بائع على رصيف المحطة

بائع على رصيف المحطة


كانت محطة القطار البعيدة عن القرية، والتي لم تكن في الواقع إلا غرفة واحدة صغيرة كالحة المنظر بانَ القِدم على جدرانها وأرضيتها وتجلى الفقر في اثاثها الذي لا يتجاوز الطاولة الخشبية العتيقة الركيكة السيقان، وقد استقر وسطها (فانوسٌ ) شاحب يعتمده عامل المحطة للإشارة للقطار وتأمين مرور آمن، ثم الكرسي الخشبي العتيق الذي يبدو كشيخ أكل عليه الدهر وشرب، وجدرانها هي الأخرى كئيبة الشكل تكاد الرطوبة تسيل من بين جنباتها الترابية اللون. أما السقف فذاته متآكل الاعمدة بفعل حيوية حشود الأرضة آكلة الأخشاب. 

وسط الغرفة اليتيمة يتدلى من السقف حبل في طرفه مظلة معدنية صدئة يعلوها الغبار، يتوسطها مصباحٌ بالكاد ينير الداخل. قبالة الغرفة البائسة يمتد على الجانبين رصيف المحطة الضيق والخالي من أي مقعد، يمكن أن يجلس عليه مسافروا القرية من الفلاحين وزائريها .. على عرض وطول الرصيف تناثرت حفرٌ متباينة الحجم تجمعت فيها مياه أمطار سابقة استحالت بفضل الريح الباردة الى كتل ثلجية صلدة وموحلة .

ذات يوم كان باب الغرفة مقفلاً، وعامل المحطة غير موجود إذ غادر قبيل حلول الظلام .

الأجواء معتمة ساكنة وليس إلا نسيم بارد وضباب يغشي المكان مشكلاً حُزماً من الدخان الشفيف الأبيض، وليس على الرصيف إلا كلبين هزيلين يرتجفان من البرد والجوع والوحدة وقد تكور  أصغرهما حول نفسه بينما شرع الآخر ينقبُ في كومة نفايات عند طرف الرصيف يتشمم  بأنفه الكبير ويبعثر بساقيه الفضلات النتنة ، يرفع ساقاً .. يتبول ..ثم يعود يائساً الى رفيقه، يدور حوله بعصبية، وقطة تموء على سقف غرفة المحطة، يتوجس الكلب الجائع، ينبح.. يتربص ..ينتظر.

المخلوق الوحيد العاقل بين هؤلاء الجياع المشردون كان فتى طويل القامة، طفولي الوجه مرتجف الجسم، رث الثياب ..حاشراً نفسه في زاوية بين جدار الغرفة وسور عالٍ متصل بها، ينتهي عند بداية الرصيف.  الفتى البائس كان بائعاً جوالاً إتخذ من المحطة باباً لرزق شحيح، ومستقرٍ لأغلب أيامه التعيسة الكئيبة.

كان البرد ينفذ من خلال أسماله البالية ليغور عميقاً في الجسد الناحل فترتجف الأوصال ويغلبه بكاء صامت يائس. يجتهد في أن يدفء ساقيه بتحريكهما في مراوحة خائبة ، يفرقع أصابعه، المتجمدة النحيلة .. فلا جدوى .. يتطلع الى البعيد .. تحاول عيناه إختراق الظلام .. تجهد اذناه في التنصت على صوت ما ..أمل ما يشرق من بعيد.. تراوده خيالات قديمة عابرةٌ بسرعة الريح والبرد .. يغزو مخيلته وجه أبيه حيث كانا يجلسان عند الموقد والحطب يتوهج ويطقطق، وألسنة اللهب تتراقص في فضاء المكان ثم تختفي ، مخلفة أخرى ، وهكذا حتى لحظة إنطفاء نار الموقد وقد التهمت بجشع وقودها.

يأتيه من البعيد المُتخيل صوت أبيه في أوج إشتعال الحطب " صدق من قال يا أحبتي ..ويقهقه بحبور بينما عيناه تجولان بيننا بحب ثم تستقر عند وجه أمي - النار فاكهة الشتاء" طفرت دمعة ساخنة من عينيه، وهمس بشفاه راجفة لروحك السلام يا أبتي الحبيب ..

ينظر الى صندوق بضاعته الصغير وكأنه تذكره للتو.. علب سكائر، علب أعواد كبريت ، ورق لفّ التبغ ، كانت تلك ثروته الوحيدة ، ومصدر رزقه وموئل أحلامه !

كم أتمنى لو أمكن لي أن أشتري شيئاً ولو صغيراً يبهج قلبها الذي حطمه الفقد لمن كان لها رفيقاً وحبيباً.

ونفث الفتى حسرة حارةٍ من قلب لما يزل دافئاً بالنقيضين الهّم والأمل ..اللعنة..كم أنا حزين ..

وكم هي طويلة مريرة هذه الليلة .

***

نهض الكلب الصغير من مكانه، تحرك الكبير رافعاً أذنيه باستقامة كمن ينتظرُ قادمٌ ما، إهتزت القضبان بلطف أولاً، ثم اقترب الصوت والصفير..إنه القطار.. هتف في سرّه وهو يلتقط صندوقه الصغير. وأقترب القطار..فرت الكلاب.. ماءت القطة وقفزت من السقف.. تحرك الفتى وتوقف القطار.. اقترب البائع منه مستبشراً، فرك كفيه ببعضهما وارتفع رأسهُ شامخاً.. أثار دهشته العتمة المطبقة على عربات القطار.. شعر ببعض الخيبة وتثاقلت ذراعاه التي تحمل الصندوق..

فجأة لمح ما يشبه الضوء بالكاد يرى، وصرت الأبواب وهي تفتح، وترجل بضعة من الحرس يحملون البنادق، غذوا السير صوب الخلاء لقضاء حاجاتهم ولم يهبط من عربات القطار سواهم.. تسلل الفتى مقترباً أكثر، فتحت نوافذ عدة.. ورأى ما خمنه في سرّه سلفاً... جنود!

أطلقوا أيديهم عبر النوافذ.. وتسللت رؤوس تهفو لهواء نقي ومشهد ينبض بالحياة.. لا.. الموت.

تصارخوا..تقافزوا..تراقصوا.. ارتفعت أصوات مخدوشة..ماجنة..مهزومة..بالغناء..ثم عويل ونشيج..ثم صخب..وشجار.

إقترب الفتى من احدى العربات فهالتهُ سحناتهم!

عيون غائرةٌ، متورمة، مجهدة من السهاد.. ذقون كثة..شفاه راجفة..وجوهٌ مشدودةٌ.. متوترةٌ صرخاتهم.. صياحهم.. همسهم يوحي بمزيج من الخوف والغضب والقلق وجهودٌ يائسةٌ 

لخداعٍ ذاتي بفرح لا يحاول أن يطل فيفزع عائداً الى مكمنهِ!

البعض علق ذراعاه الى العنق وآخرون يترنحون على ساقٍ واحدة، وبضعةٌ مربوط الرأس بضمادات متسخة جف عليها الدمع والغبار!

هي الحرب إذن.. هم جنود جرحى وآخرون عائدون الى البيت باجازة قصيرة..!

إذ رأوا الفتى لوحوا له بلهفة وإلحاح.. لغتهم غريبة.. لم يفهم منها شيئاً فأعتمد الفتى النابه لغة الأصابع والشفاه المقروحة، ورفع بعض مقتنياته عالياً في فضاء الرب المثقل بالبرد والخوف والقهر..،

سجائر.. تبغ.. كبريت.. و ..و.. و 

رفع أربعة أصابع لرجل ملحاح يشير الى علبة سجائر.. رفع الآخر ثلاث اهتز الرأس.. كلا..وافق الآخر رمى.. النقود.. فالتقطها الفتى ورمى اليه العلبة.. وتبادل الإبتسام قبل أن يشعل الرجل الكثيف اللحية سيجارته الأولى!

بدأت بضاعته تتناقص بينما رنين النقود النحاسية يتعالى.

هنيهة وإذ برجل ضخم الجثة عملاق القامة مربوط الذراع الى العنق وقد التف على يسرى يديه وأمتد حول رأسه رباط ٌ أسود عليه بقع من الدم، أطل بكامل جسمه ملوحاً بيمناه السليمة بمعطف كاكي ثقيل قذر... أشار الى الفتى بما يدل على حاجته لعلبة سجائر، نظر الفتى الى صندوقه

فكر لثوان ثم ابتسم موافقاً... 

تلقف المعطف بحدب ومرح ورمى العلبة ودمدم بضع كلمات والتفت عائداً وهو يتهادى في مشيته بثقة وخيلاء.. توقف برهة فرش المعطف المطوي حول جسده.. دس يديه في مستقرهما داخل المعطف.

أيقظته ضحكات الجنود، وهم يلوحون له بأيديهم، بينما منبه القطار يزعق بقوة مؤذناً بالرحيل..،

فجأة لوح أحد الجنود وفي فيه عقب سيجارة، ببيريته الكاكية اللون ثم أطلقها في الهواء فتلقفها الفتى بمرح وتوج رأسه بها .. ذات اللحظة كان الحرس الذين غادروا القطار للترويح عن أنفسهم يعودون مهرولين.. لمحو جندياً بكامل زيه العسكري يغذ الخطى صوب الطرف القصي من الرصيف..

تصايحوا.. صرخوا عليه بلغتهم.. إبتسم لهم بود وتابع المسير، حينها لم يكن من سبيل لإيقافه.. القطار يلح والجند في الداخل يتصايحون و ... إنطلقت من بندقية أحد الحراس قبل أن تستقر قدمه على درجة سلم القطار ... انطلقت رصاصة ..!

وسقط صندوق الفتى من يده وتبعه الجسد النحيل ليصطدم رأسه برصيف المحطة الموحل ...!

*

تقييم النص

يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد ! كن أول المعلقين !

التعليقات

إدراج الإقتباسات...