طفولة العقل الثقافي

طفولة العقل الثقافي


 

ما بين عقل الصغير وعقل الكبير، هي المسافة عينها التي تفصل العقل الصغير عن العقل الكبير، وحين يتساوى (يتعادل) عقل الطفولة وطفولة العقل، يسقط التقدم الإنساني. إن النضوج هو كل حالة اختلاف عن حالة سابقة لها، فهل نضجَ العقل الإنساني وفيه العقل الثقافي؟ يبدو السؤال غريبا نوعا ما. ان النضوج يتطلب شيئا أو أشياء من التعقيد العصبي الفسلجي يكفي لمثل هذا النضوج. ان العقل الطفل أو عقل الطفل البدائي، (لا يدري) لأنه بدائي في التعقيد وبدائي في الأداء، وحين يتعقد العقل، يبدأ بـــــــ (الادرية)، وفي ذلك تنفتح المعارف، فيقف الانسان أمام المزيد من المعارف، أعني: أمام المزيد من المجاهيل، فوراء كل حالة معرفة يكمن مجهول جديد. ان مقولة "اننا نزداد حِلْماً كلما ازددنا علماً" صحيحة. وهنا تتعادل قوة عقل الطفل مع قوة عقل الكبير لأن الأول جاهل والثاني جاهل بتعقيده، ان العقل البدائي يعاني من "الانهيار" بما لا يعرف، والعقل المعقد يعاني من "الانهيار" بما يعرف، وكلا الأمرين حيرة.

فالتعقيد الفسلجي اذن هو أول علامات طفولة العقل. ومن العلامات الأخرى الدالة على طفولة العقل البشري: اللغة. اللغة هي صناعة عقلية، والعقل متقدم عليها لأنه صانع والصانع أكبر من المصنوع وأقوى، وما أن تظهر اللغة وسيلة للخطاب، حتى تصبح معيقة للعقل عن التقدم والنضوج، أضرب لذلك مثلاً: ان الانسان سئم البطء الشديد في الحركة فصنع السيارة لكن السيارة آلة محكومة بالقدرة ومحدودة بالضوابط، وما ان ظهرت السيارة حتى أصبحت قيدا محددا للانسان بسرعتها ونمطيتها.

فالسيارة نقلت الانسان من البطء الى السرعة، ولكنها حددته وقيدته من جديد، وما التوليد الذي مارسه الانسان على اللغة الا محاولات لهذا الانسان في الخلاص من قيد اللغة القديم. ومن أسباب طفولة العقل البشري: الموروث الثقافي، أو ما نسميه في علم النفس بـــــــ (العقل الجمعي). ان الانسان يحمل ساعة ولادته خبرة أجداده، على الرغم من فائدة هذه الخبرة، يعاني منها معاناة كبيرة في محاولة الخلاص والنزوع الى التقدم. ان العقل الجمعي يحمل معه الميثوثوجيا والعادات، والعادة هي قيد كبير من قيود الابقاء على العقل أسيرا في عالم الطفولة الغضة. والميثولوجيا هي استراحة العقل المتعب، ومحطة من محطات الاستقرار على خطأ الجهل وملء الفراغات المعرفية بصفحة الارجاء المعرفي والتأجيل الثقافي لثورة العقل. ومن أسباب طفولة العقل البشري: اقليمية الانتماء وظهور مشاعر القبلية التي لا بديل منها في مواجهة المجتمع الأكبر: العالم. ان الانسان الاقليمي هو انسان العزلة الثقافية، وهو الانسان الصغير في أحلامه وآماله. وعلى الرغم من حاجة الانسان الى شيء من الخصوصية في المجتمع الذي ينتمي اليه يظل هذا الانسان احادي القطب، محكوما بتاريخ مغلق وجغرافية خاصة. ان الميثولوجيا لا تكون عامة في الناس، بل هي خاصة فيهم، فلكل شعب ميثولوجيا تختص بتفسير الالهة والدين والخوف من المجهول الغامض.

ومن أسباب طفولة العقل البشري: التقنية. هل يعد العصر التكنولوجي نضوجا؟ كلا. انه في حسابات الثقافة ليس نضوجا، انه وجود حضاري لثقافة الانسان بل وسيلة لا غير. فالعلم قدم الالة لخدمة الانسان، ولكنه أفقد الأخير كثيرا من سماته، فالاغتراب هو ناتج العلم، والاغتراب عزلة داخلية تحطم في الانسان العظيم عملية النضوج العقلي. والصراع من أجل استعمار البشر بعضهم بعضاً هو ناتج العلم، والصراع أداة من أدوات التعطيل الثقافي للنضوج. الكل يعرف –أو هكذا افترض- ان الفيزياء المعاصرة جعلت الانسان المعاصر يعيش في أزمة، فالفيزياء في عصرها كثير من مفاهيم الزمن وكثيرٌ من صورة (اختلاف الليل والنهار) وكثيرٌ من (جمالية زينة السماء الأولى: الكواكب وكثيرٌ من انشودة (الأرض والسماوات) وكثيرٌ من مفاهيم (الأبراج وطوالع السعادة والنحس في النفوس الباحثة عن الأمل) وكثيرٌ من مفاهيم (الانسان سيد الخليقة)، والكل يعرف –أو هكذا افترض- ان الرياضيات المعاصرة غيرت كثيرا من معلوماتنا عن (الخطوط المتوازية التي مهما امتدت لا تلتقي) وكثيرا من معلوماتنا عن المثلث الذي لا يصير دائرة، والمربع الذي لا يصير متوازي اضلاع او مستطيلا) وكثيرا من معلوماتنا عن علاقة الحساب بالجهد العضلي البايولوجي الانساني. معنى هذا كله ان التقنية وسيلة من وسائل تحطيم ما هية النضوج، فهي لم تنفع الانسان أكثر مما حولته واحدا من أدواتها. فالسيارة تمشي عندما يقودها السائق والطيارة تطير عندما يقودها الطيار لكن كثيرا من ا لتبدل قد أصاب شخصية الانسان عندما أصبح سائقا أو طيارا. ولا أدري اذا كنت في حاجة الى توثيق العلاقة بين الشخصية والنضج العقلي. ان عصر التقنية هو عصر اللهجة الدارجة على حساب اللغة الصحيحة، والمعروف ان اللهجات المحلية هي نوع من أنواع الفصام الثقافي وعلة من علل التفكك بين الفرد والبيئة. ان العلم قدم نظرية (الانسان – القرد) ولم يقدم نظرية (القرد – الانسان). (فالانسان أرقى من القرد، لكن ما هو مصير الانسان المتخلف عضويا في عقله اذا ما تزوج أو أنجب أبناءه. أليس للقرود أصل من أصول الانسان المتخلف؟ انني هنا لا أدعو الى شيء، انما أسأل. ومن أسباب طفولة العقل البشري: محدودية الحواس. ان الانسان كائن حسي، وحواسه محدودة. فهو لا يرى الا ما تراه عينه، ولا يسمع الا ما تسمعه أذنه، ولا يشم الا ما يشمه أنفه. لكن النضوج يتطلب رؤية بعين أخرى وسمعا بأذن أخرى، وشما بأنف آخر. هل يمكن أن نقول ان هذا العصر هو عصر نضوج العقل، ولا نزال نعيش في عالم فيه أشياء لا نراها وأصوات لا نسمعها؟ هل استطعنا أن نسمع ما يسمعه الحصان والديك والأفعى؟ اننا في مرحلة دون مرحلة الحس الفائق. وما لم تتم الرؤية الكاملة والسمع الكامل، فاننا أطفال عقول. وعندما يختلف عندنا الفرد عن أصحابه نسميه مجنوناً، ان المختلف هو الذي رأى ما لم يره غيره وهو الذي سمع ما لم يسمعه غيره. ان اختلاف العقول هو ناتج تفاوتها في المعرفة. ونحن في حاجة الى الاختلاف على أساس أنه نوع من التسابق المعرفي ونوع من الفارق الفردي بين هذا وذاك من الناس.

ان "ثقافة القطيع البشري" فيها حسنات وفيها سيئات، فهي تعلمنا ما يرضى عنه الاخرون وان نحجم عن قول ما يضيرهم وهنا ينشأ "النفاق الثقافي". ان تاريخ البشرية يعلمنا ان المبدعين كانوا اناسا شاذين في نظر أوساطهم الاجتماعية، وكثيرا ما ازدرى بهم اصحابهم ورجموهم رجوم الشياطين، حتى اذا ما تقادم بالناس الزمن وظهرت حقيقة ما ابدعوه، صاروا خالدين بعد أن كانوا منبوذين. إن الدعوة الى نضوج العقل تشمل الدعوة الى ظهور الفرد بلبوسين: لبوس الثقافة العامة، ولبوس الثقافة الخاصة التي يشكلها وحده ويعيش لها وحده ويموت من أجلها وحده. ومن علامات طفولة العقل البشري: نشوء الاسرة فعلى الرغم من قدسية الاسرة في حياة الإنسان تظل الأسرة سبباً من أسباب افتقار العقل إلى النضوج. وأرجو ان لا يستعجل القارئ على الأمر حتى أوضح له ما يرضيه من قولي هذا. إن الانسان يحتاج، في رعاية أطفاله، إلى ان يصرف ساعات كثيرة من وقته للهبوط الى مدركهم في الخطاب والتفاهم، وفي هذا خفض واضح لصراع عقله المعرفي. إن المجتمع هو الصورة الكبرى للأسرة، وحينها نعيش في أوساط اجتماعية منخفضة الوعي. فإننا نصبح في حاجة ماسة الى خفض الكثير من وسائل رؤيتنا المعرفية للعيش مع هذه الأوساط على طريقة (خطاب الناس على قدر عقولهم). إن هذا عينه ما يحدث للفرد في أسرته حين تصبح به حاجة كبيرة الى تقليل عطائه العقلي ليتمكن من التوصل والتوصيل. أسأل القارئ الكريم: كم يحتاج المثقف يوميا من ساعاته ليصرفها في شراء مستلزمات المطبخ والمنام والملابس، وكم يحتاج الى الانخفاض لمخاطبة البائع ورجل السوق العادي؟ اضرب لذلك مثلا: إن معلم المدرسة الابتدائية يحمل ما نصطلح على تسميته بـــــــ (عقدة التعليم الابتدائي). فالمعلم ملزم ان يعلم الصغير، ولكن لكي يعلمه يجب أن ينخفض معه، وعلى مدى سنوات من عمره، يقترب المعلم من الانخفاض ويغادر مضايق الانحسار المعرفي ومتطلبات التصعيد المعرفي، ان هذا لا يعود سببه الى الفرد، إنما الى ظروفه، والذي صح على المعلم، يصح على الطبيب النفسي حين يحتاج الى لغة خطاب ساذجة يجاري بها صيغة الاختلال في مرضاه، الى الحد الذي صار طبيب النفس فيه شائعا بين الناس بأنه "طبيب مجانين" وانه لا تثريب عله فمن عاشر الناس صار منهم. ومن أساليب طفولة العقل البشري الخوف من العقاب. إن العقل لا ينضج إلا في ظل الحرية، ولا أخطر على العقل من الخوف. اننا نتحدث في الدين بلغة الخضوع العقلي الكامل ونعزف عن مناقشة ما لنا رؤية فيه تجنبا للردع الاجتماعي او ضمير الذات العليا "الله جل جلاله" الغائر في أعماقنا، واننا نتكلم عن الثقافة فنجامل المجتمع في أخطائه ليرضى عنا ويغفر لنا ويقبلنا في تنظيماته. إن السؤال الحقيقي هو الذي ينضج العقل ويحثه على إيجاد الجواب الشافي وإن النضوج العقلي لا يحده قانون، والقوانين يوجدها المجتمع بطريقة "المعدل العام" وليس بطريقة "الصالح الفردي" وفي هذا يكمن كثير من ذوبان الخاص في العام. إن العقل متمرد لا يعرف الحدود وهناك فرق بين "التمرد" و "الفوضى" فالتمرد صيغة من صيغ العقل الرافض للحالة القائمة باتجاه الهدف، بينما الفوضى لا تعدو كونها اضطرابا لا يقود الى نتيجة او هدف، ومن دلائل القصور العقلي في نضجه: خضوع النفس لحاجات الجسد، فالجسد يمرض ويتعب ويشيخ، وهو في كل ذلك يؤثر في العقل قبل أن يبلغ ذروة نضوجه.

أمام هذه المعوقات التي تقف في وجه النضوج العقلي، سرعان ما يحقق الفرد حالة رضا عن عقله ويفتح الممكن من إدراكه. على نحو يقوده يأسه فيه الى تعطيل عملية النضوج من جديد. إن كلا منا قانع بعقله ولكنه غير قانع بماله وحظه في السكن والزواج والرزق. إننا نعترف بأن لنا عيونا تمرض ومفاصل تعتل، وقلوباً تشيخ، ولكننا نغضب من رأي الآخر الذي ينتقد عقولنا وثقافاتنا. إن الناس يتبارزون في البيوت والأملاك، لكنهم لا يتبارزون في العقول والثقافات. ان البشرية فيها الضاحك والمضحوك عليه وإن وراء أصحاب التجارة نوايا في جر العقل باتجاه المادة بعيدا من التثقيف. لقد عجز "فاتك الأسدي" عن أن يكون المتنبي المثقف فقتل المتنبي المثقف، وعجز المهندس الغربي عن ان يكون شاعرا او روائيا فصنع القنبلة التي تقتل الشاعر المثقف وتهد بيت الثقافة. |إن الجسد هو معوق آخر من معوقات تكامل النضوج في العقل البشري، حتى الانبياء حسدهم ذوو النفوس الضعيفة في أزمانهم وحاولوا النيل منهم. ان الحسود صاحب عقل لا ينضج، والحسد عامل وجداني لا عقلي تئثر به النفس معطيات العقل وتفوقه. إن الزمن لا يعد مسؤولا أوحدا عن النضوج العقلي، فهناك الكثير من الرجال رحلوا عن هذه الدنيا وهم أطفال في مداركهم لم تكسبهم أعمارهم قدر إنملة من النضوج والدراية. إن سنة الحياة فضنت ألا ينضج العقل البشري نهائيا، فالناس يختلفون في العقول حتى يقتل القوي منهم الضعيف. إن مستقبلا مظلما ينتظر العقل في نضوجه النهائي، فأحلى ما في الكون أن فيه غموضا وأعظم ما في الخالق الأول أنه سر لا تدركه الأبصار. إن انكشاف الكون يعني زوال السببية، وزوال السببية يعني زوال الصراع، وزوال الصراع يعني زوال البشرية وسقوط الحاجة إلى ظهور الانسان. إن لكل عصر من عصور الانسان على الارض عقلا محكوما بالسمات وثقافة محدودة بالأطر، وحين نعرف أنا بلغنا النهاية، نعرف أن قيامة الإنسان قد قامت، وهذا ما لا يريده الانسان لعقله أن يكون. إن أول سؤال يسأله الطفل: من أين أتيت، وإن آخر سؤال يسأله الفرد الذي كان طفلا: إلى أين أنا ذاهب؟ وبين السؤال عن المجيء والسؤال عن جهة الذهاب، يظل العقل البشري طفلا لأن أسئلته عن نفسه قبل غيرها بلا أجوبة. إن كل ثقافات الانسان لم يتعد المرحلة الإنطباعية او مرحلة الحس، والذين يقولون لنا: إن العالم هو صنعة العقل لا يشرحون لنا لماذا يختتم النضوج بالموت ولماذا يموت العقل وهو قادر على خلق عالم متحرك بأشيائه؟ والذي تتسع فيه درايته ناتج عن الألفة المريضة بين الرائي والمرئي وبين الحاس والمحسوس. إن عقل الطفل أو (العقل الطفل) يرى البيت أو غرفة النوم كأنه أو كأنها العالم كله... إن عقل الكبير أو ( العقل الكبير) يرى العالم هو البيت، ولكن كل ذلك اختلاف في سعة الادراك وكفى بالعقل الطفل كبرا أن من يسألهم: كيف أتيت ولماذا أتيت، لا يستطيعون الاجابة. اننا في ممارسة اللذة أشياخا نُشبه بالطفولة الذين مارسوا اللذة أطفالا. وكفى نشبه بالطفولة فخرا أننا لا نزال نكتب الشعر والقصة وفي داخل كل منا طفل جامح العواطف، ومراهق لا يتعب، قادر على متابعة الجمال على الرغم من كل قناعاته بزيف الرؤية وعتمة الأمل وضبابية الغد، نعود الى القول من جديد: إن العقل البشري لا ينضج ولن ينضج.

تقييم النص

يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا

التعليقات

جمعة عبدالله

05-12-2021 12:08

الاديب والمفكر القدير الدكتور ريكان ابراهيم

مقال فكري ناضج في عتباته ومنطلقاته الفكرية .

اتمنى من كل قلبي الصحة والشفاء العاجل والتام بعون الله تعالى

التعليقات

إدراج الإقتباسات...