانيا عام 1475 كان ترجمة لاتينية لكتاب عربي بعنوان أقوال الحكماء ظهر بعنوانه اللاتيني Philosophus Autodidactus أي "الفيلسوف المعلِّم نفْسَه"، وذلك قبل أن يطبع الكتاب المقدس. لكن القراءة، والكتابة باللغة اللاتينية كانتا وقفاً على المتعلمين القِلّة في أرجاء الإمپراطورية الرومية المقدسة؛ ومن هذه القِلّة رجال الكنيسة، الإكليروس، أي الكَتَبة. أما الأعم الأغلب من شعوب تلك الإمپراطورية التي اعتنقت المسيحية بأمر من الإمپراطور قسطنطين عام 312 وحكمت على امتداد العصور الوسطى، فقد كانت لهم لهجاتهم المحلية التي تطورت بعد ذلك إلى اللغات الأورپية المختلفة، ويعنينا منها ما تطور عن اللاتينية في هذا الحديث.

بين عامي 1304 و1306 كتب <دانته أﻟﻴﮕييري> شاعر إيطاليا الأكبر (1265-1321) كتاباً باللاتينية بعنوان فصاحة العامية De Vulgari Eloquentia، لكنه لم يكتمل، يستعرض فيه تاريخ "اللغات العامية" وبخاصة لغة "أوك" أو اللغة اﻟﭙروـنسية، نسبة إلى منطقة "پروڤنس" أي الإقليم إلى الجنوب الغربي من الإمپراطورية الرومية المقدسة. يستعرض <دانته> وجوه الفصاحة في لغة العامة، ويمثل لذلك بأشعار من أول لهجة أو لغة عامية انسلخت عن اللاتينية، وهي اﻟﭙرونسال، التي لم يبق منها اليوم سوى شيء من لغة إقليم <الباسك> في الجنوب الغربي من فرنسا الحالية والشمال الغربي من إسـﭙﺎنيا على رأي بعض الباحثين. هذه لغة أشبه ما تكون بخليط من اللاتينية والفرنسية والإسـﭙﺎنية. عرفت اﻟﭙروڤـنسية أول أمثلة أورپية من الشعر خارج حدود اللاتينية، لغة الفصاحة والأدب. وكانت أول الأمثلة في شعر <التروبادور> أو الشعراء الجوالين الذين تكاد الدراسات الأدبية تجمع على تأثر شعرهم بالموشح والزجل في الأندلس، من حيث الشكل والمضمون، والموقف من الحب الدنيوي، وكان ذلك أول خروج على مفهوم الحب الكنسي. تعود أقدم الأمثلة المسجلة من هذا الشعر باللغة الجديدة إلى <ﮔيوم التاسع> (1071-1127) دوق <پواتييه> وأمير <آكيتين>. وتلا تلك الأمثلة المبكرة أعمال ما يقرب من أربعمئة من شعراء التروبادور، كان من أواخرهم <آرنو دانييل> الذي كان <دانته> شديد الإعجاب بشعره، بتلك اللغة العامية الجديدة، بحيث ذكره باحترام في قصيدته الكبرى الكوميديا الإلهية La Divina Commedia (المطهرPurgatorio ، XXVI، 148 وما بعدها) وجعله ينشد شعراً پاﻟﭙروفــنسية، وهي من المقاطع التي حيّرت الباحثين زمناً، لأن <دانته> نظمها بلغة غير معروفة للباحثين حتى وقت متأخر جداً، هي لغة " الصانع الأمهر"، أي الأمهر منّي، أنا صاحب الكوميديا الإلهية، وراعي "الأسلوب الحلو الجديد" dolce stil nuovo في كتابة الشعر والحديث عن الحب.

 

قريباً من روما، مركز الإمپراطورية الرومية المقدسة ولغة الأدب اللاتينية الفصيحة، ظهرت عامية جديدة، هي الإيطالية انسلخت مباشرة عن فصاحة اللاتينية، وفي محيط مسيحي كاثوليكي جداً، خلاف ما جرى من انسلاخ اﻟﭙروڤـنسية البعيدة عن مركز المسيحية الكاثوليكية، في ذلك "الإقليم الوثني" الذي حرّك الپاپا <إنوسنت الثالث> ليقود "حملة صليبية" ضد "معقل الوثنية" في الجنوب الفرنسي، ويقضي على تلك الحضارة المزدهرة عام 1209، فتفرّق التروبادور في أصقاع أورپا، ناشرين احتراماً للغة العامة، فظهر من يكتب فيها شعراً "بالأسلوب الحلو الجديد" إلى جانب <دانته>، شعراء مثل <پتراركا> و<بوكايو> والتابعين.

في تراثنا العربي، حدث شيء قريب من ذلك في بغداد العباسية وتطوّر امتداداً إلى الأندلس، وعودةً إلى شمال إفريقيا والمشرق العربي. بقيت العربية الفصيحة لغة الشعر الجاهلي ولغة الإسلام المقدسة، لا يقوى أحد على النيل منها عبر العصور. ففي صدر الإسلام وفي العهد الأموي بقيت لغة القرآن الكريم هي لغة الأدب والشعر، في الحواضر والبوادي، مع ارتباط شديد بالجذور. وما ثورة <ليلى الأخيلية> بوجه الخليفة الأموي إلا تعبيراً عن هذا الاعتزاز والارتباط بالجذور: لبيتٌ تخفق الأرواح فيه / أحبّ إليّ من قصر منيفِ، ولبس عباءة وتقرّ عيني / أحب إليّ من لبس الشفوف. قالت هذا بالعربية الفصيحة. لكن الأمر بدأ بالتغير قليلا في بغداد العباسية، بسبب دخول أقوام من "الأعاجم" من فرس وهنود وبعض أقوام آسيا الوسطى، إلى الدين الجديد، فاختلطوا بالعرب وتعلّموا لغة القرآن، وشعروا بالحاجة إلى وضع "قواعد" لتلك اللغة، لكي "ينحو" نحو العرب، فكان سيبويه، وكان الجرجاني وغيرهم كثير.

لكن حياة الترف التي عرفتها بغداد العباسية كان لها أثرها في تطوّر اللغة العربية وميلها نحو العامية، ونحو دخول كلمات أعجمية في لغة العوام، نجد آثارها في الغناء بخاصة وفي كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني بعض الأمثلة على ذلك. لكن دخول المفردات الأعجمية والعبارات العامية في عربية بغداد العباسية كان دخولاً خجولاً محتسباً، لأن خلفاء بني العباس كانوا يحرصون على إبقاء صفتهم العربية، على الرغم من كثرة الأعاجم في بغداد وكثرة الزواج بالأعجميات الذي لم ينج منه الخلفاء أنفسهم؛ هذا إلى جانب كثرة الجواري والإماء من البلاد المفتوحة، وهن من الأعاجم الذين لا يحسنون العربية، وإذا تعلموها تبقى لغتهم ضعيفة، تشوبها المفردات الأعجمية، وتعاني من ضعف في النحو والاشتقاق، وهذا أساس العامية.

ولأن الأعاجم كانوا قلّة وسط محيط عربي أوسع، لم تنتشر العامية والمفردات الأعجمية بشكل كبير في بغداد العباسية، وهذا سبب قلّة الأمثلة في كتاب الأغاني. نقرأ في هذا الكتاب العجيب (5/12) أن إبراهيم الموصلي، المغني الشاعر، أنشد في وصف خمّار نبطي: فقال "زلِّ بشَينا" حين ودّعني / وقد لعمركَ زُلنا عنك بالشيَن. لقد كان أصحاب حانات الخمرة في العراق، وما يزالون، من "النبط" أي الكلدان من شمال العراق، الناطقين بلغة مشتقة من الآرامية، لغة السيد المسيح. وعبارة "زلّ بشَينا" بالكلدانية معناها "إذهب بسلام" من قبيل الزجر. ويظهر أن الخمّار "النبطي" برِم بزبونه الذي أسرف في الشراب فأراد أن "يزيله" عنه بسلام. لكن الزبون الثمل وجد خروجه من الحان "شيناً" وليس "زيناً". ولا شك أن ثمة أمثلة أخرى في لغة بغداد العباسية تظهر العامية والمفردات الأعجمية، لكن الأجواء العامة لم تكن لتسمح بتسجيلها والاعتراف بها على نحو واسع، وهذا ما نجد نقيضه في محيط الأندلس. 

في الأندلس كان العرب قلّة إلى جانب أهل البلاد الذين كانوا يتكلمون "عجمية الأندلس" وهي لغة "الرومانث" أو "اللطينية" كما يرد في بعض الوثائق المكتوبة. ومعروف أن الفاتحين من عرب وبربر دخلوا الأندلس عام 711 دون نساء، فبدأوا بالزواج من "أعجميات" الأندلس؛ وقد بدأ ذلك ابن موسى بن نصير. وكانت النتيجة الطبيعية أن أبناء هذه الزيجات صاروا يتكلمون العربية مع الأب وعجمية الأندلس مع الأم. ونتج عن هذا الاختلاط عبر الأجيال "عامية الأندلس" فيها تحريف عن عربية بلاد الشام، وهي اللغة الغالبة، وتحريف عن "الرومانث" في الوقت نفسه، واستمر هذا التطور حتى أواخر أيام العرب في الأندلس في أوائل العام 1492. لكن ذلك لم يؤثر في بقاء العربية الفصيحة موضع عناية الأندلسيين من أهل الشام واليمن. تذكر التواريخ الأدبية مثلاً خطاب والدة آخر ملوك الأندلس، أبو عبدالله الصغير، الذي بكى وهو يغادر الأندلس: إبكِ مثل النساء مُلكاً مضاعاً / لم تحافظ عليه مثل الرجال. 

نبذه حول الكاتب

أديب وفكر لغوي عراقي

تقييم النص

يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد ! كن أول المعلقين !

التعليقات

إدراج الإقتباسات...