إسترخاءٌ على مواقد الجَمْر / الحلقة 7 / الذائقة الفردية في رؤيتها الثقافية

إسترخاءٌ على مواقد الجَمْر / الحلقة 7 / الذائقة الفردية في رؤيتها الثقافية


مهما خضع الناس للمنهج في العمل النقدي، ظلوا أسرى الذوق الفردي الذي فيه يختلفون. ومن هذا الاختلاف ينشأ النقد المتفاوت في الدرجة فتروج السلع الادبية عند بعض فيما تكسد عند بعض آخر. ان الذوق لا يخضع للقياس لأنه عمل ذاتي في الفرد. وقبل أن تظهر المعجمات التي أصبحت اشارتها مصدرا للتخطئة والتصويب، كان السماع والحفظ هما مصدرا هذه التخطئة وهذا التصويب. والذوق الفني هو الذي جعل العرب مدارس لغوية فانقسموا على فئات وطبقات حيث ترى فئة ضحايا الاختلاف في الذوق الفني عند العرب: الرسم الاملائي للكلمة، اختلف العرب في هذا الرسم. ان التواء اللسان في نطق الأحرف قبل الهمزة هو الذي أوجد الاختلاف في كتابتها. والتواء اللسان موسيقى داخلية لا يدركها الا صاحبها. معنى هذا أن النطق قبل الكتابة هو نوع من أنواع اللحن.

اننا عندما نتكلم نعني بنوع من الغناء الخاص. وبين متحدث ومتحدث يكمن فرق واضح في التصويب لهذا كان هناك من يُطرِب عندما يقرأ الشعر فيما كان هناك من نحفل به ولا نطرب لسمعه.

ومن ضحايا الاختلاف الاخرى للذوق الفني: حركة الحروف الوسطى في الفعل عند تصريفه، فهناك الكثيرون الذين يستطيعون بموسيقى داخلية فطرية أن يتحسسوا حركة الفعل من دون أن يقرأوه في معجم. لقد تعدى الذوق الفني بآخرين الى اختلافهم في تحسس وقع الكلمة على الاسماع. فمن الكلمات ما تصبح صعبة الاستساغة عند فئة، فيما تكون سهلة مستمرأة عند فئة أخرى. ان هذا لا يرجع الى الكلمة ذاتها، بل الى تذوقها عند المتلقي.

وعندما مر زمن ضاعت فيه على الأفواه أسماء قائليها، برز الذوق الفني في قدرته على نسبة القول الى القائل على وفق ما يقوم عند صاحب الذوق الفردي من تحسس لعلاقة القول في القوة والحجة والبناء اللفظي بقائله. ففي تراث العرب أمثال وأشعار وأقوال نجهل قائليها لكننا ننسبها الى شاعر او خطيب بناء على ما يوحي به ذوقنا الفني في تأهيل الشخصية العربية لمثل هذا القول أو ذاك. هناك قصائد ننسبها الى الامام علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)  فيما ننسب غيرها الى الامام الشافعي وحينما نبحث عن مصدر موثوق به لا نجد الا الذوق الذي أحال هذا القول الى هذا القائل وذلك القول الى ذلك القائل. وكلما تقادم الزمن على الأحداث، ضعف التوثيق وتعزز الذوق. وهذا هو واحد من الأسباب التي جعلت الذوق حكما على قبول التاريخ أو رفضه.

ان الكتابات الحديثة التي أصبح فيها أصحابها أدوات رفض ومحاججة لثوابت في مسيرة أمة من الأمم كانت ناتجا من نتائج الذوق الخاص في اقامة الحجة على الرضا أو الرفض. ومن غرائب الأمور أن يستطيع الذوق وهو محكوم بالعاطفة أن ينتزع من أشداق الأحداث نفسها حججا عقلية تدين وتستنكر. معنى هذا أن الرفض القائم على العاطفة لا يخلو من دافع عقلي يكمن وراءه. كيف نستطيع التوفيق بين الذائقة الفردية الفنية وتحقيق النص في قيمته الابداعية؟ اننا نستطيع ذلك عندما يبرز الكم في الاجماع على صلاحية الذائقة للحكم على النصوص. مثالا على ذلك أقول: ان أبا ذؤيب الهذلي شاعر رقيق ولكن مجموع من يحكم برقته الشعرية أقل من مجموع من حكم برقة المتنبي الشعرية فالاجماع هو ناتج حساس لعملية الذوق الجمعي الذي يعتمد الفرد أساسا له لكنه لا يعتمد عليه وحده. ان الذائقة الشعرية بالاجماع هي ناتج حسابي لعملية الذوق الجمعي الذي يعتمد الفرد أساسا لكنه لا يعتمد عليه وحده. ان الذائقة الفردية هي التي انجبت الرواد والقادة والنقاد والمبدعين. ولولا اختلاف الفرد بذائقته لأصبح متوافقاً توافقاً مريضاً مع المجموع وسقط رأيه الخاص وغامت حصانته الذاتية في تقويم العمل الآخر. ان ابرز عامل من عوامل الحفاظ على الذائقة الفردية هو الإصرار من دون مغالاة والاعتصام بالذات من دون مغالاة. ومن لا يملك حجة أو برهانا على ذوقه، سقط سريعاً في المنازلة. 

ان اختلاف الذوق الفني سبب من أسباب كشف الجمال في العمل الأدبي. والجمال ليس صفحة واحدة لأنه مجالٌ من مجالات الرؤية اليه من فرد أو أفراد في زمن  او زمان وفي مكان أو أماكن. والجمال هو جمال الرؤية الى النص لاجمال النص نفسه.

أعني أن الجمال هو ما نراه ونتحسسه بأكثر مما هو كامن فيه أو ما هو ناطق به. ان اختلاف الذائقة الفنية دليل على اختلاف الشخصيات. ومن هنا فاننا قادرون على تحديد حصة الرائي في الرؤية بمجرد ملاحقة ما يراه ذاتيا. ان اختلاف الذوق الفني هو فرصة الشعراء والأدباء في أن يتخلصوا من الاحباط الذي يواجههم به أحدهم بالانتعاش الذي يحصلون عليه في رضا آخر عنهم. فعندما يعيب ناقد على شاعر قصيدة، يحاصره حتى يذهب بقصيدته الى ناقد آخر يرفع الحيف عنه بتبجيل القصيدة واكرامها نقديا فيستريح لذلك الشاعر ويزدهي من جديد. ان أكثر الأدباء نفاقا هو من يروج لعمله ذوقاً أو قبولا ذوقيا فيصير أديب المعدل العام للأذواق من دون مراعاة لخصوصية رؤيته.

ان الذوق الجمعي هو القاسم المشترك لكنه ليس الحكم على النصوص في جودته. وهذا سبب من أسباب سقوط الأداب التي ترضي جمهوراً في زمن ما لتصبح ساذجة في زمن لاحق.

وخير الآداب الآداب التي تسبق الذوق الجمعي بمقدار زمني واضح لأن هذه الآداب هي التي تكتشف المستقبل. ربما أصبح الآن واضحاً ان الذائقة في رؤية الثقافة مهمة في تحديد علاقة الفرد بتلك الثقافة، لكنها لا تصلح أن تصير قاعدة لإعمامه على الذائقة الاجتماعية. وفي هذا شيء يشبه النصيحة التي يجب أن تقدم الى من يكتب رأيا في ثقافة نص وابداع نص في أن يتحاشى ذكر أفعال مثل (نرى) ويعني به (أرى) و(نلاحظ) ويعني بها (الاحظ) و(نعتقد) ويعني بها (اعتقد) فهذا اعمام الى الآخرين للانضمام الى رأيه بالضمن وسبق القصد وما أحرى بمثل هذا بأن يقول وحده ويرى ويلاحظ ويعتقد وحده. لأن الذوق ذوقه، والرأي رأيه ولا تزر وازرة وزر أخرى.

تقييم النص

يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد ! كن أول المعلقين !

التعليقات

إدراج الإقتباسات...