فى الشعر الكلاسيكى كان الموضوع المُعالج يبدوا بارزا أمام القارئ, فمثلا فى شعرنا العربي القديم كانت القصائد تُصنَّف حسب أغراضها, من مديح ورثاء وذم ونسيب وغزل وغيره, وكانت المعانى والدلالات تبدو قريبة نسبيا للقارئ, وارتبطت أغراض الشعر وموضوعاته قديما باِشباع حاجات المجتمع, فكان الشعر يلعب دورا اٍعلاميا وسياسيا حيث كان الشاعر يمثل صوت الجماعة / القبيلة التى ينتمى اٍليها, ويعدد مناقبها فى قصائد الفخر والنسيب, ويرسم صورة نبيلة للممدوح الذى غالبا ما يكون من أولى الأمر أو على علاقة بالشاعرفى قصائد المديح والعكس فى قصائد الذم والهجاء, واٍن كانت الكلاسيكية أحدثت ربطا بين ذات الشاعر والذات الجماعية القبيلة / المجتمع بشكل أو بآخر, فاٍن الحركة الرومانسية أحدثت خلخلة فى هذا الارتباط, وكانت نظرتها للشعر هى أنه تعبير تلقائى عفوى عن ذات الشاعر ولم ينقطع صوت الشاعر عن التعبير عن جماعته التى ينتمى اٍليها ولكن صوته ونظرته الذاتية أصبحت هى الأكثر بروزا, ولوّن الشعراء الرومانسيون موضوعات وأغراض الشعر بذاتيتهم, وركزوا على موضوعات بعينها مثل المرأة والحب والمثالية والنزعة التشاؤمية والاشتباك بالطبيعة باعتبارها مصدرا للفترة والنقاء والتعبير .
وفى الاتجاه المعاكس للرؤية المضمونية للفن والأدب التى تجعل من نُبل المضمون وعذوبة اللفظ معيارا مهما للحكم على جودة الشعر ظهرت النزعة الشكلية فى الفن والأدب ( وهى كل نزعة ترمى اٍلى تغليب الشكل والقيم الجمالية على ما فى العمل الأدبى من خيال أو شعور, ويمكن القول بأن نظرية الفن للفن هى خير مثال لهذه النزعة )1, وقد مثلت النزعة الشكلية فى النقد الأدبى مدرسة الشكلانيين الروس “1915 ـ 1930م” التى أهملت المضمون وركزت على الشكل الفنى, واٍن كانت الرؤية المضمونية للفن والأدب أهملت جماليات الشعر والفن والأدب, فاٍن النزعة الشكلية أهملت المضامين, وبين هذين الاتجاهين ظهر توجه معتدل يهتم بالشكل الفنى والمعنى معا, فاٍهمال الشكل الفنى يُخرج الفن والأدب من كونه تعبيرا جماليا بأدوات فنية يعد تطرفا من أصحاب الاتجاه المضمونى, فالمضامين والمعانى موجودة فى كل النصوص الأدبية وغير الأدبية, وكذلك اٍهمال المعنى والموضوع الذى يعالجه النصّ الشعرى والأدبى, والتركيز على الصياغة الجمالية يعد تطرفا من أصحاب التوجه الشكلى, لأن هناك علاقة “كراتيلية” أى : ( علاقة وجودية بين اللفظ والمعنى )2 .
ومع تنامى حركة الحداثة الشعرية وتبلورها أصبحت كل الموضوعات وكل الألفاظ صالحة للشعر, ولم يعد نبل المضمون ورقة وعذوبة الألفاظ معيارا يعتد به فى قياس جودة النصّ الشعرى من عدمه, وأصبحت العبرة فى الجودة مرهونة بامتلاك الشاعر لأدواته, وقدرته على تحويل الموضوعات والتيمات المعنوية المُجردة اٍلى صور شعرية ورموز موحية تخاطب حواس القارئ ووجدانه, وتشتير ذهنه ومخيلته لينتج الدلالات الخاصة به من النص الشعرى وفقا لفهمه ورؤيته وثقافته .
وفى الشعرية المعاصرة نجد أن الغرض والمعنى ( لم يعد موضوعا يستوجب التعريف به, واٍنما أثرا يُعاش )3, فلم يعد الغرض بارازا كما فى الشعر الكلاسيكى بحيث نقول هذه قصيدة تعالج موضوعة الحُب وهذه تُعالج موضوعة الحزن وهكذا, بل تحول الغرض والمعنى اٍلى آثر يسمى “أثر المعنى” وهو : ( انطباع ينتجه الحِسّ فى احتكاكه بالمعنى )4 الذى يقصده الشاعر, ويتشكل أثر المعنى ودلالات ذلك الأثر وفقا لاٍحساس القارئ يالنصّ الشعرى وفهمه وتفاعله مع المعنى .
كان الشعر الكلاسيكى بأغراضه ومعانيه كما أشرت سابقا يؤدى دورا اٍعلاميا وسياسيا فى المجتمع, وهو فى ذلك كان مرتبطا بسياقاته التاريحية والثقافية والاجتماعية, فكان صوت الشاعر مرتبطا اٍلى حد كبير بصوت الجماعة التى ينتمى اٍليها, وكان شعره فى بعض أغراضه كالنسيب والفخر والحماسة يمثل الوسيط الاٍعلامى المعبر عن تلك الجماعة, وقد حاولت بعض النزعات الأدبية الحديثة أن توظف الشعر لخدمة غرض سياسي اجتماعى محدد مثل “الواقعية الاشتراكية” فى الفترة من 1945م, ولكنها لم تنجح فى ذلك وتراجعت الواقعية الاشتراكية بعد الحرب العالمية الثانية 1945م, فالشاعر الحداثى انطلق من الوعى الذاتى بالعالم والواقع وروح العصر, وارتبط ارتباطا لا انفصال فيه بحرية التعبير وعدم التقييد بأيدلوجيا سياسية معينة حتى لو كان من أنصار تلك الأيدلوجيا, لا يجعل شعره بوقا دعائيا لتلك الأيدولجيا, بل يجعلها رافدا من روافده الشعرية, ويعالج القضايا من منظور شعرى وأدوات شعرية .
وعن الوظيفة الاجتماعية للشعر قال “اٍتوماس سترن ليوت” : أن الشعر ( يجب أن يعطينا شيئا اٍلى جانب المتعة, لأن المسألة لو كانت متعة فحسب لما كان من النوع الأسمى, فهناك دائما نقل بعض الخبرات الجديدة, أو بعض الفهم الجديد لما هو مألوف, أو التعبير عن شئ عانيناه لكننا لا نملك الكلمات اللازمة له, ومن شأنه يوسّع وعينا ويرفِّه اٍحساسنا )5, اٍذا فوظيفة الشعر السامية فى المجتمع هى توسعة الوعى وترقيق الاٍحساس, وهى وظيفة تتوافق مع الشعر بوصفه منتج اٍبداعى وجدانى, وهو بذلك غير مطالب بتأدية أى وظائف أخرى سياسية أو اجتماعية أو غيرها, لأن كل وظيفة فى المجتمع لها ممثلوها الذين يعبرون عنها, فالمؤرخ مثلا يسجّل وقائع التاريخى والاجتماعى, وعالم الاجتماع يدرس الظواهر الاجتماعية, والشعروالأدب والفن يمثل الجانب الوجدانى فى شخصية المجتمع, وأعمال الشعراء ليست وثائق سياسية أو اجتماعية بل هى صورة فنية لواجدان المجتمع الذى يعيش فيه الشاعر, وينفعل بقضاياه ويعالجها بمنظور شعرى وفقا لرؤيته الذاتية .
شاعر وناقد من مصر
يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا
لا يوجد تعليقات بعد ! كن أول المعلقين !
لا يوجد اقتباسات