إسترخاءٌ على مواقد الجَمْر / الحلقة 5 / أشياءُ فينا لا تُروَّض

إسترخاءٌ على مواقد الجَمْر / الحلقة 5 / أشياءُ فينا لا تُروَّض


اذا كان السلوكيون يُقررون أن الانسان حيوان ناطق فهل يستطيعون أن يقروا أن الحيوان "إنسان غير ناطق"؟ عندما لا يستطيعون ذلك وهم لا يستطيعون، فمعنى أن أشياء أخرى تقف في وجه المقابلة. هنا ينشأ مبدأ صعوبة الترويض المطلوب لتحويل الكائن من حالة لأخرى. ان الترويض هو المرادف الاخر للتوافق أو القدرة عليه لكن فينا أشياء لا تروض. تلك الأشياء عينها التي تجعلنا لا نتوافق مع المطلوب منا. أو الأشياء التي لا تروض: التخلي عن الخطأ. فالعناد جزء من المحاولة الخاطئة لفهم الكرامة.

ولو فهمت الذات، لأصبح واضحاً الفرق بين الكرامة والاعتراف بأخطائنا. لقد تسقف كثيرون وفرغوا من الداخل عندما تجاهلوا هذه الحقيقة. ان آلية الخوف هي الشك مقابل زوال اليقين. والمجانين لا يخافون من أي شيء، ليس لأنهم شجعان بل لأنهم يفتقرون الى التحسب ويفتقدون التوقع. ومن الأشياء التي لا تروض: التآلف مع الموت. الموت هو هاجس الحي منذ أول يوم في الولادة. وكلما كبرنا عمراً، نقصنا عمرا باتجاه القادم الذي لا يرد. ومن الأشياء التي لا تروض: نكران الذات. ان الإنسان في أوج عظمته وقوته ضعيف يحتاج الى التمرئي في وجوه الآخرين من لحظة الى أخرى والانسان الذي يعطي بصمت يشبه صمت الملائكة نادر الوجود أو معدومه. ومن الأشياء التي لا تروض: دور المستمع. ان من ينصت منا الى الآخر قليل والذين يعتادون الانصات أطول وقت يعانون كثيراً من التوتر والقلق. ومن الأشياء التي لا تروض: الوفاء. فعدم الوفاء للآخرين وللمكان والزمان والأشياء حالة جلية وخطرة لا تنفع في فقدانها صناعة صانع أو محاولة معلّم. ومن الأشياء التي لا تروض: قبول الفقر. فأزهد الناس، ان لم يختر الجوع طريقاً لا يمكن ترويضه عليه. ومن الأشياء التي لا تروض: الالحاد. ان الانسان الملحد حالة مؤقتة باستثناء من أدركه الموت خطفا قبل ان يحقق العودة الى الإيمان، والإيمان ناتج في النفس من اليقين وقد يؤمن الخائف من الشيء لانه يجهله فيتحاشاه بالتصديق وتأجيل الاعتراض والفرض كما قد يؤمن المحب بشيء لأن ايمانه يوفر له الراحة العقلية والوجدانية ريثما تتبلور اشارات اليقين الذي لا رجعةَ فيه. ومن الأشياء التي لا تروض: القناعة، لأن القناعة قرار داخلي، من لا يرثه بالوراثة أو التكوين الولادي لا يكتسبه بالتعليم. انني هنا لا أتحدث عن: ((المتقانع) انما عن (القنوع)) فالقنوع هو ذو الطبع والمتقانع ذو التطبع الذي سرعان ما ينهار أمام الاغراء وتتساقط ضوابطه. ومن الأشياء التي لا تروض: قبول النصيحة. فالانسان كائن تجريب وعنصر اكتشاف يحرضه المجهول على اقتحامه فلا ينفع فيه رأي سابق ولا خبرة أولية لغيره. فاللذين يقبلون النصائح يحملون معهم، على الرغم من كل مطاوعتهم ومرونتهم، جزءاً من الامتثال الذي يعني في صلبه الكسل وتأجيل الدور والاستعاضة بالدور الآخر عن دور (الأنا). ان التاريخ كله مجموعة نصائح وعبر ودروس، ولو كنا قابلين بما فيه، لصرنا نسخاً متكررة، لكن ( ترويض التاريخ لنا وتقديم الجاهز من الذي حصل أمر لا يرتضيه الانسان ) ولهذا يدور الزمن ويتداول الناس الايام. ومن الأشياء التي لا تروض: الحب. انه نزوع داخلي وذاتي وان الحب العقلي الخالص غير موجود لان الحالة العقلية في التصاقنا بالأشياء مرفقات عاطفية لا نستطيع أن نشرحها ولم يستطيع علم النفس الى الآن ان يجد لها سبباً واضحاً. فقد نحترم شخصاً بمعيار عقلي ولكننا لا نحبه وقد نحب شخصا لا يقوم سببٌ عقلي لحبنا إياه. وهنا لا يمكن صناعة الحب ابداً. قد نتصنعه لكن لا نصنعه. ومن الأشياء التي لا تروض: حفظ الأسرار. ان حفظ السر مدعاة للتوتر وسبب القلق. اننا نمارس التنفيس عن ضغوطنا لفضح الاسرار. والسر لا بد من أن يظهر على الرغم من كل حالات التكتم عليه لسبب ضعف الانسان على حمله والحيطة له. ومن الأشياء التي لا تروض: الذل. ان ذل الانسان يملك شيئاً من الثورة الداخلية لنفسه على عناصر اذلاله. ومن الأشياء التي لا تروض: حب القانون، فعلى الرغم من كل ما يعرفه الانسان عن القانون ودوره في الانضباط العام يظل الانسان يخاف من القانون أكثر مما يحبه. ان الانسان ينضبط بالخوف اكثر من انضباطه بالضمير وقد تمر على الناس أيام ينفرط فيها زمام النفس وتسود الفوضى. صحيح ان الانسان استثناء لكنه متكرر عبر كل مسيرته على الأرض. ان خروج الناس على القانون من حين لآخر يعد شيئاً لصالح القانون نفسه على أساس فحص الشيء بالنقيض ( الضد بالمضاد ). ومن الأشياء التي لا تروض: رفعة الذوق. فقد نجد انسانا مهيأ لتقبل العلوم والفنون والاداب ومستعداً لهضم أصعب المعارف الانسانية وهو مخفق في أن يكون صاحب ذوق في اختيار الاشياء ومعطلاً في قدرته على الارتفاع بفن انسانيته الى المقام المطلوب. وهنا لا نتحدث عن تقليد الانسان لغيره في ذوقه انما نتحدث عن ( الذوق المبتكر ) أو ( الإبداع في الذوق ). ان هذا أمر لا يمكن تعلمه لأنه هاجس من هواجس الذات مولود وخاص من خواصها. ومن الأشياء التي لا تروض: اللا انتماء. ان اكبر المذاهب الفكرية التي طالبها الانسان بالعالمية المطلقة اخفقت في تجريده من انتمائه الى حالة من حالات بيئية في الجني أو القومية، أو اللغة فالألمان يمثلون أمة من الأمم الراقية التي قدمت الى العالم الفلاسفة والعلماء والشعراء لكنهم اخفقوا في الانتصار على مسألة تفريقهم على أمتين. ان تبادل القبل والأحضان بين الألمان الشرقيين والغربيين بعد سقوط جدار برلين هو واحد من أدوات الترويض على الوحدة. يعد ذلك دليلاً واضحاً على شيء لم يرفضه الألماني أبداً، فلم تنسه فلسفته ولا حضارته حاجاته الأولى في الالتحاق بماضيه والبحث عن مثيله وشريكه في اللغة والدم. ومن الأشياء التي لا تروض: النسيان. اننا، ما لم نكن مصابين بعاهة الذاكرة، لا ننسى. وحين يقول احدنا أنه لا يذكر فليس معنى هذا أنه نسي، انه لا يستدعي ما هو مطلوب لكنه سيستدعيه يوما ما، لأن لــــــــ (اللاشعور) ذاكرة تسجيل كل شيء والذي لا يستدعيه في النهار يظهر في الاحلام وفي فلتات اللسان. ان الترويض يحقق عنصري التأجيل والتنحي لكنه لا يحقق مسح الذاكرة. ان العبارة التي اطلقتها فلاسفة (الكرمايوغا) حين قالت (كل شيء واقع في السياق) هي عبارة صحيحة على وفق ما يقرره موقع الانسان في الكون والكينونة. ومن الأشياء التي لا تروض: زوال النفاق. ان هذه الصفة القبيحة ترتبط بالشخصية. ما دامت الشخصية هذه في جوانبها عصية على الترويض بالوسائل المعاصرة، فإن المنافق حالة سلوكية متكررة الحدوث في كل زمان ومكان على الرغم من حرب علم النفس المعلنة عليها. صحيح ان للمجتمع اثرا في صناعة المنافق وضخه الى الحياة اليومية، لكننا نجد في ابهى مجتمعات العالم تثقيفاً وتمدناً، منافقين يكذبون على أنفسهم اولا وعلى الآخرين ثانياً. ومن الأشياء التي لا تروض: اتفاق المفاهيم. وهنا نبدأ كارثة الترويض، حيث يفهم كل منا كلا من مفاهيم الفضيلة وعنصر الخير في النفس فهما خاصا به فلا يتروض او يرتاض الا على ما يعنيه، فينشأ الاختلاف ويسقط التوافق. هل يكفي هذا يا مدرسة السلوك؟ هل تريدون منا المزيد ايها السلوكيون؟ ما الذي يتبقى للاصلاح النفسي من الانسان حين يستعصي فيه عناده وخوفه وحبه لذاته، وفشله في الحب العام، وقناعته، وقبوله للنصح، وحفظ السر، وحب القانون، وفقدانه الذوق، وخسرانه العالمية، وحرمانه النسيان، واعتماده النفاق، وعشقه الخاص للمفاهيم؟ ببساطة فيها تعقيد وبتعقيد فيه تبسيط، ينبغي أن نقول: ان الانسان، كل انسان، عالم نسيج وحده. ان مكننة الانسان اسقاط له وهذا ما لا نهدف اليه. لقد قال أحدهم يوماً ما: (أعطني مجموعة أفراد، وفرصة مناسبة، وانا مستعد أن أجعل من الأول طبيباً، ومن الثاني مهندساً، ومن الثالث موسيقياً، ومن الرابع مجرماً، ومن الـــــــ (...............)(...............) ........ الى آخره. ربما كان هذا القائل صادقاً وربما كان كاذباً لو أضاف لكل مفردة من مصنوعاته (انسان) ..... لأن كلاً من الطبيب والمهندس والموسيقي والمجرم يخفي في داخله انساسا حمله بالوراثة أو بظروف التكوين الرحمي، لا يمكن صناعته. هذا هو اعجاز النفس البشرية، وسر الاعجاز أنه حين يسقط الانسان غير المشروط في الانسان المشروط يسقط البناء كله. هؤلاء نحن، فأين هو دور الثقافة.؟ اننا هنا قدمنا التشخيص ولم نقدم المعالجة، لكن التشخيص جزءٌ من العلاج. فيا كتاب القصة والمسرحية والرواية والشعر، ويا أصدقاء الالوان والحجر المنحوت، ويا رفاق الوتر والدف، حري بكم ان تكتبوا عن المشكلة، حري بكم ان تشيروا الى عصيان النفس البشرية محاولات الترويض، طريقاً من طرق البحث عن حل. 

ان الانسان الذي لا يروض، موجود فينا وكشفه جزء من محاصرته ومحاصرته جزء من معالجته، ومعالجته هي في جعل الانسان مسؤولاً عنها وعن نتائجها، وترك الفرصة له أن يقوم بإصلاحها ذاتياً مثلما استقرت فيه ذاتياً. بلغة أخرى: ينبغي رفع الانسان بتثقيف البصيرة الى مقام الفرد المصلح. اذن نبدأ من هنا نقول له أن هذه أشياء فيك عصية على الترويض، عندها يصبح هو المعالج بعد أن أصبحنا نحن المشخصين. انني أسأل القراء الكرام: هل يتذكر الواحد منكم، حين يقرأ كتاباً في الأمراض النفسية، كم من الأمراض يجدها فيه؟ وكم من الصفات الصعبة يحيلها في نفسه الى سلوكه حتى يصل الى الحد الذي يشك فيه. ان كاتب الكتاب يعنيه هو أن يتخذه مثلاً أو حالة للوصف والمناقشة. ان هذا هو التشخيص وبه استطاع مؤلف الكتاب أن يعاون قارئه على معرفة نفسه في الذي لها والذي عليها. ان مؤلف الكتاب هذا ليس مركز شرطة ولا محكمة جزاء، لكنه ( مساعد في الأمل ) و( موظف بدون راتب ) في مواجهة الفرد بأخطائه هذا المؤلف يمكن أن يكون شاعراً أو روائياً، يشخص، وفي ذلك كله يعالج. ان المتنبي يقرر أن الظلم من شيم النفوس، وأن ماركس يقرر أن صراع الجوع هو صراع النفس، وأن اشنيجلر يقسم الناس على نبلاء وغير نبلاء. هل كان هؤلاء خاطئين في الرأي ربما لكن ذلك ما رأوه.

ان العلم يكشف، والفلسفة تفسر، فهل سيقوم من يعنيه الأمر بتفسير ما يكتشفه العلم، وعلم النفس منه؟ لقد آن الاوان ان نتفلسف. فهذا التفلسف سيظهر الطبيب المعالج من بين أكمام معطف المريض. ان الأشياء التي لا تروض، ليست أشياء خرافية الصور لأنها مفرداتنا اليومية. ان سيد الحلول في مواجهة صعوبة الترويض هو الاعتراف. كنا في الماضي نسمي مفردات اخطائنا صفات سيئة، لكننا في علم النفس المعاصر، نسمي الصفات السيئة أمراضاً أو اعراضاً لأمراض. يمثل هذا المعيار، ينبغي أن نبحث في هذا العلم عن تفسير لصعوبة الأشياء التي لا تروض. هل هو خطأ القياس النفسي؟ ربما، فمتى يظهر المقياس والمسطرة لقياس العواطف والمشاعر مثلما قيس الذكاء؟ يقولون: ان روايات ( أجاثا كريستي ) قدمت الجريمة ولم تقدم الحل. ويقولون: ( ان عقدة أوديب ) قدمت المريض ولم تعالجه. ويقولون: ان قابيل قتل هابيل، لا ليقتله، انما ليعلمنا أن تاريخ البيولوجية قد بدأ، وأن المثقفين مطالبون بالفصل في قضية تداخل القياس واللا قياس في واجبات العقل والعاطفة. لا بأس هنا أن نتذكر المحاولة التي قامت في علم النفس السلوكي تسمى حصيلتنا في السلوك (عادات ) فالأخلاق عادة، والدين عادة، والذوق عادة، واللطف عادة، والكرامة عادة، والنفاق عادة، .....!!! وتقرر هذه المدرسة أن الزمن كفيل باسقاط العادات. اذا كان ذلك صحيحاً، فلماذا استمر الناموس الجيد من السلوك منذ أول احصاء تاريخي لطبيعة الانسان الى يومنا هذا؟ ان (غسل الذاكرة) محاولة لمسخ الانسان، وهناك فرق واضح بين غسل الذاكرة وتعديلها. ان الأشياء التي ذكرناها لا دخل للعمل العقلي فيها، لأنها مفردات الوجدان، وامام من يعترض على قولنا أن يناقش موضوع (الحدس والنبؤة).

ما الذي يتبناه الانسان ومن الذي يتنبأ فيه، عقله أم مشاعره؟ ان الحدس لا يقاس بمقياس ولا يخضع لمنهج، لكنه في كل الأحوال حالة قائمة. ان كثيراً من الأشياء التي لا تروّض يخضع للحدس والنبؤة. انها أفعال أو ردود أفعال نشكلها برؤية داخلية لا يقوم فيها معيار عقلي. ان العقل رياضيات وحساب، لكن الرياضيات والحساب ليست صحيحة دائماً. والذي يجعلها غير صحيحة دائما هو الوجدان الذي يشمل المزاج والعواطف والرغبة في أدق صورة حسابية. هذا هو المطلوب من الأدب المعاصر أو هذا هو الجزء الوقور من المطلوب من الأدب المعاصر، ومن يظن أن العاطفة لا تغذي العقل فهو واهم. ربما يتذكر القارئ رواية ( حول العالم في ثمانين يوما) وربما يتذكر القارئ كيف استطاع بطلها ( فيليس فوك ) أن يفيد من دوران الأرض بالاتجاه المعاكس لاتجاه رحلته في الوصول قبل الوقت المقرر وربح الرهان، والأهم، ألم يكن ( أينشتاين ) مستفيداً من هذه الرواية في اكتشاف نظرية ( النسبية ) واضافة الزمن بعدا رابعا الى الأبعاد المعروفة؟ ان الأشياء التي لا تروض فينا، مادة أولية وورقة عمل دائمة لكتابة المزيد من الأدب فيها. ومطلوب من الذي يكتب، هذا رجاء من أجل الثقافة، أن يفرق بين التشاؤم وحقيقة الممكن. ربما تقف مقولة ( الانسان هو الانسان ) حجر عثرة في وجه ( الانسان الذي نريد ) لكن الأمر ليس كذلك حينما يصبح الانسان ( عرافاً ) بحقيقة الثابت والمتغير في سلوكه. انه سيهاجم الثابت بعصا المتغير، وحين يحقق الاشباع والرضا عن حالة ثوابته، سيتغير، ليس بطريقة ( غسل الذاكرة )، انما بتعديلها لصالح المتغير. وفي كل الحالات يظل التوافق المقبول زمنياً عنصرا مطلوبا في الانسان والا فإن التسارع الذي ذكرناه سيكتسح الثابت والمتغير على نحو يجعل الضباب حالة قائمة في رؤية الانسان.

تقييم النص

يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد ! كن أول المعلقين !

التعليقات

إدراج الإقتباسات...