المتنبي شاغل الناس .. إشكالية بين فريقين / الجزء الأول

المتنبي شاغل الناس .. إشكالية بين فريقين / الجزء الأول


حظي الشاعرُ أبو الطيب ‌أحمد ‌بن ‌الحسين المتنبي باهتمام الخواصِّ بشعره، وجدلهم بشخصه، واختلافٍهم في تأويل أشعاره، وتسقطهم لقولهِ وقيلِه ، ما لم يحظ بمعشاره – في تاريخ العربية كلِّها شاعر قط – وقد انقسم الناس فيه فريقين: فريق أسرف في حبه،حتى إنه لم ير له زلة، ولم يلحظ به علة، وعدَّ كل ما أُخِذ عليه من المآخذ محض بلة، ودون مقامه الرفيع، ولا يليق بشعره البديع، فهو أعلى وأجل من أن يتطاول إليه أحد، وأكبر من أن يؤثر فيه مقال أهل البغض والحسد، وما أبغضه مبغض، ولا شنأه شانئ إلا لأن نبوغه أكمل وأتم، وعبقريته أجل وأشم ؛ والناس ،مذ كانوا، مولعون بالعظماء،ومشغوفون بالحكماء، يتلمسون عيوبهم فيعدونها، ويتكشفون عوراتهم فلا يسترونها.

وَمَن ذا الَّذي تُرضى سَجاياهُ كُلُّها ؟

                 كَفى المَرءَ نُبلاً أَن تُعَدَّ مَعايِبُهْ

فهذا فريقٌ لهج بذكره؛ ووَلِعَ بحمده، وكَلِفَ بشكره، وحرص على حفظ أمثاله السيارة، والتغني بمعانيه المختارة، والتمثيل بأبياته الشوارد، والترتيل لآياتها في المشاهد، والتضمين لها في صدور الكتب والرسائل، والتزيين بها في قلوب المجالس والمحافل، وكثرة الشارحين لها من الفضلاء، والحانين عليها من الأدباء، حتى لقد أنستهم أشعار الأوائل، وألهتهم عن قريض الزير وقصيد وائل، وقد قال في ذلك بعض شعراء أهل العصر: ( مجزوء الرمَل)

يَا أبَا الطَّيَّب أَهْدَيْ       تَ لنا من فِيكَ طِيبَا

مَنْطِقاً نَظْماً كَنظْم ال    درَّ في الدُّرَّ غَرِيَبا

أَطْرَبَ الأنْفُسَ لَّما        راحَ للرَّاح نَسِيَبا

وعلى رأس هؤلاء جميعًا فيلسوف الشعر المعري، وفيلسوف النحو ابن جني، هذا قديماً أما في العصور المتأخرة فلم أر من تصدى للدفاع عنه في المحاضرات والكتب والمقالات مثل شيخ العربية العلامة محمود محمد شاكر، رحمه الله وطيب ثراه، وهذا الفريق يصح فيهم قول الشاعر الحكيم – الشافعي-:

وعين الرضا عن كل عيب كليلة

                ولكن عين السخط تبدي المساويا

وفريق بالغ في القسوة عليه، وأسرف في النيل منه، غير أن القسوة والشدة كانتا تشوبهما شوائب الهوى، وتشط بهما عن العدل إلى مواطن النوى.

نَأَتْ بِسُعَادَ عَنْكَ نَوًى ‌شَطُونُ

                        فَبَانَتْ وَالْفُؤَادُ بِهَا رَهِينُ

وقد عبر القاضي الجرجاني –الوساطة ص 2- عن هذه الظاهرة بقوله: “وما زلتُ أرى أهل الأدب – في أبي الطيب أحمد بنِ الحسين المتنبي فئتين: من مُطنب في تقريظه، منقطع إليه بجملته، منحطٍّ في هواه بلسانه وقلبه، يلتقي مناقِبَه إذا ذُكِرت بالتعظيم، ويُشيع محاسنه إذا حُكيت بالتفخيم، ويُعجَب ويُعيد ويكرِّر، ويميل على من عابه بالزِّراية والتقصير، ويتناول من ينقصُه بالاستحقار والتجهيل، فإن عثر على بيت مختلِّ النظام، أو نبه على لفظ ناقص عن التمام، التزم من نُصرة خطئه وتحسين زلَله ما يُزيله عن موقف المعتذر، ويتجاوز به مقام المنتصر… وعائبٍ يروم إزالتَه عن رُتبته، فلم يسلِّم له فضله، ويحاول حطَّه عن منزلةٍ بوَّأه إياها أدبُه؛ فهو يَجتهدُ في إخفاء فضائله، وإظهار مَعايبه، وتتبُّع سقطاتِه، وإذاعة غَفلاته، وكلا الفريقين إما ظالمٌ له أو للأدب فيه”

قلت: وعلى رأس الفئة الثانية – وعائبٍ يروم إزالتَه عن رُتبته..- محمد بن الحسن بن المظفر الحاتمي، أبو علي (ت ٣٨٨ هـ )، وابن وَكِيع التِّنِّيسي) ت ٣٩٣ هـ )، ومحمد بن أحمد بن محمد العميدي (ت ٤٣٣هـ)، وإسماعيل بن عباد بن العباس، أبو القاسم الطالقاني، المشهور بالصاحب بن عباد (ت ٣٨٥هـ).

وقد رأيت من يذكر الأصفهاني فيمن يبغض المتنبي ويحسده دون دليل، فرأيت من الواجب توضيح هذه المسألة. أما أبو الفرج الأصفهاني،صاحب كتاب “الأغاني” فإنه قد  بناهُ على مئة صوت بأمر الرشيد لمغنيَه إبراهيم الموصلي أن ينتخبها له، مع نسبة كل ما ذكره إلى قائله, سواء كان شاعرًا أو صانع لحن، ويذكر ما يتعلق به من طريقة إيقاعه وغيرها، وهذا الكتاب كما ترى أُدرج فيه كل شعر يصلح للغناء واللحن والصوت، وأشعار المتنبي ليس فيها-برأينا- شيء يصلح لذلك، وصنيع الأصفهاني هذا يذكرني بصنيع البخاري، فقد خلا كتابه من ذكر أحاديث مسندة للإمام المطلبي –الشافعي-  طلبًا لعلو الإسناد!

 أما الحاتمي  (ت ٣٨٨ هـ ) ، فله ” الرسالة الحاتمية “، وهي مطبوعة بعنوان :” الرسالة الموضحة في ذكر سرقات المتنبي وساقط شعره”، وقد صرح في مقدمتها”ص 2″ بالباعث على تأليفها، قال: لما تثاقل أبو الطيب عن خدمته- يقصد الوزير المهلبي- ولم يوفق لاستمطار كفه وكانت واكفة ال…

أما ابن الجوزي فقد قدح فيه وفي شيخه محمد بن عبد الواحد أبو عمر اللغوي الزاهد، فقال: إنه غلام ثعلب، وذكر أن تلميذه الحاتمي، يسايره في كذبه، وضرب مثلاً لذلك.”أنظر : “د محمد بن عبد الرحمن البشر” أما الإمام السيوطي،فقد نقل عن ياقوت- بغية الوعاة “1 / 87 “-  قوله في الحاتمي:” وَكَانَ مبغضاً إِلَى أهل الْعلم”.وفي كتاب المزهر”2 / 416 ” قال:” وزعم ‌الحاتمي أن النابغةَ سُئِل: من أشعر الناس فقال: من استُجيد جيده، وأضحك رديه (وهذا كلام يستحيل مثله عن النابغة، لأنه إذا أضحك رَدِيّه) كان من سفلة الشعراء إلا أن يكون ذلك في الهجاء خاصة”.وإذا استحال مثل هذا الكلام عن النابغة فإنه بلا شك من وضع الحاتمي، هذا ما يريد أن يقوله لنا السيوطي.فهذه شهادات ثلاث من علماء ثلاثة يشهدون فيها على الحاتمي بالكذب، أما نحن فلا نزيد على قول الشاعر:

 كل العداوة قد يرجى براءتها

                  إلاَّ عداوة من عاداك عن حسد

. أما ابن وَكِيع التِّنِّيسي (ت ٣٩٣ هـ ) وكتابه “المنصف في سرقات المتنبي”، فلنا معه وقفة قصيرة، فبالرغم مما يمثله الكتاب من مادة نقدية خالدة، غنية بالذوق العربي، وزاخرة بالنقد الأدبي ، وفيها رسمٌ لملامح  الحضارة العربية؛ العلمية والمعرفية في عصر المتنبي، إلا إن الكتاب تَشَم فيه الظلم والحيف، وتلمس فيه الهزل والسخف، ومسلكه على العموم غير مرضي، تأنف منه النفوس السليمة، وتستنكره الطباع الكريمة، وقد رد قوله عدد من النقاد المحققين أمثال:الجرجاني في الوساطة، وابن رشيق في العمدة، وابن أبي طاهر، ورأوا فيه منهجاً قاصراً جامدا! ولعل الذي حدا بالنقاد المحققين أمثال الجرجاني وابن رشيق وابن طاهر رد قول التنيسي هو اعتماده على ذوقه الخاص في نقد شعر المتنبي، ولم يعتمد على أقوال السابقين من النقاد، كما صنع غيره من المؤلفين، وإنما أجال نظره، وأعمل فكره، وأدار عقله في شعاب شعره، ثم عبر عن مشاعره وآرائه وأحاسيسه وأفكاره!

والشعر ظهر طريق أنت راكبه

                 فمنه منشعبٌ، أو غير منشعبِ

وربما ضم بين الركب منهجه

             وألصق الطُّنُبَ العالي على الطنب

أما  العميدي صاحب كتاب “الإبانة عن سرقات المتنبي” فقد قال في المقدمة – ص 22-25 ” وإني لأعجب والله من جماعة يغلون في ذكر المتنبي وأمره، ويدّعون الإعجاز في شعره، ويزعمون أن الأبياتَ المعروفةَ له هو مبتدعها ومخترعها ومُحْدِثها ومفترعها، لم يَسبق إلى معناها شاعر، ولم ينطق بأمثالها باد ولا حاضر.. وأنا بمشيئة الله تعالى وإذنه أورد ما عندي من أبيات أخذ ألفاظها ومعانيها، وأدّعى الإعجاز لنفسه فيها؛ لتشهد بلؤم طبعه في إنكاره فضيلة السابقين، وتَسِمَه فيما نهبه من أشعارهم بِسِمَة السارقين، ومن عند الله المعونة “.

وقد علق الشيخ يوسف البديعي صاحب كتاب “الصبح المنبي” 1 / 256 ” على صنيع العميدي هذا بقوله : وكان الشيخ أبو سعد محمد بن أحمد العميدي عن أبي الطيب في غاية الانحراف، حائدًا في التمييز عن سنن الإنصاف، ونحن نورد كلامه، ونرد في نحره سهامه،… سعَىَ جُهْدَه لَكنْ تجاوزَ حَدَّه … وأكثر فارتابت ولو شاءَ قَلَّلَا

أما اتهامات العميدي فمرجعها إلى أمرين: أولهما : أن كل بيت شابه فيه المتنبي غيره من الشعراء فإنه نوع من توارد الخواطر وثانيهما: المعاني التي طرقها المتنبي هي معان مشتركة بين الشعراء. على أنه كساها روعة وبيانًا، وزانها من إبداعه وابتكاره، ما حفظ شعره، وأنسى الناس أشعار سابقيه..

أما  الصاحب ابن عباد فإنه لم يرض حتى شانه بالمداد، وسطر في ثلبه صفحات عداد ، وجمعها في كتاب مليء بالأحقاد، سماه:          ” الكشف عن مساوي شعر المتنبي”، والناظر في كتاب الصاحب ، فإننا لا نتكلف البحث عن سبب ذلك، فقد كفانا ذلك العلامة أبو منصور الثعالبي (ت ٤٢٩هـ) ،وهو -على كل حال- لا يعد من أنصار المتنبي ، فقد اشتهر عنه قوله فيه :” كان كثير التفاوت في شعره فيجمع بين الدرة والآجُرَّة، ويتبع الفقرة الغراء بالكلمة العوراء” . وترجع جلُّ المصادر الأدبية سبب تأليف الصاحب لهذه الرسالة إلى أن الصاحب ‌طمع ‌في ‌زيارة المتنبي إياه بأصبهان، وإجرائه مجرى مقصوديه من رؤساء الزمان، إذ ذاك شاب وحاله حويلة، ولم يكن استوزر بعد، وكتب إليه يلاطفه في استدعاء، وتضمن له مشاطرته جميع ماله، فلم يقم له المتنبي وزنا، ولم يجبه عن كتابه ولا إلى مراده، …. واتخذه الصاحب غرضا يرشقه بسهام الوقيعة، ويتتبع عليه سقطاته في شعره وهفواته، وينعى عليه سيئاته، وهو أعرف الناس بحسناته، وأحفظهم لها، وأكثرهم استعمالا إياها وتمثلا بها في محاضراته ومكاتباته”. وقال أيضا :” ” وقد أٌلّفـت الكتب في تفسيره ، وحل مشكله وعويصة ، وكثرت الدفاتر على ذكر جيده ، ورديئـة وتكلم الأفاضل في الوساطة بينه وبين خصومه ، والإفصاح عن أبكار كلامه وعونـه، وتفرقوا في مدحه والقدح فيه والنفح عنه ، والتعصب له ، أوعليه  “

وأريدك أن تنظر معي إلى قول الثعالبي :” فلم يقم له المتنبي وزنا”، وقوله عن الصاحب :      “أعرف الناس بحسناته” فإن العبارة الأولى تبين سبب غضب الصاحب على المتنبي، وأما الثانية فإنها تظهر إعجاب الصاحب بالمتنبي حتى يحمله ذلك الإعجاب على تأليف كتاب “الأمثال السائرة من شعر المتنبي”. للمتنبي، وهو يقصد تأليفه كتاب “.أما قوله: “واتخذه الصاحب غرضا يرشقه بسهام الوقيعة، ويتتبع عليه سقطاته في شعره وهفواته، وينعى عليه سيئاته”فذلك تأليفه كتابه :” الكشف عن مساويء شعر المتنبي”.

تقييم النص

يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد ! كن أول المعلقين !

التعليقات

إدراج الإقتباسات...