تجربة مهرجان اسطنبول "مع شيء من الصراحة"

تجربة مهرجان اسطنبول "مع شيء من الصراحة"


حضور المحافل الشعرية والتجمعات الأدبية يحتاج صنفاً خاصاً من الجمهور ونوعاً مختلفاً من الحضور؛ جمهورٍ يستطيع التغافل والتجاوز أمام النصوص الباردة التي لا تحمل اسباب المتعة والدهشة والحماس، وحضورٍ يقدِر على الثبات والرزانة امام النصوص المتواضعة فلا يوهم صاحبها بانها عظيمة فيخدعه ويدلّس عليه فيختلط على الشاعر جيده برديئة.

على ان لا يبخل على النصوص المُحلِّقة التي تهزه في مقعده وتشعره بالإطراب والخفة والتحليق من التفاعل وقولة "احسنت" فهذا حق المُلقي المبدع على المُتلقي الفطن، وقد كان البحتري يقول -إذا أعجبه شعره-: أحسنتُ والله، ويطلبها، فيقول للمستمعين: الم أحسن؟ ما لكم لا تقولون أحسنت

وعدم التفاعل مع الإبداع ضرب من بخس الناس اشياءها ونوع من القتل للإبداع في مهده

وهنا يأتي السؤال الأهم: كيف نميز حسن الشعر من رديئه؟ 

يقول الجاحظ في كتاب الحيوان في وصف جودة الشعر بعيدا عن المعاني: إنما الشأن في إقامة الوزن وتخيّر اللفظ وسهولة المَخرج وصحة الطبع وكثرة الماء وجودة السبك، وإنما الشعر صياغة وضرب من النسج وجنس من التصوير. انتهى قول الجاحظ.

وانما قصد بقوله وكثرة الماء؛ انه يريد نضارتَه وخفتَه، يريد تجانسَه وحسنَ بنائه وتوافق لفظِه مع معناه، انه يا صاحبي يقصد ماء الجمال المتدفق من بين ثنايا الشعر، أو ان شئت ماء الحسن الذي يغسل وجه القصيدة.

ايها الشعراء لا تقرأوا اشعاركم امام العيون المنشغلة بشاشات التلفونات ولا أمام النظرات الثابتة التي لا يحرجها حسنُ الكلمات، ولا تدهشها المباني ولا تبكيها وطأة المعاني، ايها الشعراء لا تنشدوا قصائدكم امام الوجوه الشمعية الجامدة، فاللمعة التي تعلو جباههم لمعة كاذبة، والشعر لا ما تكتبه انت ايها الشاعر فحسب، هو ايضاً ما تقرأه في عيون الناس وانت تنشدهم شعراً، وما تراه في وجوههم من لمحة حزن او ارتسام بسمة، او ما تسمعه من آهة صادقةٍ اتت من قلب مدرك للمعنى فاتبعها -عن فهم ودراية- بكلمة "احسنت"

المعاني يا سادتي صنفان؛ صنف كالناس تشيخ وتهرم وتموت وتنسى ايضاً، وصنف باق كالماء والهواء لا تخترمَه الحوادث ولا ينفذ اليه الموت فهو خالد بلفظه ومعناه متجدد بتواتره على ألْسُنِ الناس، فإيهما تريد انت؟ 

أيها السادة إننا نمر بعصر سرعة وقع الحياة وترف الأسلوب وخفة المعاني وبساطة البناء

فشكرا لكل الشعراء ممن نفثوا روحاً جديدةً أو أجروا دماءً فتيةً في جسد هذا الطاعن من الفنون الذي نسميه "ادباً"، شكرا لكل من كَفَرَ بالمذهبية الشعرية وانسلخ من الطوائف الأدبية وتبرأ من ذاتِ القديم الى ذاتِه الخلاقة، ومن سطوة التليد الى بريق الجديد، ومن ذائقة المكرر الى لذعة طعم المبتكر، ومن وسطية المألوف الى تطرف الإدهاش.

فلا خير في أدب خامل الحركة مُزبد الماء أسود الدماء

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المبدعين.

 

تقييم النص

يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد ! كن أول المعلقين !

التعليقات

إدراج الإقتباسات...