اختلف المثقفون، قبل غيرهم، أو أكثر من غيرهم، في تحديد المقصود بــــــ (العبث)، وقال قائل منهم: ان الوجودين هم خالقو ( العبث )، وقال آخر: ان العبث فلسفة وأضاف ثالث: انه محاولة للتفلسف، وحاول رابع ان يفهم علاقة العبث فلسفةً بالعبث ثقافة. وما ان يسمع المتلقي الاعتبادي، ممن يمثلون المعدل الأوسط للاستيعاب والادراك، بكلمة ( عبث ) حتى يتهادى الى فهمه (الفوضى)
و( الاضطراب ) و( التشرد ) و ( اللا مسؤولية ) و...... الخ.
هذه وغيرها امور دعتني الى كتابة شيء من الايضاح لمفهوم ( ثقافة العبث ). يعتمد فهمنا للعبث على المنهج الذي تدرس في ضوئه هذه الكلمات فالعبث في ضوء البحث عن ما هية الكينونة، وقصيدة المجيء والذهاب، هو الوجود المحكوم بالميلاد والموت، والمتحقق بما بينهما من مسافة في الزمن. معنى هذا أن ما قبل الأول وما بعد الثاني ليسا من مسؤولية المسؤول عن وجوده، لكن محتويات وجوده ومفردات كينونته مهمة لديه في الاجابة عن سؤاله الدائم في: كيف يجب أن أكون. هنا يتحول العبث الوجودي الى بحث عن جواب السؤال، وهذا هو عينه الجد: نقيض العبث. أضرب لك مثالاً، انسانا متحضرا عاش في عصر التقنية ظل يسأل نفسه: كيف يجب أن أكون، أين موقعي في هذا العالم الا يختلف هذا المتسائل عن آخر، عاش في العصر نفسه من دون هذا السؤال ومن دون هذا البحث. ان الذي فرق بين الاثنين هو قيام السؤال عند الأول وغيابه عند الثاني، ان السؤال عطاء عقلي وانجاز ثقافي، لهذا فــــــ ( العبث المتفائل ) أو (السؤال العبثي) هو نوع ثقافي له خصوصية تقوم من أجلها فنون وشعر وروايات. والعبث في ضوء الفهم النفسي: هو اسقاط الشعور باللا جدوى على البيئة. ان المصطلح في حقيقته ليس عبثاً انما كآبة تظهر مثل أية حالة مرضية أخرى عندما يختل التوازن بين الداخل الانساني والخارج البيئي. هنا يبرر علم النفس ثقافة الاسقاط عند الفرد بأنها ناتج للخيبة ويبدأ علم النفس في وضع المعالجة لفجوة الثقافة أو قل لخيبة الثقافة. ان التصحيح يبدأ بواحد من قطبي الصراع: النفس أو البيئة، وحين تصبح البيئة جيدة تنحسر اللا جدوى عند الفرد وتنكفئ ثقافة الاسقاط، اليس هذا هو الناتج الصحيح المطلوب من الاحساس بــــــ ( عبثية البيئة ) بما يقود الى اصلاحها ووضع الحلول لها؟ ان اللا جدوى هنا ليست اضطراباً، وأن مفهوم كلمة ( عبث ) لم يعد غائماً لأنه اختار له وظيفة أدت الى اصلاح أو محاولة اصلاح واحد من اثنين، الفرد أو البيئة. معنى هذا مرة أخرى ان (الاحساس بالعبث) حقق حالة الغرض للتوافق المزمن مع الخطأ أو تصور الخطأ، الى أن قاد من جديد حملة التغيير في ضوء ما برز من نمطية الثقافة المهادنة لبيئة مختلفة. هل يمكن ان نسمي العبث الثقافي هنا تحديداً بهذا المفهوم النفسي والاضافة اللانفسية، عبثاً واضطراباً ولا جدوى الى حد الحكم بصلاحية للتعديل السلوكي؟ ان العبث ليس افراغاً لحالة الجد من محتواها، لأن العبث ينطوي على سؤال. ان الذين يعدون ثقافة العبث ( فوضى ) هم الذين يعتقدون بصعوبة الاجابة عن أسئلة العبث ولكننا الآن نعمل في مشروع ثقافي اسمه ( تسييس ثقافة السؤال العبثي ). لا سؤال بدون جواب أبدا لكن هناك أسئلة لم يتحقق جوابها وهذا لا يعني أنها بلا أجوبة. هل يمكن لأحدنا أن يتصور مقدار الاحباط حين يواجه سؤالا من السهل الممتنع ومن شخص أدنى منه في ثقافته ومعرفته العامة؟ ان اكبر الأسئلة في مفهوم العبث هو: "ثم ماذا؟" انه سؤال القصة التي لا تنتهي ولكن هل ينبغي أن نخاف من الأشياء التي لا تنتهي؟ اذا فعلنا ذلك فمعناه اننا مؤثرون في العقل ومؤثرون في الثقافة؟ والعبث في ضوء المنهج النفسي مرة أخرى هو الشعور بعدم التفوق يقابله في "اللا عبث" شعور بالتفوق. الآن نسأل، في ضوء التحليل النفسي، ايُّ الاثنين مسؤول عن استمرارية الانسان: الشعور بعدم التفوق، أم الشعور ان التفوق هو الدافع العميق للرد على الحطة والدونية وهو السبب في ظهور مشاعر الكفاح من أجل نقيضه: التفوق. أما الشعور بالتفوق فهو وجه من وجوه العظمة ونوع من أنواع الغرور والتكابر والمجاهرة بالقوة، ونحن نعرف أن الغرور عطل سلوكي كبير، فالأحرى بالانسان كما يرى ذلك علم النفس الفردي أن يظل باحثا عن التفوق، لا شاعراً بأنه بلغ قمة هذا التفوق الى حد أن يتوقف فما دام العبث على وفق هذه الرؤية، وهو الشعور بعدم التفوق فهة حالة سلوكية باحثة في بديل آخر، مثل البديل الذي بحث عنه الكائن للانتقال من حسن الى أحسن، والعبث في مفهوم علم الجمال، هو سقوط المرئي وتفاهته وليس سقوط الرائي "العابث" فما ذنب الشاهد اذا كان المشهد لا يثير؟ هنا يجب أن نتفهم "عبثية الرؤية الجمالية" تفهماً جديداً. في العبث تصبح "عتبة الاستشارة" "Threshold" عالية جداً، أو صعبة جداً، أو معقدة جداً، أو رفيعة المستوى جدا، فما يرضي الآخرين قد لا يرضي "العبثي" ليس لأنه بلا بصيرة أو ذائقة بل لأنه على بصيرة لا تحركها المعايير الجمالية الا اذا كانت كبيرة. هذا النوع من أنواع تجاوز "المألوف" أو "تخطى المعقول" باتجاه "الجديد" والعبث في مفهوم علم الأخلاق، هو النوع الكبير من أنواع السقوط الأخلاقي فالأخلاقيون هم فئة من السلوكيين مع بعض الاختلاف، يرون في "العبثي" فردا مرتدا عن السواء الاجتماعي وخارجا عن دائرة الاخلاق. والعبث هنا لا يناقش نظرية الأخلاق انما يناقش تطبيقها فالأخلاق التي تصلح للتطبيق هي العبث عينه والأخلاق التي لا تطبق هي العبث عينه، معنى هذا أن "العبث" لا يعترض على الأخلاق لأنها أفكار تقع في دائرة الوجود، بل يعترض على "اللا جدوى"، عندما تنحل الأصرة بين النظرية والتطبيق. ومفهوم "العبث" للأخلاق لا يعترض على مصدريتها في جانبي "المورث والمكتسب فالمورث البايولوجي للخلق غريزة وفطرة لا يوحي وجوده أو عدمه بحالة عبثية، والمورث في ذاكرة الانسان الوليد هو مصلحة جمعية للعقل الخبري المتراكم أما المكتسب الأخلاقي فتحدد عبثيته بمدى صلاحيته التطبيقية على وفق ما أشرنا الى مثل هذا من قبل.
ويمكن أن نناقش العبث في منظور انثروبولوجي على أنه الشعور بالدوران في حلقة مفرغة من مسلسل سلالي يرث فيها التطور عنه بما يوحي بــــــ "اللا جدوى" من التطور، ما دام الأمر محكوما بالموت بعد أن كان محكوما بالميلاد، لكن السؤال: ثم ماذا؟ يظل قائما على نحو لا يكفي فيه التطور حاجة الجواب أو مستلزماته فيصبح البحث عن صورة أخرى لماهية التطور هو نواة ثقافة العبث فتوحي في النظر الى الانسان بأنه الكائن الذي كان والذي لا يصير الا كما صار عليه. يظل مفهوم العبث ضاغطا على الانسان نفسه بالبحث عن مغيرة واضحة لهذا "الروتين" القاسي الذي يسير عليه سلم التطور الانساني، فالانسان ابن آدم، أو الانسان الهايدرا، أو الانسان الفرد، لا يعني شيئاً في مفهوم العبث وليس ذلك من مشاغله. فحين نعرف من أين أتى هذا الانسان لا يقودنا هذا الى معرفة جهة ذهابه، كما أن معرفة الغد لا تشرح مفردات الأمس، لأن عبث الانسان هو الانشغال بالمقطع الزماني المكاني، المستعرض له بعيداً عن مرحلتي "ما قبل الميلاد وما بعد الميلاد". ان قيام ثقافة في العبث تلغي تماما كل فهم لغوي خاطئ لكلمة عبث لأن هذه الثقافة ستحاول الاجابة عن اسئلة حائرة، لولاهما لما سمي المتسائلون عبثيين بالمعنى الدارج لكلمة عبث. ان السؤال العبثي سؤال ذاتي يوجهه المثقف الى نفسه أولا منطلقا فيه من "اللا جدوى نفسها". ان المثقف هنا لا يوجه هذا السؤال ليجيب عنه الآخرون لأن الآخرين ربما لا يجيبون. اضرب لذلك مثلاً: ان المثقف الذي يكتب وينشر ما يكتب هو في حالين من أمره، فهو قد يكتب ليعلم غيره ما يعلمُهُ هو أو قد يكتب ليتعلم من غيره ما لا يعلمُه هو حين يتحقق رد الفعل في الحالة الثانيـــة، وكثيـــراً ما تغيب هذه الحالة الثانية، فينطلق الكاتب من المفهوم الأول: يكتب ليعلم غيره ..... هنـــا ينشأ مبدأ الجدوى مـــن الكتابة ولكن مـــن يضمن لهذا الكاتـــب مـــن الجدوى ما يحققه؟ ... افترض جهل الآخرين وافترض انك تشكل ثقافتك وحدك لتجيب بها عن اسئلتك وحدك. ان كبار كتاب العالم كتبوا لأنفسهم لا للمجتمع، ولكن أسئلتهم في دواخلهم كانت كبيرة وبعيدة عن المردود الثاني الخاص، فالتفت مرة أخرى وبدون أن يخطط لها بأسئلة المجتمع فصارت الجدوى من الكتابة تحصيل حاصل. معنى هذا أن من كان منهم يبدو كأنه عبثي حائر، لم يكن كذلك لأنه مشغول في داخله بأكثر مما هو ثقافي وفلسفي. يقودنا هذا الى مناقشة "ثقافة التصورات" وهي الثقافة التي يتصور بها الفرد الواحد كل العالم على نحو يبدو للآخرين أنه يدور في مجال عبثي حتى اذا ما التقى تصوره مع المطلوب الاجتماعي سقط الاتهام واكتسب عبثه اطاره الجاد، واذا ناقشنا ثقافة العبث في منظور ديني أو ناقشنا الدين من منظور ثقافة العبث برز لنا حالا محور "ثقافة الشك"، تلك الثقافة التي شكلت في كل المدارس الدينية طريقة من طرق اليقين والقناعة. والعبث في المنظور التاريخي ناشط قديم في ماضي الانسان. ان صعوبة الاجابة عن الأسئلة الأولى في الوجود الانساني قادت الى ظهور أجوبة خاطئة عن أسئلة صحيحة حيث ملأ الانسان مخيلته بالاسطورة سدا لشاغر الحقيقة. لقد كانت الميثولوجيا وجها من أوجه التعبير عن عبث الوجود. لكن العقل ثار ويثور باستمرار على طريقة ملء الفراغات على الرغم من أن عبث الانسان بحالة الوهم الاسطوري هو الثورة عينها وليس العبث الذي فسره المفسرون على نحو سقيم. لقد ترتبت على العقل الخرافي قيم خرافية سرعان ما رفضها الانسان وعدها سببا من أسباب زيادة العبث العقلي لا سببا من أسباب العقل العبثي، أي العقل الذي يعد التلاعب بمقدراته عبثاً لا غير. .... ان استخدام ثقافة العبث او استخدام ثقافة السؤال العبثي يختلف من شعب الى آخر، فالعبث يندرج رقيا مع تدرج الوعي. ان العبث في الثقافة الغربية انحصر في فهم وجود الانسان قاعدة (أنا!، هنا!، الآن!، ماذا أعني؟) لكن العبث في الثقافة الشرقية ارتبط بمرحلة ما بعد الوجود البايولوجي "ما بعد الموت" على قاعدة (أنا هناك، غدا، ماذا أعني). لقد اقترب امرؤ القيس في عبث (اليوم خمر، وغدا أمر) من عبث بودلير الفرنسي لكنه سرعان ما افترق عنه حين ظهرت مشاعر الثأر لديه فقلبت المفهوم العبثي الى (اليوم أمر، غدا خمر) فمات في أنقرة بينما مات بودلير في فرنسا. لقد قدم لنا العبث ثقافات متخصصة فيه. فافريقيا السوداء تمارس العبث بالتعري والعزف على الجاز في محاولة لسد الشاغر اليومي، وتمارس العبث بالسحر وحرق رؤوس الأفاعي وتعليق أنياب الفيل في محاولة لسد سؤال العالم الغيبي. ان روايات الخيال العلمي فيها الكثير من محاولات الخلاص من ضائقة اليوم الممل بفتح ملف الغرائب وكسر طوق الملل من عبث اليوم. ومن ملامح العبث في الحياة اليومية ظهور النكتة التي تحمل في حقيقتها الكثير الكثير من مستبطنات الفكرة واسقاط الصراع على البيئة وازاحة الموضوعات من واحد الى آخر والتنفيس عن ضغط نفسي معين باعلان التلويح –باشارة أو رمز آخر-. لا نكتة في حياة الناس بلا هدف، وحين تظهر النكتة تكون متزامنة مع أوضاع الحياة في الاقتصاد والاجتماع والصراع على مختلف اشكاله. ان النكتة لها وجهان: وجه معلن، متهكم، عبثي الصورة، ووجه مستتر يحمل كل صور الجد والمواجهة والصراحة، على نحو يشرح لنا كيفية توظيف ثقافة العبث في اعلان حقيقة ما تواجهه النفس البشرية من صعوبة حياتية. ان العبث واحد من الدوافع الكامنة المتحركة لكتابة الأدب الساخر في كل أشكاله. لقد أصبح الأدب الساخر جنسا يختص بأشخاص ويختص به أشخاص وله وظائف في الأداء الاجتماعي والثقافي. ومن الأوجه السوداء للعبث الانساني ضيق الانسان بمواجهة السؤال الكوني الكبير ضيقا متزايدا بدفعه الى الموت القدري (الانتحار) أو الى الموت الجماعي (الحروب). هنا أصبح أمامنا واضحا كم تحتوي هذه الكلمة (العبث) من مفارقات المعنى في السلب والإيجاب. ان احساس الانسان بغياب دوره في الحياة يدفعه الى البحث عن دور على قاعدة (الفكرة والنقيض). ان منشأ الهوايات الفردية هو الاحساس بالفراغ، أعني الاحساس بعبثية الزمن حتى تبدأ الهواية الموجبة في عطائها وشمولها بالانتصار على هذا الاحساس وثقافة العبث تبدأ بالسؤال وتستمر في محاولة الاجابة. والذين يموتون من الأدباء والمفكرين قبل أن يجيبوا عن السؤال في أدائهم وأعمالهم هم الساقطون في امتحان العبث وليسوا العبثيين كما يبدو لبعضنا أن يسميهم. والذي ينتحر أمام صعوبة الاجابة عن سؤال العبث لا يسجل موقف لوم أو تثريب على "عبثية" العبث قدر ما يدين نفسه بالضعف في مواجهة عبث الوجود الانساني بدءاً من ايماننا العظيم بأن الانسان ضعيف أو هكذا يشعر فيجب أن تجعله قويا في صموده الحياتي. ان الذين يقارنون أو يقرنون مفهوم "العبث" بمفهوم "العدم" كالذين لا يعترفون بالحياة الا بعد أن يعرفوا ماذا بعد الموت. فالعبث مفهوم حياتي، والعدم مفهوم من مفهومات الموت: والانشغال في ربقة اللا جدوى الكامنة في الذات والمجتمعات عبر كل مسارها الانساني تبتني هياكلها على صيغة "الوظيفة" المناهضة للعبث...
يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا
لا يوجد تعليقات بعد ! كن أول المعلقين !
لا يوجد اقتباسات