الثورات الإنسانية ومصير الأدب
لا تقوم ثورة بدون فكر، ولا يقوم فكر بلا أدب، معنى هذا أنه لا تقوم ثورة بدون ادب. وينقسم الادب الثوري على ثلاث مراحل:
(1) مرحلة الاعداد والتحريض.
(2) مرحلة العيش مع الثورة.
(3) مرحلة الحفاظ على تراثها في ذهن الأجيال.
السؤال الذي يشكل نواة لموضوعنا هو: ما أثر الثورة الانسانية في الأدب نشأة ومسيرة ومصيراً؟ إنَّ مجرد وجود ادب للثورة يعني ان للأدب وظيفة اجتماعية ارتدت السياسة ثوباً لها. وأول ما يتسم به أدب الوظيفة الاجتماعية هو (الواقعية). وكلما ظهرت واقعية ظهر ازاءها تساؤل عن (الفن) في ذلك الأدب. يعيبون على الواقعية انها محاولة جعل الواقع الحسي بديلاً من المأمول المطلق، وفي هذا –كما يقال- تحديد لقدرة الأدب. من الملاحظ دائماً ان الادب الثوري في مرحلة الإعداد والتحريض اكثر انتشارا وأعمق أثراً من ادب المرحلتين الأخريين: العيش مع الثورة، والحفاظ على تراثها. لماذا؟ لان التحريض لا يحمل واقعية قدر ما يحمل رؤية على هيئة امل في شيء له من الصورة الفنية اكثر مما له من الواقعية. فما ان تقوم الثورة وتظهر حتى تصبح تطبيقاً للآمال التي وعد بها الأدب الثوري، والتطبيق –على حلاوته- هو الاستنزاف التدريجي لخيلاء المخزون في ذهن المترقب. ان للثورات –مثلما للحضارات- اعماراً. والأدب الثوري غير مسموح له ان يستمر بعد مهمته طويلاً مهما كانت حيوية الثورة التي قام من اجلها. هذا لا يعني ان الثورة لا تستحق من الأدب هذا الاهتمام. بل يعني أن ادب المهمة أدب مكاني (ادب زمان ومكان). اضرب لذلك مثالين: الثورة الروسية في أكتوبر، والثورة الفرنسية. لقد كان ادب ديستوفسكي وتولستوي وبوشكين وتشيخوف ادب اعداد وتحريض. ولقد كان ادب روسو وفولتير وبلزاك ادب عاطفة اكثر من العقل. هكذا يقولون. اننا لا نريد ان نواجه الأقوال مباشرة. انما نريد ان نعتمد لغة (نفي النفي) فنقول: ان مع الناس حقاً في العزوف، لأن الأديب القومي هو اديب آخر ساعة من وقت الأمة ومن وقت الثورة، اننا نريد اديباً قومياً يعرف كيف يكتب في مرحلة انتصار الثورة، ليس عن الثورة التي تحققت، انما عن المجتمع الذي قامت من اجله الثورة، وليس من اجل اليوم الذي نجحت فيه الثورة، انما من اجل الغد الذي لم تصل اليه الثورة بعد. ان التغنيّ بالثورة من دون التغني بواقعها افراغ لمحتواها ومحاولة لتحويلها الى مناسبة متكررة باعثة على الملل. ان بعد الثورة املاً في حضارة، وفي ثقافة، وفي مستقبل، والكتابة عما بعد الثورة هي جزء من متطلبات الأدب الثوري. فالثورة تغيير يبدأ بخط شروع يعتمد مساراً والتغيير هذا مسؤول عن تأسيس جديد في الحياة. ربما يسأل الناس الأديب القومي عما سيكتبه في دولة الوحدة، وهي ثمرة من ثمرات الثورة، فبماذا سيجيب؟ انه مطالب بأن يقول: من هناك سأبدأ لأنني لم أبدأ بعد، ففي دولة الوحدة متاعب قد لا تقل عن متاعب دولة التجزئة. هناك الانسان الذي حقق الوحدة. الى اين سيتجه وكيف سيتصل بالعالم وكيف سينظر الى ماضيه. هناك أعداء ما بعد الوحدة، هناك ما هناك، هناك من هم هناك. ان الثورة ... اصعب مما قبلها واهون مما بعدها.
كالموت الذي هو أصعب من كل ما في الحياة لكنه أهون من كل ما في الآخرة من حساب وعقاب، كذلك الثورة، فهي أصعب مسؤولية من كل حالات الاسترخاء والتبلد في ما قبلها لكنها اهون من الحساب التاريخي الذي تواجه به الناس اصحابها عن كل تقصير في المسار الثوري. كذلك هو ادب الثورة. ان الثورة اكبر من الانقلاب والثوار اكبر من الانقلابيين. اننا الآن في مرحلة التأسيس للحضارة بعد تخطينا مرحلة الاعداد، وفي مرحلة الحفاظ على الحضارة بعد تأسيسها. فلا بأس من الاستطالة ولا بأس من التمدد الافقي بعد ان ازالت الضرورة الى الحفر الشاقولي من اجل الثورة، فثقافة للطفل، وثقافة لشعر الذات وادب الرحلات.. كل هذه الثقافات هي استمرار حي لروح الثورة. ان الثورة الفرنسية افرزت في مرحلة العيش معها ادباء مثل اندريه مالرو. لقد كان من نصيب غوركي ان ينقسم ابداعه على مرحلتين: مرحلة تحريض من أجل الثورة، ومرحلة حفاظ عليها. وحين اصبحت ثورة اكتوبر الآن تراثاً، صار الأدب الذي كتبه غوركي تراثاً قيماً أيضاً، قد لا يتوفر له جيل يفهم حلاوة النصر مثلما فهمها وتذوقها معاصر لها. ان السبب في مثل هذا الانتعاش السريع لأدب التحريض ثم في انطفائه لاحقاً هو اساءة فهم الأدباء للثورة.
فالثورة لها مراحل: مرحلة التغيير العنيف للهيكل القائم اشخاصا وبُنى ومؤسسات، ومرحلة طرح الجديد من الافكار و(البرامج)، ومرحلة الهدوء النسبي من أجل الاستقرار على المفاهيم الجديدة، ومرحلة انشاء الحضارة التي تظل الثورة تعمل في موقدها كالنار ولا يبين لها لهيب. فبعد ان تنتصر الثورة، اية ثورة، تنتفي الحاجة الى التشنج الأدبي وترتخي مفاصل الهتاف من أجل النصر، لتزدهر بعدها الحاجة الى الثقافة المسترخية الهادئة المعافاة. ومن الأمثلة على الاسترخاء الأدبي بعد انتصار الثورة: انصراف ادبائها الى تأسيس ثقافة جنسية سليمة في الأدب، وتأسيس نبوءة واعدة للاقتصاد والعلوم والمعارف في الثورة. ينتقل الأدب من مرحلة "الاخلاص للعنف الثوري" الى مرحلة "الخلاص من العنف اللا ثوري" وفي الثورة يستبدل الأديب ثياب القتال بالكلمة بثياب القتال من أجل الكلمة. ان اخطر ما يتجلى به أدب الثورة هو تحويلها الى ثورة ذكريات بدلا من جعلها قدرا دائما في الذاكرة. وهذا هو ما وقع فيه بعض أدباء الثورة العربية. فهناك منهم من تحمس حد الانفجار الذاتي في ادبه للثورة، لكنه سرعان ما انطفأ وكأنه مقطوع الجذور أو كأنه كان مراهقاً في الحس الثوري فيموت تكفيراً عن (ذنب). ان الكتابة للثورة لا تعني الأخذ بمرحلة التحريض واغفال ما سواها. اضرب لذلك مثلاً: سليمان العيسى. انه من ادباء الثورة العربية بلا مراء. لكنه يجتر تفكيره –اذا صح التعبير- وكأنه كان خطأ. لقد بدأ سليمان العيسى محرضاً لكنه في انتصار الثورة العربية انكب يكتب للأطفال متوسما فيهم جيلاً تعويضياً عن خسارة جيل من الكبار. صحيح ان الكتابة الثورية للطفل العربي هي كتابة ادب تحريض جديد لجيل قادم سيحمل ثورة أخرى في أعماقه. اننا يجب ان نفرق بين (أدب الثورة)، و(أدب السياسة). فالثورة غير السياسة. لكل ثورة سياسة لكن الثورة ليست سياسة. انها قدر في الضمير. وهي لا تلتوي مثلما تلتوي السياسات. لذلك فهي لا تنتهي، ان ادب الثورة له ما يفرقه عن ادب السياسة مثل: التوقيت، والشخوص، والانتكاسة. فأدب السياسة هو ادب المواقتة واختلاس الفرص للعيش والغنائم، وهو ادب الاشخاص الشعراء وهو الأدب الذي ينتكس بانتكاسة السياسة ويزدهر بازدهارها.
لكن أدب الثورة هو الذي يلغي مفردات الماضي والحاضر والمستقبل في الزمن، ويجعل المبادئ فوق الأشخاص ولا يعبأ بالانتكاسة التي تتعرض لها أية حركة ثورية في العالم.
إنَّ الأديب الذي تنتهي مهمته الأدبية بانتهاء مرحلة الإعداد والتحريض، مثلمه مثل المقاول الثانوي الذي يتعاقد مع المقاول الأصلي فينجز الجزء الموكل اليه لينصرف الى غير رجعةٍ.
يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا
لا يوجد تعليقات بعد ! كن أول المعلقين !
لا يوجد اقتباسات