الكلب الذي رأى قوس قزح

الكلب الذي رأى قوس قزح


لم يكن يعلمُ إلى أين يجرُّه سيدُه هذا الصباح فقد كان مكانه المألوف هو مقعدٌ حجريٌّ بجانب مكتبِ البريدِ على جانبِ الشارعِ المؤدي إلى المدرسة، لكنّهما اليومَ تجاوزا المكانَ المعتادَ واستمرَّ السيدُ العجوزُ بالمشي جارّا الكلبَ خلفَه بلا توقفٍ وفي كلِّ مرّةٍ يرفعُ الكلبُ رأسَهُ إلى سيدِه متجنّبا السيرَ على بقع الماءِ التي خلّفتْها أمطارُ الليلةِ الماضيةِ وفجرِ اليوم... متسائِلا  متى ستتوقّف "فقد بدأتُ أشعرُ بالمللِ والتعبِ، وعنقي تؤلمني بسبب هذا الطوق" والعجوزُ مستمرٌّ بالسيرِ إلى أنْ توقّفَ على مرتفَعِ تُطلُّ عليه الشمسُ بعيدا عن البناياتِ العالية ... أخذَ نفَسا عميقا وعدل نظّارتَهُ على أنفِه وجلسَ على مقعدٍ ينظرُ إلى السماءِ والكلبُ بجانبِهِ وهو يحوِّلُ عينيهِ بين السماءِ التي لا يُرى فيها شيءٌ، وبينَ سيدِهِ متسائِلا إلامَ ينظر ؟ 

- أُنظُرْ جيمي... أنظُرْ كم هي جميلةٌ هذه الألوانُ في السماءِ الزرقاءِ الجميلة.

 رفعَ جيمي رأسَهُ، بحثَ في السماءِ الرماديةِ التي تنتشرُ فيها نُتَفٌ بيضاءُ هنا وهناك، وعادَ بعينَيهِ البُنّيّتينِ الذابلتينِ إلى وجْهِ سيدِهِ المبتسمِ وهو لا يفهمُ ما يقول... وجّهَ العجوزُ رأسَ الكلبِ بإصرارٍ إلى ناحيةِ قوسِ قزح الباهتِ الذي يقطعُ شيئا منَ السماءِ وهو يداعِبُ أسفلَ رقبَتِهِ وأُذُنَيهِ تعبيرا عن حماستِهِ وسعادتِه فما كان من الكلبِ إلّا أن يُجاريَ سيدَهُ ويشاركَهُ فرحَهُ فهزَّ ذيلُه وأطلقَ صوتَه نابحا بفرحٍ وهو يركّزُ جاهدا ليرى ما يراهُ سيدُه... متسائلا باستغرابِ أين ينظرُ العجوزُ بكلِّ هذا الفرح ؟؟ 

 استمرَّ الكلبُ  بمجاراةِ سيدِهِ في فرحِه الغامرِ فما كانَ من العجوزِ إلّا أن كافأهُ بقِطعِ حُلوى وكرةٍ صغيرة كان يحملُها في جيبِه أخذَ يرميها والكلبُ يهرولُ سعيدا كي يُحضرَها لسيدِهِ الذي كانَ يقهقِهُ عاليا...

 قال العجوزُ: أنت كلبٌ مميزٌ يا جيمي فقد استطعتَ أن ترى كلَّ هذا الجمال... كلبٌ غيرُكَ لن يفعلَها لكنّكَ مميز...

 رنّتْ كلماتُ المديحِ في أذُنِ جيمي بسعادةٍ وشعَرَ أنّهُ مميزٌ فعلا ومختلف. في طريقِ العودةِ مشى جيمي متفاخرا أمامَ أقرانِه من كلابِ الجيرانِ وأخذَ ينبحُ متبجِّحا بأنّه مميّزٌ ومختلِفٌ والكلابُ تنظرُ إلى بعضِها مستغربةً مغتاظة... 

- وبماذا أنتَ مميزٌ وتختلفُ عنّا يا جيمي، أنتَ مجرّدُ كلبٍ لعجوزٍ لا يستطيعُ الرؤيةَ أو السمع... 

ضحِكَ جيمي من غباءِ أقرانِه وقالَ متفاخرا أنا مميّزٌ لأنّي أستطيعُ رؤيةَ أشياءَ أنتُم لا ترونَها، أشياءَ جميلةٍ في السماءِ، أشياءَ عظيمةٍ تجعلُ حياةَ أسيادنا مختلفةً تماما، تجعلُهُم فرحينَ ويُعطونَنا الحلوى... استغربتْ مجموعة الكلابِ من اندفاعِ جيمي وحماسِه وغباءِه في الوقتِ نفسِهِ، أيّةُ أشياءَ عظيمةٍ تلكَ التي يتحدّثَ عنها... 

 - انتم لا تعرفون لأنّكُم لستُم مميزينَ مثلي، العجوزُ قالَ إنّني أرى أشياءَ مختلفةً عنكم... أشياءٌ لا يستطيعُ أيُّ كلبٍ رؤيتَها، فقط من وصلَ الى مرحلةٍ عاليةٍ من التميز...

 - حسنا جدا... ولكن ماذا ترى ؟  حَملق جيمي بامتعاضٍ وصرخَ بعصبية :

 -انتم لا تعرفونَ شيئاً، أنا وصلت الى مرحلة التَميّز ...

انقسمت الكلابُ فيما بينها، قسمٌ مأخوذٌ بحماسِ جيمي وفصاحتِهِ ونباحِه، وقسمٌ يضحكُ من بلاهتِه وغباءِه... وتبادلت الشدَّ والجذبَ نافشةً شعورَها هازةً ذيولَها في حماسٍ وهي تملأُ الجو نباحاً، ثم هدأ الجميعُ منشغلاً بالطعامِ القليلِ الذي في أوعيتِهم.

رفع احدهم رأسَه من طبقه وقالَ متذكّراً: 

 -هل رأيتُم اليومَ هذا الدخان الأصفرَ والرماديَّ في السماء ؟ تقول سيدتي أنَّه جميلٌ وأسمتْه قوس قزح..أنا لا أراهُ جميلاً أبداً.. باهتٌ وكئيب.

بقي جيمي مذهولا وصامتا وهو يتسائلُ بخيبةٍ..: دخانٌ باهتٌ وكئيب...؟!!

تقييم النص

يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا

التعليقات

جمعة عبدالله

25-11-2021 11:08

الأديبة القديرة

الحدث السردي يمتلك خلفية عميقة في الايحاء والرمز البليغ لواقعنا الفعلي في العراق، الذي تلعب فيه الاحزاب المتنفذة في عقول الناس، لكي تستمر بتسلطها على صولجان الكرسي في نهج الضحك على ذقون الاغبياء والجهلة، ودفعهم لمبايعة تلك الأحزاب المتسلطة. ولكنها تخلق في نفس الوقت حالة من التذمر، اي تقع بين حوافر الشد والجذب، ما بين مؤيد ومعارض ورافض. 

تلك الحالة تشابه حكاية العجوز وكلبه (جيمي)، والتي هي اشبه بعلاقة السيد والعبد. فالأول يتصرف كالآمر والوصي مثل ما يريد ويرغب، ويطوف بكلبه والحبل مربوط برقبته في فسحة طويلة حتى ينهكه التعب، ولكن العجوز يحاول اقناع كلبه ويوهمه، كما يفعلون (السادة) في بلادنا، فهم يبيعون الاوهام الى عبيدهم. والعبد عندهم مثل الكلب (جيمي) يسير لا يدري إلى أين يُقاد، والعجوز يحاول ان يقنع كلبه بأنه متميز عن الآخرين ويفهم كل ما يقال: (- أنظر جيمي.. أنظر كم هي جميلة هذه الالوان في السماء الزرقاء الجميلة).. ولكن الكلب (جيمي) يرى العالم رمادياً وباهتاً بعينيه الذابلتين، وينظر الى سيده العجوز ببلاهة وكأنه مبتسماً بفرح مخادع، لكي يجاري سيده العجوز منافقاً، وخانعاً ذليلاً لكي يكافئه سيده العجوز بقطع من الحلوى، ثم يهرول سعيداً الى سيده بتلك القطع، بالضبط كما تفعل الاحزاب المتسلطة، ترمي بالقليل للناس وتوعدهم بحياة كريمة، ولكنها بدل ذلك تمنحهم الجحيم والمعاناة. 

إنها لعبة الأسياد وهم يقهقهون عالياً، لما يلمسوه من خنوع من قبل الرعية وطاعتهم العمياء لهم، مثل طاعة الكلب (جيمي) لسيده العجوز. 

نباح (جيمي) ربما يختلف فكل كلب ينبح (بنوطة) وإيقاع مختلف، وكذلك مؤيدي النظام وزبانيته. إن لعبة جر الحبل يتقن مهارتها السادة المتسلطين ليبقى حبل السلطة بأيديهم. كبقائه حول رقبة الكلب (جيمي). هكذا استشف من هذا المغزى الرمزي والعلاقة بين الكلب وصاحبه.  فالوهم والزيف والكذب بضاعة الاحزاب المتنفذة في العراق وما على مؤيديهم إلا التصفيق والقبول، بينما يعيش المتعفف الشريف حياة مليئة بالدخان الرمادي والاصفر كالغبار الذي يتصاعد الى السماء، لكن الاحزاب مثل هذا العجوز مع كلبه يقول له: (- انظر الى السماء الزرقاء الجميلة كأنها قوس قزح)، لكنها في الحقيقة هي دخان ورماد متصاعد من الحرائق. ذا التناقض الصارخ يخلق حالة من الكآبة والتشاؤم والخيبة. فلا يمكن ان يكون الدخان الأسود دخاناً أزرق جميل، ولا يمكن ان تكون السماء ملبدة بالغيوم السوداء والرمادية دون غيث، وأن يكون هناك قوس قزح، ولكن الكلاب لا تفقه ذلك.. والأحزاب تريد أن تقنع الناس أن كل شيء على ما يرام.

ولكن هناك معارضة أبية وليست مقتنعة بهذه السخرية وتلك الأوهام، لكيلا يبقى الحبل في رقبة الرعية، كالحبل في رقبة المسكين (جيمي) يجره العجوز ويطوف أينما يشاء.

 

تحياتي ودمتِ بخير وعافية اختي العزيزة رفيف

التعليقات

إدراج الإقتباسات...