دافيد سانتيلانا... القانوني التونسي!

دافيد سانتيلانا... القانوني التونسي!


في تونس، في حواريها الضيقة وجدرانها الملساء، ولد طفلٌ خاصٌ أول الصيف من عام 1855 ليعيد تشكيل المكان لاحقاً من وجهة نظرٍ مختلفة تركت بالغ الأثر حتى هذا اليوم. طفلٌ ملتبس الجنسية والعرق إلا أنه بالغ الوضوح في التفكير والمنهج والعبقرية! “دافيد سانتيلانا” David Santillana ابن عائلة إيطالية من أصول إيبيرية إسبانية لجأت إلى تونس قبل ولادته بجوازات سفر بريطانية، الأمر الذي يفسر أن أباه عُين في مرحلة لاحقة قنصلاً لبريطانيا العظمى في تونس. 

ولأن للعبقرية سمات وللنبوغ أمارات، باكراً ظهر تفوق دافيد عن أقرانه، فعيّن سكرتيراً للجنة الدولية لشؤون تونس المالية وهو لم يبلغ السادسة عشرة بعد، واللطيف في الأمر أنه استقال من منصبه تضامناً مع مديره الذي تعرض لمكيدة سياسية.

انتقل دافيد إلى لندن بعد هذا وتقدم لمسابقة عمل في السلك الدبلوماسي، إلا أن موت أبيه اضطره للعودة إلى تونس وتولي شؤون إخوته ووالدته. لقد أحب دافيد تونس الساحرة وتعلق بها أيّما تعلّق، وأراد أن يحقق طموحه العلمي في أوروبا دون أن يفقد صلته بها، فالتحق بكلية الحقوق في جامعة روما، الأقرب إلى تونس، ليظل قريباً من قرطاج ولأنه يتقن اللغة الإيطالية ويتحدثها بطلاقة، ما سهل المهمة عليه وساعده وأسرته بالحصول على الجنسية الإيطالية بالتوازي مع حصوله على شهادة الليسانس في الحقوق من جامعة روما.

وكذلك الأمر، فقد نبغ في دراسته هناك بطبيعة الحال ما جعله محط الأنظار والاهتمام، ونتيجة لذلك عين مستشاراً للهيئة القانونية الموكل إليها الدفاع عن أحمد عرابي باشا أثناء محاكمته وهو ما زال طالباً، كونه يجيد العربية كتابة وتحدثاً ويفهم الشريعة الإسلامية جيداً كما أنه بريطاني وعمل سابقاً في السلك الدبلوماسي، المحاكمة التي رفعت من قبل الحكومة البريطانية وشكلت عقب احتلال مصر عام ١٨٨٢ميلادي، أصدرت حكمها كما هو معلوم بإعدام عرابي ورفاقه كما أصدرت حكماً خفياً إلى جانب ذلك بتجه ديفيد إلى الفقه الإسلامي ودراسته بقية عمره.

شغف القانون والعدالة

كان دافيد يسافر في كل البلاد ثم يعود إلى روما التي وجد فيها ضالته الإبداعية والثقافية والمهنية، فكان يعمل بالمحاماة ويعكف على مكتباتها يقرأ ويبحث ويدون، وقد شغف بدراسة التاريخ والشريعة الإسلامية بعد محاكمة عرابي، وأراد أن يفهم كيف يفكر المسلمون، خاصةً وأنه رجل قانون، فأوغل بمراجعة التاريخ وسنّ القوانين وكرّس حياته لفهم قوانين الأرض والسماء.

حسبما نستخلص من سيرة دافيد، فقد توصل إلى أن القوانين الوضعية عبر التاريخ إنما توطأت واطمأنت لما وصل من الأديان السماوية، وحرّكتها بحسب المقتضيات الآنية مع إبقاء جوهرها، ولهذا كان يرى في القوانين القديمة والأديان أساس لأي عدالة أو قانون بشري. وهو ما يفسر أنه عاش مدافعاً وشارحاً عن الإسلام ديانة وتاريخاً وقانوناً، وأنه أخذ على عاتقه شرح وتوضيح ما قد يرى فيه من ثغرات ومن ذلك قوله: “إن المستوى الأخلاقي الرفيع الذي يسم الجانب الأكبر من الشريعة الإسلامية قد عمل على تطوير وترقية مفاهيمنا العصرية وهنا يكمن فضل هذه الشريعة الباقية على مر الدهور، فالشريعة الإسلامية ألغت القيود الصارمة والمحرمات المختلفة التي فرضتها اليهودية على اتباعها، ونسخت الرهبانية المسيحية وأعلنت رغبتها الصادقة في مسايرة الطبيعة البشرية والنزول إلى مستواها، واستجابت إلى جميع حاجات الإنسان العملية في الحياة تلك هي الميزات التي تتسم الشريعة الإسلامية في كبد حقيقتها ونجرؤ على وضعها في أرفع مكان وتقليدها أجلّ مديح علماء القانون وهو خليق بها”.

دراساته وأعماله

بعد عودته لتونس ضمن لجنةٍ فرنسيةٍ لوضع قانون تونس تحت الاحتلال الفرنسي1881م، تولى ديفيد مقاربة الدين مع القانون ومطابقته، ووضع ما يجب أن يكون للتونسيين من علاقات شرعية قانونية جديدة، ما نتج عنه بعد عمل دام ثلاث سنوات كتاب: “القانون المدني والتجاري التونسي” والمكون من ألف صفحة، والذي ما زال أحد المراجع الأولى حتى اللحظة لقانون تونس. ويتضمن الكتاب 2479 مادة قام سانتيلانا بصياغتها مقارناً ومقارباً إياها مع القوانين الأوروبية الحديثة، مبيناً مصادرها ومعدداً محاسنها ومثالبها، وقد تكشّف هذا العمل عن باحثٍ مستقصٍ دقيق وعبقري. وفي هذا العمل يستخلص ديفيد قوله: “عندما ينفد المرء إلى دقائق الأمور وعمقها وأصولها، سيندهش حين يرى النظائر الوثيقة بين كبار الفقهاء المسلمين في المدينة والكوفة وقرطبة من جهة، وبيننا نحن الأوروبيين من جهة أخرى”.

وإلى جانب علاقته العميقة بالفقة الإسلامي، والمالكي بالذات، فقد عرف عنه أنه كان مولعاً بدراسة التصوف الإسلامي، كما كان باحثاً في التصوف اليوناني الأفلاطوني والتصوف المسيحي، وقد جمع لهذا البحث الكثير من الدلائل والمواد، وألقى بها محاضرات في غير دولة، كمصر وإيطاليا، إلا أنها لم تجمع. وحرمنا من الإطلاع بشكل واضح على الرغم من أن هنالك مخطوطات منها في مكتبة جامعة القاهرة “حيث درّس سانتيلا فترةً، وكان يشير إليها الشيخ الجليل المعروف “مصطفى عبدالرزاق” ويعدّها مرجعاً واستعان بها في كتابه الشهير “التمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية”.

 لقد ترك سانتيلانا عدداً من الكتب خلال حياته التي كرسها للعلم والقانون، مثل كتاب القانون التجاري التونسي، ومثله أيضاً في ليبيا، حينما كُلّف أيضاً من قبل الحكومة الإيطالية التي كانت تحتل ليبيا بالعمل على عدة مشاريع بحثية وذلك لرفع الصلة والاهتام بالدراسات العربية والإسلامية، وفهم طبيعة الشعب الليبي أكثر، ومن هنا كلفته وزارة المستعمرات الإيطالية ومعه “اوجنتسيو جويدي” بترجمة “مختصر خليل” في الفقه المالكي وهو مختصر معتمد في كل بلاد المغرب والمشرق لدراسة الفقه المالكي، فترجم للإيطالية والفرنسية كذلك.

ويظل كتابه “نظم الشريعة الإسلامية بحسب مذهب مالك” درة أعمال سانتيلانا وأكثرها شهرة، حيث نشره على جزئين خرج الجزء الثاني بعد موته واستفاد منه كبار المستشرقين ممن أتوا بعده ونهلوا من منهجيته ودقته وبراعته في الربط بين القوانين الغربية والفقه الإسلامي.

نبذه حول الكاتب

شاعر و صحفي من سوريا

تقييم النص

يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد ! كن أول المعلقين !

التعليقات

إدراج الإقتباسات...