لابد أن الكاتب عندما يهم بكتابة نصه تكون قد ساورته فكرة ما، هذه الفكرة هي التي كانت من وراء دفعه إلى الكتابة، ولا شك أنه - الكاتب - حين كان يكتب كان ينوي أن ينشر ما يكتبه في الناس ليقرأه، ولا يهمه إن اتفق الناس معه أو اختلفوا، المهم عنده أن يكون معبرا بصدق عن قناعاته وأفكاره، بكل ما يتطلب ذلك من وضوح في الفكرة ودقة في التعبير إذ الغاية هي الإحراز على المصداقية مع نفسه أولا، ثم مع القارئ بعد ذلك.
إن الكاتب وهو يشرع في الكتابة يعرف أنه سيتوجه بالخطاب إلى قراء من شرائح مختلفة ومتنوعة سواء في قناعاتها الفكرية أو في خلفياتها الثقافية، منهم من سيتفق معه، ومنهم من سيعارضه ومنهم من سيكون منه بين المنزلتين، ومنهم سيكون خارج الإطار، بمعنى أنه لا متفق ولا معارض. ولكنه إذا كان كاتبا حقيقيا سوف لا يهتم إلا بما يمليه عليه ضميره وقناعته، فهو بذلك فقط سيفصح عن نفسه كما هي لا كما يريدها منه القراء، وبالتالي سيكون كاتبا أصيلا.
وبما أن الكتابة فعل يقوم به فاعل هو الكاتب، فهذا الفعل يكون ناشئا عن دوافع هي الأهداف والغايات التي يسعى إليها الكاتب ويرمي إليها من خلال ما يكتبه، فالنص لا ينجز من فراغ، ولا يأتي هكذا جزافا وبدون مقدمات، ونحن هنا نتساءل:
– حين يكتب الكاتب نصا ما لماذا يريد من الآخرين أن يطلعوا عليه؟
– لماذا لا يحتفظ بنصه لنفسه؟
إن الإجابة عن هذا التساؤل تبدو صعبة شيئا ما، ونحن سنحاول الإجابة عليه من خلال تأملنا للنصوص وما توحي به خارج مضمونها، فنقول:
يريد الكاتب من الآخرين أن يشاركوه أفكاره أو على الأقل يطلعوا عليها من منطلقين، أولهما نفسي وثانيهما اجتماعي أخلاقي. فالنفسي يتعلق بالشعور بالنقص - تجدر الإشارة هنا إلى أن الشعور بالنقص ليس مرضا نفسيا - والذي يعمل في نفسية الكاتب سواء وعى ذلك أم لم يع، وهو من خلال كتابته يحاول أن يتجاوز هذا النقص أو يحاول أن يقلل من وطأته عليه لينتقل بذلك من نقطة أعلى إلى نقطة أدنى على مستقيم هذا النقص ليبدو أمام الآخرين متكاملا، فقد ينكر الكاتب هذه الحقيقة، لكن أفكاره وآراءه تعبر بشكل صارخ عنها.
أما المنطلق الاجتماعي الأخلاقي فهو يتمثل في أن الكاتب يتصور نفسه يحمل رسالة أو مشروعا للمجتمع، وفي حالة تطبيق أفكاره ونظرياته سيخطو المجتمع إلى الأمام، وسيصعد سلم الرقي بكل ثقة واطمئنان، وسواء كان هذا التصور ناتجا عن وهم الكاتب أو عن أنانيته إلا أنه يبقى تصورا من الفهم العام لدور الكاتب وما يجب عليه القيام به إزاء المجتمع. وهنا نصل إلى سؤال آخر وهو:
– هل الآخرون في حاجة لمعرفة أفكار الكاتب؟
يبدو أن لا أحد طلب من الكاتب أن يقدم له أفكاره، وإنما الواقع بملابساته هو الذي أملى عليه أن يكتب للآخرين، ذلك أن التغيير -أقصد تغيير الواقع - لا يأتي عن طريق شخص واحد حتى ولو كان كاتبا، وإنما يأتي عن طريق التضامن والتكاتف والإقناع والاقتناع، والاحساس بضرورة التغيير وهذه الأمور لا تكون إلا جماعية، من هنا كان الكاتب يسعى لتحقيق الإجماع حول أفكاره وطروحاته، فبذلك الإجماع يستطيع أن يحقق التغيير الذي ينشده ويعمل لأجله.
بالإضافة إلى هذا فالكاتب -ونحن معه -لا يتصور الكتابة إلا كعلاقة رائدها هو التواصل، وإلا فهي تبقى كتابة بدون قيمة، ذلك أننا لا نكاد نتصور كاتبا يكتب لنفسه، ولنفسه فقط إلا بصعوبة بالغة، أقول بصعوبة بالغة وأنا أريد أن أقول إننا لا نكاد نتصورها البتة.
هناك من ينظر إلى الكتابة على أنها وسيلة من وسائل التنفيس عن الذات وعن مكبوتاتها، وهذا التنفيس لدى الكاتب هو معادل للبوح والشكوى لدى الشخص العادي، فهو إن لم ينفس عنه سيجد نفسه عرضة للوساوس والقلق، وفريسة سهلة للتذمر المستدام والوجوم المضني مما سيؤدي به في نهاية المطاف إلى مشاكل نفسية عويصة ربما يصعب التعامل معها مستقبلا.
وإذاًً، فالكاتب يمارس الكتابة من هذه الزاوية لأنه يرى فيها ملاذا آمنا من التوترات النفسية، كما يجد فيها وسيلة لإبراز الذات كإشباع لإحدى غرائزه.
لنعد إلى فكرة تغيير الواقع لدى الكاتب من خلال ما يكتبه والتي أشرنا إليها سابقا، فكما أن الفعل يغير الواقع فكذلك تستطيع الكتابة أن تغيره وذلك حين تتحول هذه الأخيرة من طور التجريد إلى طور التطبيق عن طريق الممارسة والفعل. وهذا التصور لدور الكتابة نجد مثاله متجسدا في كتابات بعض المفكرين والمصلحين والفلاسفة وأدباء كبار غيروا نظرتنا إلى كثير من الأمور والأشياء في عالمنا الذي نعيش فيه بحيث تحولت الكتابة/الكلمة على أيديهم وعلى أيدي أتباعهم ومريديهم إلى فعل جسد مضمونها عمليا، ومن هنا نفهم مقولة[الكتابة بوصفها حلما]،بحيث يكون الحلم قابلا للتحقق، وبهذا الخصوص نطرح السؤال التالي:
– لماذا يريد الكاتب أن يغير الواقع وما هي مصلحته في ذلك؟
يعرف الكاتب أنه ينتمي إلى مجتمعه انتماء يحتم عليه أن ينخرط في الدفاع عن مصالحه، وعن كل ما يعود بالفائدة عليه، وهذا الانتماء الحالي للمجتمع من طرف الكاتب هو صيغة معدلة ومنقحة عن انتماء الشاعر العربي القديم لقبيلته، بحيث إن انتماءه إليها كان يحتم عليه المنافحة عن قيمها والذود عن حياضها، والتغني بأمجادها الطريفة والتليدة، إذ فضل الشاعر عليها هو كفضل المدافع عنها بالسيف ضد أعدائها ومن يروم الكيد لها. فالكتابة دائما فعل تغيير، وحتى أن ما يسمى بكتابة تكريس الواقع وإدامته هي في نظري كتابة تغيير لواقع يريد أن يصير عينا وشخصيا أنا لا أفهم التغيير على أنه محاولة تسعى إلى الأفضل عمليا ودائما.
لعلنا الآن أصبحنا ندرك أن دفاع الكاتب عن مصلحة مجتمعه إنما هو في الحقيقة دفاع عن مصلحته هو، لأنه يرى أن مصلحته مرتبطة ارتباطا عضويا بمصلحة أو بمصالح الناس الآخرين الذين يشكلون معه المجتمع الذي ينتمون إليه، وأن الدفاع عن مصلحته يقتضي منه أن يدافع عنها باعتبارها مصلحة عامة تهم الجميع، وذلك لكي يكسب تعاطف الناس وتأييدهم له، وإلا سيكون صوته صوتا نشازا طابعه البارز هو الأنانية والمصلحة الضيقة، الشيء الذي قد يجر عليه عواقب غير مرضية له، وربما قد يجعله شخصا منبوذا يشار إليه بأصبع الاتهام.
من جهة أخرى تطرح الكتابة بوصفها ممارسة تسعى نحو هدف ما إشكالية متعددة الجوانب، منها ما يتعلق بالكاتب، ومنها ما يتعلق بالقارئ أو بجمهور القراء، ومنها ما يتعلق بالكتابة نفسها. فالكاتب وهو يهم بالكتابة أو يتخذها هما ومسؤولية عليه أن يكون متسقا في فكره، ومعنى ذلك عليه أن يحدد المبادئ والأسس التي ينبغي أن ينطلق منها، وأن لا يحيد عنها وهو يخوض غمار الكتابة وهذه المبادئ والأسس هي التي ستضمن له أن لا يكون متناقضا في ما يطرحه من قضايا وحلول لهذه القضايا، إذ بدونها سيقع في منزلقات ومطبات تذهب بمشروعه الفكري إن كان له مشروع، وتودي بمصداقيته فيغدو لا يعتمد عليه في الاستشهاد به، وبالتالي سيصاب بانتكاسة قد تضع حدا لمشروعه الكتابي. وبالنسبة لجمهور القراء فالكاتب إن أراد أن يرضي الجميع فسيجد في ذلك عنتا كبيرا، لأن القراء يختلفون فكرا وقناعة ربما لدرجة التناقض الحادة، ولحل هذا المشكل يبدو لي أن الكاتب عليه ألا يولي اهتماما للقارئ بقدر ما يوليه لما يؤمن به ويعتقده، ويكتب ذلك واضحا جليا بينا، بعيدا عن اللبس والغموض، حتى لا يفهم خطأً، فمن القراء من يفهم النص على غير وجهه وهو واضح ساطع الوضوح، فما بالك إذا كان هذا النص غامضا أوفيه تعمية أو التباس. وفيما يخص الكتابة نفسها فليس من المتوقع دائما أن تكون نظرة الكاتب إليها هي نفس نظرة القارئ. فالقارئ قد يرى في قراءتها تزجية للوقت بينما الكاتب يرى فيها رسالة يتوجه بها إلى القارئ، ويراها التزاما ومسؤولية، وقد يحصل العكس، وهنا بالمناسبة أذكر الكاتبة الأمريكية الذائعة الصيت مرغريت ميتشل صاحبة الرواية الشهيرة: (ذهب مع الريح)، فقد كتبت روايتها وهي مريضة بالمستشفى تزجية للوقت، وحينما اطلعت عليها إحدى صديقاتها سعت إلى نشرها، وكتب لهذه الرواية النجاح ولصاحبتها ذيوع الصيت والشهرة.
حقيقة إن الكتابة تطرح إشكاليات كثيرة ومتنوعة مثلها في ذلك مثل القراءة سواء بسواء، وقد أحببت أن أطرح بعضا من هذه الإشكاليات في هذا المقال المتواضع قدر المستطاع، فإن وفقت في طرحها فذلك ما أتوق إليه، وإن قصرت فالكمال لله وحده.
يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا
27-11-2021 11:10
الأخ الفاضل مصطفى معروفي
وهناك شخصاً مهماً يكون طرفاً ثالثاً مابين الكاتب "كفاعل" وبين القارئ كمتلقي، وهذا الشخص هو الناقد، الذي يرى ما خلف الكواليس، والذي ينبغي أن يكون عارفاً بكل أدوات صنعته ومدركاً مغزى ما أراد الكاتب أن يقدمه، ويفتح أمام القارئ آفاقاً جديدة، وأن يقدم شيئاً مثيراً للإهتمام بوجه خاص قد لا تخطر ببال القارئ أثناء القراءة، فكما نعلم أن خيال القارئ تحدده ثقافته وسعة إطلاعه. وهنا بظني تكتمل حلقة "الثقافة" المرجوة من الكتابة والقراءة.
كذلك إهتمام المؤسسات المعنية بالكتاب والأديب. فللأسف لا نجد مثل هذا الإهتمام في مجتمعاتنا العربية، فالأديب يعيش ويموت فقيراً، بل مهمشاً في كثير من الأحيان. وهذا يذكرني بما قاله الكاتب الكبير مارك توين، حين سئل من قبل أحد أصدقائه :
- ماذا تعمل في هذه الأيام؟ فأجاب :
- أكتبُ قصصاً..
- وهل بعتَ شيئاً ؟!
- نعم...لقد بعتُ ساعتي، وأكثر ملابسي، وأفكّر الآن أن أبيع فراشي..
وهذا هو حال الأدباء عندنا..
دمتَ أخي الحبيب مصطفى بخير وعافية وعطاء مستمر
27-11-2021 11:10
لا يوجد اقتباسات