المنظور واللا منظور في أقوال عصفور من بلور/ قراءة في نص (الحارس) للشاعر الكبير عبدالستار نور علي

المنظور واللا منظور في أقوال عصفور من بلور/ قراءة في نص (الحارس) للشاعر الكبير عبدالستار نور علي


 (خلف بحار الشوق والحنين، مدينة تعج بالأطفال والزهور) عبد الستار نور علي .

ان تغوص في البحر، لا يعني انك امتلكت كنوزه، ان تغوص في البحر يعني: ستبهرك جواهره وأسرار جمال اعماقه. هكذا هو حالي، وأنا أغوص في بحر حياة (عبدالستار نور علي) وبحر إبداعه الأدبي والثقافي. هذا الطود الشامخ الذي يتعثر قلمي حين اكتب كلمة (عبد)، حين اكتب أو أتلفظ اسمه، أحس ان الاسم يتشظى، اشعر ان ليس هناك ما هو ابغض من العبودية إلى نفس أديبنا الكبير، عاشق الحرية، ورافع لواء محاربة القهر والذل والقبح والحرمان. هذا الوطني العراقي، هذا الإنسان العراقي الذي ولد في العراق، هذا الذي شب وشاب في العراق، هذا الذي ارتدى نخل العراق.

صرْنا محطاتٍ، حقائبَ

تسمياتٍ في جوازاتٍ مزورةٍ

خلعنا كلَّ شيءٍ غيرَ اسمِكَ، مِنْ أينَ جئْتَ؟ 

منَ العراق

وأينَ شِبْتَ؟

في العراق

وأيّ ثوبٍ ترتدي؟

نخلَ العراق

من الصعوبة حقا ان نسال : من هو (عبد) الستار نور علي ؟

 (ولد عبدالستار نور علي في منطقة باب الشيخ ببغداد، عام 1942. اهتماماته الأدبية بدأت تظهر في مرحلة الدراسة الابتدائية، وكان يحرص على قراءة قصص الأطفال والمجلات التي كانت توفرها مكتبة المدرسة، ثم تطورت قراءاته في المرحلة المتوسطة، فشملت كتبا أدبية لكتاب عرب وأجانب. 

 انتقل بعدها لدراسة الأدب العربي في كلية الآداب بجامعة بغداد قسم اللغة العربية، التي تخرج منها عام 1964. بعد التخرج، عمل في الحلة حتى العام 1967، وبعدها في بغداد، مدرساً للغة العربية، ومديراً في عدد من المدارس الإعدادية والثانوية. ويؤكد الشاعر عبدالستار نور علي أن فترة التدريس في الحلة كانت محطة هامة جدا في تطور قراءاته وبداية نشره لنتاجاته الشعرية. خلال سبعينيات القرن الماضي، انطلق في النشر بمختلف الصحف والمجلات العراقية والعربية، وقبل ذلك أذيعت له أول قصيدة عام 1965 ضمن برنامج (براعم على الطريق) الذي كانت تقدمه سائدة الأسمر من إذاعة بغداد. أحيل على التقاعد عام 1989، ليواصل نشر كتاباته الشعرية والنثرية والنقدية في الصحف والمجلات العراقية والعربية. 

 اواخر عام 1991، هاجر من العراق مع عائلته إلى أوربا، ومنذ آب 1992 يقيم في السويد. عمل مترجماً، ومؤسساً لصحيفة (مونديال) التي كانت تصدر باللغات السويدية والعربية والكردية والاسبانية بمركز أنشطة الكومبيوتر في مدينة اسكلستونا، حيث يقيم. 

رغم إنتاجه الغزير في العراق، لم يُطبع له هناك أي كتاب أو ديوان شعري. لكن الدولة في السويد طبعت له ستة كتب. كما اخرج العراقي زهير عبد المسيح، لحساب تلفزيون مدينة إسكلستونا، حيث يقيم، فلما قصيرا عن حياته.

 أصدر في السويد مجموعتين شعريتين، الأولى تحمل عنوان (على أثير الجليد) باللغتين العربية والسويدية، والثانية (في جوف الليل)، كما أصدر (شعراء سويديون) الذي يتضمن دراسات ونصوصا عن ابرز شعراء السويد في القرن العشرين. نشر في صحيفة (Folket) السويدية قصائد ومقالات، وشارك في عدد من المهرجانات الثقافية السويدية. وترجم مسرحية شعرية للشاعر السويدي (أبه لينده ) حملت عنوان (جلجامش)، ونشر كتاب (باب الشيخ) الذي يضم مجموعة مقالات نقدية وأدبية ودراسات، ومقالا عن المنطقة التي ولد فيها وما زال يتذكرها ويعشقها.

 يقول الشاعر والكاتب عبدالستار نور علي : ان لديه حاليا 8 كتب جاهزة للطبع، تضم القصائد التي كتبها الشاعر خلال السنوات الأخيرة في السويد. وكتاب (الكرد الفيليون... تاريخ ومعاناة)، إضافة إلى كتب أخرى تجمع ما كتبه الشاعر في مختلف القضايا التي تهم الإنسان العراقي، سواء كان داخل العراق أو خارجه.

 ويعزو شاعرنا غزارة إنتاجه إلى جو الحرية والديمقراطية في السويد الذي يضمن حرية التعبير والكتابة والنشر للجميع دون رقابة، شرط عدم التعدي على حقوق وحريات الآخرين. ولأن الكتابة بالنسبة إلى عبدالستار نور علي هي الزاد والماء والهواء، كما يقول إنه : (بدون القراءة والكتابة لا نستطيع فهم الحياة)، ويؤكد انه (سيظل يواصل الكتابة ما دام فيه عرق ينبض على حد تعبيره)1 

 فماذا يريد ؟ وإلى أي سماء يروم الصعود ؟ وأي منار هذا الذي يقول :

يا أيها القلبُ الذي ما نامَ

منْ كثرة الترحالِ... والتجوالِ 

والتهجيرْ! 

ما تبتغي منْ بعد هذا البردِ والهجيرْ؟. 

 هذا الذي قرر ان لا يفارق قوافل الحب والنور والتضحية والفداء، قوافل حملة مشاعل النور والحب والسلام، قوافل من وضعوا أرواحهم على اكفهم وقاوموا قوى القبح والاستغلال والضلال، قوافل الذين ذاقوا مرارة القتل والتعذيب والقهر والتجويع والتشريد، قوافل الذين يحلمون ب(وطن حر وشعب سعيد)، قوافل الحالمين بعالم آمن مسالم مرفه، وإنسان حر كريم في كل أرجاء المعمورة. هذا السائر مع قوافل العطاء مفتوح العينين، محترز، منبه رفاق الطريق من غدر الثعالب، ووحشية الذئاب التي تتربص بهم الدوائر وتعد لهم المكائد والمصائد (فانتبهوا). وهو المتحسب المتفائل ب (غد آت، قناديل، وزهور) :

 

سرْتُ مع القوافلِ حادياً :

الحبُّ في العينينِ جمرٌ، فاستفيقوا !

غفلةُ الثعلبِ والذئبِ انتظارُ ساعةَ الحسمِ

تخطُّ مخالبُ الدمِ في لحومِ الطيرِ، 

فانتبهوا !

غدٌ آتٍ، قناديلٌ، زهورٌ، 

ونسائمُ منْ عطورِ الوردةِ الحمراءِ تختالُ

على وقعِ خطى العشاقِ ينتظرونَ، 

هذي وردةٌ حمراءُ ترفلُ بالربيعِ الفائحِ الأشذاءِ

محمولاً على كتفِ الشبيبةِ...

الجمعة 30 مارس/آذار 2012). 

 1. هذا الذي عبر بحار القهر والاستبداد في ارض السواد، هذا الذي عبر بحور الغربة والعوز والتشرد، هذا الطري الندي الشفاف الذي لم تستطع ان تقهره دياجير الظلام، هذا الذي ظل يحمل وطنه وآمال شعبه في حدقات عيونه ولم تلهه أنوار عالم الغربة وسحر الغرب ومغرياته. 

 (يستطيع مجتمع من المجتمعات، تماما كما يستطيع فرد معين، ان يسمو فوق أزمته، أن يمر بضائقة وفقر وأزمة اقتصادية من دون ان يفقد مثله وايمانه وحماسته وقوة اندفاعه، بل قد يتخذ من مناخ الأزمة عاملا رئيسيا لتجاوزها ومقاومتها والتغلب عليها).

2. عبدالستار نور علي لم يفقد إيمانه بمبادئه مبادئ الحق والعدل والجمال، ظل يعتصر نسغ شبابه، وهيبة شيبه من اجل عالم أفضل، ولم يفقد الأمل ولم يركن للصمت أو الكسل، وهو القائل رغم الأهوال والأقوال والكوارث : (لم افقد الأمل في انتصار الأمل، فلا يزال الفارس ممتطيا صهوة روحه وقلبه وحرفه طائرا في السحاب، باحثا دون هوادة عما ينير ). وكأنه ينشد مع ناظم حكمت (قريبا نقبض على الشمس). 

 هذا الغريد، هذا الحكيم، هذا البليغ، هذا الذي أهدى الانسانية أجمل وأروع جواهر الأدب شعرا ونثرا، هذا الذي شهد له أعلام الشرق والغرب شاعرا، وليس أي شاعر، شاعر تتداخل أمام ناظري صورته بالشعراء الكبار (ناظم حكمت وبابلو نيرودا وايلوار ومظفر النواب... ). 

 يعطينا درسا بليغا رائعا في التواضع وسمو الروح فيقول : (أنا مغرم بالشعر لست بشاعر، حتى وان غنى الكلام ندائي ). نموذج آخر من نماذج الكبار روحا وفنا وتواضعا، فقد كان ناظم حكمت يوقع بعبارة (الجاهل الكبير )!!

 بعد هذه المقدمة الموجزة المتواضعة عن هذا العلم الكبير والشاعر القدير، والثائر الذي لا يهدأ، وقبس النور الذي لا يذوي نوره، ولا يجف نبعه الإبداعي العذب، والبحر مترامي الأطراف، مستودع الدرر والجواهر وحامل الأسرار. سنحاول ان نلقي نور مصباحنا المتواضع على احد روائع شاعرنا الكبير (عبدالستار نور علي). ولا شك إننا لا نرى إنها أفضل وأكمل وأروع (الجواهر) ولكنها إحداها، حكمنا زمن نشرها في شهر أيار، لتكون النص المختار، لتسليط نور النقد عليه من بين النصوص الشعرية الأخرى المنشورة في (المثقف) بتاريخ (6 مايو 2012) الا وهي قصيدة (الحـــــــــــــارس). 

 الحارس: مهنة استحدثها الإنسان بعد ان أصبحت له حيازة خاصة، ربما يستهدفها طامع من داخل المجموعة أو خارجها، سواء في المدينة أو الريف، أو بين القبائل البدائية في بدايات التطور البشري. هذا الحارس ليس بالضرورة يحرس (حقا) مكتسبا نتيجة التقسيم بين أفراد المجتمع وظهور الملكية الخاصة، بل حراسة مقتنياته وممتلكاته وغنائمه المغتصبة من الآخرين. هذا الاحتراس الذي رافقته الأقفال، والقلاع، والاسيجة حتى عصرنا الحاضر، حيث تم ابتكار وصنع وتهيئة أسلحة ووسائل رهيبة ليتسلح بها هذا الحارس الذي لا يريد ان يستريح ويريح، فصار سحرا مخيفا، انقلب على الساحر، ولابد من أبطاله بنور شمس الحرية والعدالة والمساواة بين البشر، بغض النظر عن اللون والعرق والجنس والقومية والدين. 

 في عصرنا الراهن، عصر الحكام الديكتاتورين والمستبدين، واستحواذهم على الثروة والجاه، مما يتطلب تجييش الجيوش والعسس والحراسات من اجل قهر أي صوت حق أو معارضة لنظام غاشم. هذا هو عنوان نص الشاعر الكبير، حيث أوقفه حارس السلطة، ليس في مكان عام أو خاص بالسلطان، وإنما وصلت الوقاحة ان يستوقفه في باب بيته ومحل أمنه وسكنه وسكونه، المفترض ان تكون لها قدسية خاصة، ولكن هذا الحارس الوقح تابع السلطان المتجبر يسائله مغتاظا، فتأتي إجابته معبرة عن جمال روحه وشفافيته وبراءته، ألا وهي جمالية وسلمية عصفور، وأي عصفور انه عصفور من بلور، لا تعرف أعماقه العتمة، بل يسبح خلال جسده وروحه النور بسرور وحرية، هذه هي روح المواطن الإنسان الطيب المسالم، هذه هي روح الإنسان المناضل الحالم بالأمان والسعادة، هذا الشفاف الجميل هذا الذي (ضيع في الأوهام عمره) !!!!. لاشك ان هذه (الأوهام) هي حلم الإنسان بالحرية والأمان والكرامة في بيته في وطنه في عالمه الفسيح. 

 هذا الذي امضي عمره بين صدوع الصخر وقساوته، والزهر البري الأبيض دلالة النقاء والطيبة والطهارة، وهو يستنشق قطرات الفجر الأولى، قطرات الوعي الأولى، قطرات النضج الأولى، قطرات التساؤل الوجودي الأولى، ليس من الوهم، وليس من عالم مفارق، بل من واقع ارضي معاش (من أفواه الأرض...) أمه وحاضنته الأولى. 

 أنا الذي كنت العمر المطحون، العمر المقهور، العمر المهدور برحى الزمن الرديء القهار، زمن القتلة والطغاة، زمن الحروب العبثية، الحروب العلنية المشتعلة تحت أسباب واهية كاذبة، سواء باسم العزة الوطنية أو القومية أو محاربة عدو خارجي متخادم مع الحاكم لقهر واستغلال المحكوم، وهنا يتشظى المعنى قذائف حارقة تدك حصون الطغاة وزيف ادعاءاتهم وتبريراتهم للحروب باسم الوطن والمواطن الذي يذبح ويهان ويعذب في أقبية الحكام السرية، ولكنه لم يهن ولم يضعف ولم يستسلم، ها هو الإنسان المناضل، ها هم أحرار العراق عند مقاومتهم للفاشية وقوى القهر في الماضي والحاضر، وكأنهم يرددون مع الشاعر الكبير ناظم حكمت قوله مخاطبا جلاده :

( أنا الّذي أحملُ في رسغي الطوقَ الحديديّ

وكأنّه سوارٌ من ذهب، 

وأتطلّعُ إلى حبلِ المشنقةِ

دونَ أنْ يهتزَّ جفني، 

المكبوت المقهور نعلي ؟ ). 

 وهو الصوت المخنوق المكبوت المقهور المصادر حقه في الاعتراض، عبر كلماته البيضاء التي تنشد السلام والحب والعدل، هذه الكلمات المسحوقة المطحونة (برحى الأوراق الصفراء)، أوراق الموت والتخلف المتواري بين قبور دارسة، وعيون الرقابة السرية في كل مكان في الشارع والبيت وأجهزة التنصت، حتى في غرف النوم وجدران الأبنية، حيث شاع بين الناس قول الاحتراز والخوف من رقابة السلطات، ان على الإنسان ان لا يتكلم حتى أمام الجدار لان (للحيطان أذان ) تسمع وعيون ترى. 

 وهذا ليس في ساحات اللعب والنزهة، بل (في ساحات القضبان)، لم يقف المطرب أو العازف أو الممثل أو الشاعر الجميل، بل (يقف السجان بآلاف الإقفال)، دلالة على آلاف الزنازين المقفلة على الإنسان، هذا السجان ذو اللسان الوقح الذي يُصْلي ضحاياه بكلام مزيف عن مجد مزيف وتاريخ مزيف بدعوى العصر الذهبي.

هذا الزيف المنهزم والمندحر أمام عدو شبهه بنمر ورقي سيتداعى بنفخة من السلطان والقائد التاريخي، قول نمر الورق الذي طغى على الشارع الصيني أيام ثورة ماو الثقافية وادعاءه : ان الامبريالية نمر من ورق، سيحرقها التنين الأحمر!، أي نمر هذا الذي استطاع ان يمزق بوحشية العلم الأحمر في بلدان المعسكر (الاشتراكي) ولازال يفتك بشعوب العالم ويسلب وينهب ثروات البلدان من دون رحمة. 

 هذا الإنسان المغلوب على أمره وسط غابة من الشعارات، وليست غابة مثمرة منتجة من مشاعر إنسانية واقعية. هذا هو واقع حال الحرب الايدولوجية الزائفة أيام الحرب الباردة، كما أسموها، بين القطبيين الرئيسيين في العالم : المعسكر (الاشتراكي) بقيادة الاتحاد السوفيتي السابق، والمعسكر الرأسمالي بقيادة أمريكا. هنا الحارس يصاب بالذهول مما يسمعه من شعارات العداء والتآمر والقتل والتزييف التي كانت ضحيتها سعادة ورفاه الإنسان وأمنه والتلاعب بمشاعره والمتاجرة بأحلامه، القطب الهائج المتوحش المستفز و(قطبنا ) في العالم الثالث التابع العائد للبيان الأول، بيان رقم واحد، للانقلابات العسكرية الدامية التي أغرقت شعوبها في بحار الشعارات الملطخة بدماء ضحاياها الأبرياء. هذه البيانات المزيفة التي تدعي الانتصار والغلبة، وتغطي على هزائمها المنكرة. في ظل هذا الواقع المنهزم المنكسر المزيف يتقهقر الحارس إلى كهوف وقبور الماضي السحيق ليعيش على ماض زاهر لأجداده وأجداد أجداده : (القعقاع) و( نبوخذنصر)... الخ، في أوطان بلا مواطنين، بل في بلدان يحكمها السادة الرؤساء والأمراء والملوك، وعبيد ليس لهم إلا الطاعة وتنفيذ أمر السيد، (مواطنون بلا وطن ). 

 ينتقل الشاعر المبدع، والثائر الغاضب إلى الساحة العالمية ليبين دور المثقف العضوي والشاعر الثائر، ممثلا بالشاعر الداغستاني (رسول حمزاتوف)، الذي حاول ان يحرس بوابات وطنه، داغستان، بقصائده الرائعة المستمدة من واقع وتراث شعبه المكافح، صاحب مروج المعرفة الخضراء، وتحت ظلال أشجار مثمرة مزهرة، وتراث أسطوري ثوري لشعبه النبيل، حين حاول ان يدافع عن مكاسب شعبه ووطنه (الاشتراكي) التي تحققت بدماء أبناءه وتضحيات الشعب السوفيتي الجبارة، اصطادته يد العمالة والردة والخسة من أدعياء الحرية والديمقراطية المدفوعة من قبل قوى الشر والاستغلال الرأسمالي البشع، مجسدة في الخائن والمنهزم (غورباتشوف) ورصاص (يلسن) رمز الخنوع والعمالة المتقنع بقناع الإصلاح والحرية والديمقراطية الزائفة. 

 هنا يوضح الشاعر موقفه، معلنا رأيه وموقفه على الملأ من أصناف وأنواع الحراس، فهو يكره حراس الدولة العبرية، وحراس شوارع بغداد المنفلتة، وحراس أنفاق أورشليم وحراس جدران الفصل. وهو بذلك لا يدعو للفوضى وعدم الانضباط والتسيب أو إلى (الفوضى الخلاقة )، فهو يحب الحارس الذي يحرس أحلام الإنسان وأمانه وأمنه وسعادته، الحارس الذي يحمي الإنسان من وحشية أخيه الإنسان ومن عصابات الاستغلال والسلب والقتل. وهو يحب الحارس، جيفارا، وهوشي منه، وعبد الكريم قاسم مفجر الرابع عشر من تموز ومحب فقراء العراق ومحبوبهم الذي اغتالته قوى (8 شباط 1963) البعثي القوماني الأسود. كذلك فان شاعرنا النبيل الواعي، المنحاز للإنسان وحريته وتحرره، كان يحب رموزا للثورة الفلسطينية، عرفات، وحواتمه، وجورج حبش، ولكنه يقف مستغربا مستفهما مستنكرا ان يتحول هؤلاء الحراس إلى سجانين ومسجونين لبعضهم البعض بين القضبان العمياء غير الواعية، المنقادة لذيول الديناصورات المنقرضة من الرجعيات وقوى التخلف العربي والإسلامي. هذا هو حال (فتح وحماس) في فلسطين الحبيبة. 

 كما انه يمر بحالة اللايقين في موقفه مما يجري في الصين (الشيوعية) بين حب هذا الشعب ومنجزاته والسمة العامة لنظام حكمه، ولكنه يرفض الممارسات التي تقمع حرية الرأي للإنسان، ويرفض مغازلة قوى الاستغلال العالمي، أو تمثل خططه وأساليب إدارته للبلدان. 

 كما انه يغلق الأبواب أمام أي سؤال عن أدعياء حراس البوابة الشرقية، التي كانت ممثلة بنظام صدام وسلطته، وكذا أدعياء حراس البوابة الغربية أو الوسطى وحارس إفريقيا الممثل بالقذافي المهووس. انهم جميعا وصف واحد لانكسارات الأنظمة العربية وانهزامها وعارها في الخامس من حزيران 1967.

محطات العصفور البلوري :

 بألم بالغ، ووجع صارخ، يقول : انه عاشق الندى، ومرتشف قياسات الوعي من أمه الأرض، أي من مرارة واقعه المعاش بين شقوق الصخر القاسي وبين الزهر البري الأبيض، هذا الذي ضيع عمره يحلم ب(أوهام) الوعود، هذا الذي عاش عسف وقهر السلطات الظالمة، ورقابة عسسها وحراسها وسجانيها وسط غابات من الشعارات الزائفة والادعاء بماضي مندثر لتبرير حاضر مر. ثم يرسم لنا صورة عالم الحكام التابعين في القرن العشرين وهم يتراجعون إلى ماض سحيق إلى الماضي وقبل الماضي. ويعرج على حال قوى الثورة الاشتراكية، حلم الإنسان المقهور، الذي اغتاله الكذابون وأدعياء الحرية والديمقراطية (غورباتشوف ويلسين)، حين اصطادوا الشاعر المثقف الواعي، ممثل روح الشعب وتراثه الإنساني الجميل، مجسدا ب(رسول حمزاتوف). يذكرنا بمجموعة (داغستان بلدي) الشهيرة لهذا الشاعر الكبير لسان حال العدل والحب والسلام والجمال. 

 يبرز الشاعر الثائر هويته، يوضح للمتلقي ما يحب ولا يحب من الحراس، ممثلة برموز هؤلاء الحراس وتوجهاتهم. يحب حارس العدل والحرية والسلام والتضامن بين الشعوب مجسدة ب(جيفارا ورفاقه)، ويكره حراس الحرب والاستبداد والقبح والهزيمة حراس (البوابة الشرقية) وحراس (هزائم الخامس من حزيران) وحراس (ملك ملوك إفريقيا)..الخ.

بساطة الأسلوب وعمق الدلالة:-

 شاعرنا الكبير لم ينجر وراء مودة عصر (العولمة) أو ما بعد الحداثة، حيث يتوجب ان يكون النص غامضا ملتويا، مقنع بأقنعة التخفي والتنكر، عصي على الفهم من قبل المتلقي الذي يفترض ان يكون شريكا في المتعة وقراءة الرسالة المرسلة إليه، قادرا على فك رموزها وشفراتها، وليس بحاجة لهيئة من علماء التأويل والتحليل لحل طلاسم النص وإيضاح معناه. 

 هذا المنهج والأسلوب، غالبا ما يكون هو اسلوب ومنهج الأدباء والشعراء، حملة رسائل الجمال والحث والإيحاء، أي اسلوب الشاعر الإنسان صاحب قضية تتبنى أحلام أخيه الإنسان، ويسعى من اجل ان تكون الحياة أجمل وأفضل، من أمثال (نيرودا، ولوركا وناظم حكمت والنواب...)، وكما يقول الشاعر المبدع عبدالستار نور علي في مقابلة له أجراها معه ميادة أبو شنب وجلال جاف، في موقع المثقف، حول بساطة كلماته ومباشرتها : (ان المباشرة في النصوص ليست نقصا أو عيبا فنيا إذا أتقن الشاعر صياغتها بشكل فني راق يدخل نفس المتلقي بسلاسة وانسياب). ولاشك ان شاعرنا الكبير هو صائغ ماهر للكلمات وللمعاني المبهرة الساحرة دون تعقيد، وهذه إحدى الميزات الإبداعية المشهود له بها من قبل العديد من النقاد والأدباء والشعراء الذين يقرؤون لعبدالستار نور علي. انه صانع ماهر وليس متذوق رفيع الذوق فقط للمظاهر ومخابر صور وإيحاءات الجمال. (الأديب ليس مجرد شخص متذوق لموسيقى الكلام، بل هو فوق ذلك -وأهم من ذلك - شخص يصنع موسيقى الكلام )

3. كذلك تتميز نصوص نور علي بعدم التكلف بل اصطياد السهل الممتنع، ومحاكاة انسياب سواقي الماء النقي العذب وانعكاسات نور الشمس وضياء القمر على مويجاتها المتهادية صوب النماء والخصوبة والجمال، تمنح نفسها بممانعة جميلة شهية للطيور وللزهور وللإنسان : الإنسان العامل المحب المنتج عاشق الجمال واسع الخيال، انه نبع جمال وسحر متدفق بلا قيود ولا سدود، حيث يقول : (إني أرى ان الإبداع الشعري هو ان تترك خزينك المتراكم، تجربة وحسا وخيالا ولغة ومؤثرات، يفرغ ما في داخله) 

وكأني اسمع ناظم حكمت وهو يقول :

( كأجملِ أصواتِ الدّنيا

ولسماعِ أجملِ أغنيةٍ

إنّما الأملُ وحدهُ لمْ يعُدْ يكفيني، 

أنا لا أريدُ، بعدَ، سماعي الأغاني، 

أريدُ أنْ أُغنّيَ الأغاني )

 هاهو عبدالستار نور علي لم يكتفِ بسماع الأغاني بل غنى أجمل الأغاني وارقها، بصوت ساحر جميل، صوت كلماته وإشعاره الرائعة. لم يستورد مفرداته ولم يستدعيها من كهوف الماضي المندثر، بل تعامل بذكاء وفطنة وعمق مع لغة عصره وبيئته ومجتمعه، فنفخ فيها دفقة حياة جديدة متجددة، والبسها سحر بيان وقوة وجمال كيان نص أدبي ممتع ومعبر. (ان الأدب هو صورة معبرة تعبيرا حقيقيا عن المجتمع الذي يحيا فيه الأديب والذي تربى في أحضانه منذ نعومة أظفاره وقد تفاعل مع مقوماته المتباينة، ولاشك ان أداة التعبير الأدبي - اعني اللغة المنطوقة واللغة المكتوبة -هي أداة اجتماعية أولا وقبل كل شيء ).

4. الشاعر الكبير نور علي صاحب حس إنساني غاية في الرقة، غاية في الحساسية، شاهد حي على واقع عصره، شاهد على عذابات وقهر ومأساة أبناء جنسه من البشر في العالم الأول والعالم الثاني، مأساة وقهر أبناء وطنه في العراق وعموم بلدان العالم العربي والإسلامي وبلدان ما يسمى بالعالم الثالث، فقرر ان يمنح روحه للجمال ويقاتل القبح في كل مكان، قرر ان ينتصر للمظلومين والفقراء والمشردين، قرر ان ينتصر للطفولة والكهولة، ان ينتصر للام والأخت والحبيبة المسلوبة الحرية والكرامة، فأنى له ان يكون إلا ثوريا متمردا على هذا الواقع المؤلم، وكيف له إلا ان يصطف إلى جانب قوى التغيير والثورة، وهو الذي يحس ويشهد : (الفرح غائب أو مغتال والعدل مخنوق والحب لغة الجسد لا الروح، والظلم سائد يمسك بخناق البشرية ). 

 وفي الوقت الذي حلق شاعرنا الكبير في عالم الشرق والغرب، وتفاعل مع فنون وآداب العالم المتطور، وأبدع في تذوق جمالها وأساليبها، عاش في بلدان الثلج والضباب، ولكنه ظل وفيا لوطنه ولبيئته ولمحليته المغروسة صورها، الجميل والمؤلم منها، المضيء والمظلم في مخيلته الواعية وغير الواعية، مصاغة بشكل فني باهر، وبشكل رموز ودلالة مبهرة في اغلب نصوصه الأدبية (نتصور الأديب وقد نظر إلى المجتمع من خلال دوائر متباينة الاتساع، بينما يكون هو في مركز تلك الدوائر جميعا، فثمة اقرب دائرة له هي دائرة المجتمع المحلي، وثمة دائرة أوسع منها هي دائرة الوطن الذي ينتسب إليه، وثمة دائرة انتمائية أوسع نطاقا تتعلق بلغته أو دينه ).

5 . قال الشاعر البولندي ادم ميسكيدفتش : (ليت بوسعي ان اصب في قلوب سامعي النيران التي تلهب فؤادي ). وان لم يستطع (ادم) ان يصب في قلوب سامعيه النيران التي تلهب فؤاده، فقد تمكن ان يصب تلك النيران في قلوبنا شاعرنا الكبير عبدالستار نور علي، بقدرته الساحرة على استثارة العاطفة الانسانية واستفزاز الضمير الإنساني النائم، وتجسيد صورة معاناة أخيه الإنسان وآلامه. 

 كما قلنا في مقدمة إطلالتنا المتواضعة هذه، ومحاولة الغوص في بحر إبداع الشاعر الكبير بعدة غوص بسيطة ومتواضعة، حاولنا ان نجد ونجتهد وفق إمكانياتنا في الكشف والتأويل والتحليل جمالية وسحر إحدى جواهره : (الحارس)، من حيث الأسلوب وحنكة الصياغة ووحدة الموضوع، والمفردة الرشيقة الممتلئة بمعناها والفَرِحة بموقعها في النص، كذلك حاولنا ان نسلط الضوء على معنى ومضمون النص ومحاولة إيضاح ما هو مستتر، المتغنج سحرا عن إعطاء دلالته ومعناه بسهولة ؛ ليوفر للقارئ والناقد متعة التفكر والمشاركة في صنع المعنى، باعتبار القارئ الناقد يصنع نصا موازيا للنص الأصلي، ولكل قارئ وناقد نصه الخاص به، مع بقاء سدى النص الأصل مشتركا بين الجميع، يسرنا ان نشارك الناقد والمفكر الكبير غولدمان في دور القارئ الناقد قوله : (صار دور القراءة النقدية " هو العثور على الطريق التي من خلالها عبر الواقع التاريخي والاجتماعي عن نفسه من خلال الحساسية الفردية للمبدع داخل العمل الأدبي أو الفني الذي نحن بصدد دراسته " ). ٦ فخلصنا إلى ان الواقع التاريخي والاجتماعي الذي عاشه المبدع الكبير، مجسدا بشكل رائع ومبهر في نصوصه الأدبية والشعرية، ومن خلال نص (الحارس) موضع الدراسة. نستطيع القول ان الشاعر الكبير كان فطنا، حساسا متحسسا بقدرة كبيرة لما يدور حوله في بيئته ومجتمعه، انه المنحاز دوما للجمال، ومن ينحاز للجمال ينحاز إلى أجمل القيم الانسانية التي تقودها لبناء عالمها الحر العادل الأمن السعيد، وكما قالها دستوفسكي : (الجمال منقذ العالم ).

المراجع: 

1- من ملف حول الشاعر في إذاعة العراق الحر. 

2- ص/13، سوسيولوجيا الفن طرق للرؤية، تحرير : ديفيد انغليز وجون هغسون، ترجمة : د. ليلى الموسوي، مراجعة : د. محمد الجوهري، عالم المعرفة 341، يوليو 2007.

3- ص/67. سيكولوجية الإبداع في الفن والأدب، يوسف ميخائيل اسعد، طباعة ونشر دار الشؤون الثقافية العامة، آفاق عربية، ط1. 

4- ص/40، سيكولوجية الإبداع في الفن والأدب، يوسف ميخائيل اسعد، طباعة ونشر دار الشؤون الثقافية العامة، أفاق عربية، ط1. 

5- ص/43، سيكولوجية الإبداع في الفن والأدب. 

6- غولدمان، دليل الناقد الأدبي د. ميجان الرويلي د. سعد البازعي، المركز الثقافي العربي، ط4 -2005، ص/328.

7- دستوفسكي، عودة الانسان، ص/32، ترجمة د. ثائر زين الدين، منشورات دار علاء الدين، ط2 -2009.

النصوص باللون الازرق اقتباسات من نص (الحارس) وحوار الشاعر في (المثقف). 

* نصوص (ناظم حكمت) من الاعمال الشعرية الكاملة لناظم حكمت، ترجمة فاضل لقمان، دار الفارابي، ط1 -1981، ودراسات للاديب السوري الكبير (حنا مينه) عن ناظم حكمت. 

تقييم النص

يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا

التعليقات

قليل ما يمكن أن اقوله بحق النقد وَالروائي والشاعر الفذ أخي وشقيق الروح حميد الحريزي.. 

هذا الرجل بركان الكلمة المتفجر والمتدفق دون توقف من جبل الفن الادبي؛ لينتشر حمما من الكلام المفيد نثرا وشعرا. إنه القادر على سبر اغوار النصوص بمعول الوعي والنظر الدقيق والحس النابض بالحياة والجمال والثورة والإنسانية. شهادتي مجروحة؛ لانه شمس واضحة ساطعة لكل عين بصيرة، وحس مرهف، ووعي متفتح.

فالف شكر، "تستاف بالزهر الندي وتجتنى"، وأطال الله في عمره بالصحة والسلامة،  والإبداع المتواصل، والنشاط الكبير.

جمعة عبدالله

01-12-2021 12:06

الاديب والناقد القدير الاستاذ حميد الحريزي

تحليل واستقراء رائع للقصيدة ( الحارس )  التي تمثل الرؤية الثورية والوطنية لهذه القصيدة الرائعة , وكذلك استعراض حياة الشاعر ومحطات حياته . هذا التحليل الذي شخص المنطلقات الفكرية لقصيدة ( الحارس ) في الايغال في الماضي عندما كان الحارس الامين ببساطته وتواضعه يحرس الناس وممتلكاتهم بامانة ونزاهة , وكذلك القصيدة تستعرض حراس الوطن في منطلقاتهم الفكرية الجميلة , وتركوا بصمات تخلدهم كرموز الثورة والثورية , حراس الاوطان الامناء بصدق ونزاهة , ولكن من جانب آخر الحراس اللصوص , الذين باعوا اوطانهم بسعر زهيد . هذا الشعر الوطني والثوري ومعلمنا الكبير  الشاعر عبدالستار نور علي , له قامة شامخة في الشعر الوطني والثوري  وانساني بنزاهة مثل حراس الاوطان والثورة .

فلكما كل التقدير والحب والاعتزاز , بهذا الصوت الوطني النقي كحارس أمين للوطن  , الذي يعلو على الحراس الذين يبعون اوطانهم بسعر زهيد للاجنبي والمحتل .

ودمتم بخير وعافية

التعليقات

إدراج الإقتباسات...