طفولة مستنقع ثقافي مبيد

طفولة مستنقع ثقافي مبيد


طفولة مستنقع ثقافي مبيد

قراءة للقصة القصيرة "عرائس الطين" للقاص محمد عبد الحكم

الحسين بوخرطة

في قراءتي هاته، لن أطيل في الحكم على جودة الأسلوب والاستثمار في تقنيات سرد أحداث هذه القصة القصيرة الرائعة المعنونة "عرائس الطين" لكاتبها محمد عبد الحكم. الكاتب معروف بإبداعاته الأدبية وبإتقانه لفنون السرد المؤثرة والدالة بأحداثها ورسائلها وعبرها.

ما أثارني بقوة هو التجسيد الدقيق لوضعية الأسرة العربية عامة، والمصرية خاصة، وتخبطها المضني طوال مسار حياة منهكة في أدران سر الوجود الإنساني ومسؤولياته والأمانة المرتبطة به. ما عبر عنه الكاتب، وهو واقعنا الذي جسده في لوحة أدبية فنية جذابة، يجعل القارئ ينقطع عن التلاوة بعد كل جملة في نصه البديع، ليغوص في تأمل وسهاد لاستنباط المقاصد والأبعاد العميقة، معترفا بوجدانه أن الكاتب قاده إلى تفكير راق لا يمكن أن يتوج في نهاية المطاف إلا بقيادته إلى شعاب الوعي بحقيقة الأوضاع الاجتماعية عربيا، خاصة الارتباط المبيد لطموح تحقيق التغيير الاجتماعي الحداثي وفرامل الثقافة التقليدانية التي استولت على المسار الطبيعي العقلاني للحضارة العربية.

الصورة التي قدم بها الكاتب الأب تمثل غالبة الآباء في الشعوب العربية. إنه دعانا في أول عبارة في نصه إلى تأمل أحواله القاتمة "تأمّل: هذا العابر يحمل جثته، يمضي متهدلاً على حواف الضوء، ونظرات العابرين، والتواءات الطرق.. قادرٌ على أن يستند إلى همه وألمه ووجع تفجّر أسفل الصدر، حتى يصل إلى البيت ، ثم يموت مُفردًا كعمود خرساني دقوه خطأ ولا يستطيعون خلعه". تبين هذه الفقرة وكأن ما يعيشه أرباب الأسر عربيا في القرن الواحد والعشرين لا صلة له بالنظريات الاقتصادية وأبعادها الاجتماعية. الأب في القصة لا يعيش بتاتا وضعية العامل الذي يتقاضى أجرا يوميا لإعادة إنتاج قوته وضمان سعادة أسرته.

يدخل المنزل ولا يدور في مخيلته إلا التسجي السريع فوق فراشه المعهود، والاستسلام للنوم العميق لنسيان معاناة العمل المنهك. لا تسمح له أوضاع يوميات دنياه المزرية حتى الالتفات لابنته الوحيدة وتزويدها بحنان الأب "لم تكن معه، تلك البنت التي كنا نتجمع حولها، حين تصنع من الطين عرائس، ترصهم على الجدار وتشير بإصبع مدبب: هذا أبي يحملني بين يديه، وتلك أمي التي ماتت، أنتم لم تروها ...." . امتد الأسى والكآبة والمعانات من الكبار إلى الصغار. هذا هو واقع الكبار، آباء وأولياء الأطفال، إنهم لا يتكبدون المشاق لتخصيص وقت، ولو كان ضئيلا، لفلذة الأكباد. يرث الطفل المعاناة ويورثها بدوره لغيره عندما يكبر.

المسكينة، الطفلة البطلة المفتقدة لآمال ملامسة أدوار الأسرة في التنشئة العصرية والرعاية، رزقها الله، كما رزق الأطفال في هذه الغبراء، ذكاء للتعبير عن الأوضاع بالصدق المتناهي وبكل الوسائل المتاحة "ثم تشكل أجسادًا متناثرة الأذرع والرؤوس، ووجوهًا بلا ملامح، وتقول: هؤلاء أخوتي .. ماتوا في بطن أمي، ونزلوا نتفاً من لحم، كانت وجوههم ممسوحة الملامح، لا تصرخ، ولا تبتسم، ولا ترى، كان أبي يدفنهم أسفل عتبة الباب، وضم واحدًا منهم إلى صدره وبكى، وطبطب عليه الرجال وهم يمسحون شعره الأشيب، كان ولدًا، وكان كاملا ً.. هكذا ..".

عبرت البطلة، المشتاقة لأخ يملأ حياة أسرتها دفئا وسعادة، عن التمثل الراسخ ثقافيا في مجتمعاتنا العربية الإسلامية الذي يعتبر الذكر قواما عن الأنثى. دفن الأب الأخوات بوجوههم الممسوحة أسفل عتبة الباب، لكنه انهار وهو يحملق في المولود الذكر كامل الخلقة " وشكلت غلامًا صارخ الملامح، أنف مدببة، وعينان واسعتان، ووضعت خرزتين سوداوين في موضع العينين، فحدق فينا وابتسم، كانت توزع الحكي علينا وعليه، وتستشهد به في بعض المواقف:ـ أليس كذلك يا أخي؟".

عدم تقبل الأم أسريا وثقافيا لوفاة ابنها، كان سبب هلاكها: "كان يابسًا، وباردًا، وجميلًا، أمى التى صرختْ باتّساع الكون.. ضمّتنى إلى صدرها المتهدّل ثم احتواها الصّقيع....قال أبى:ماتت بحسرته". غاب وجود الأم بسبب فقدانها الطفل الذكر الذي كانت تتمناه. فطن الأب، عندما أصبح وحيدا، بأهمية وجود ابنته، لكنه لم يعبر عن سعادته وفرحه بها علنا، وكأنه يخاف من لسعات عيون ناس قومه: "وضمّنى، ولفّ بى فى فراغ البيت، ينكفئ ويعتدل، ويبصّ ويحاذر، ويلهث، ويتقرفص فى الزّوايا كأنّما يختبئ من عيونٍ لا أراها". كان لحظة عارمة جعلت الطفلة الوحيدة تعبر عنها مرة أخرى بذاء شديد: "وشكّلت بالطّين جسدين ملتصقين وأربعة عيونٍ وقالت: «كنا هكذا»".

وتعبيرا عن رفضها الوجداني للواقع الممقوت والنحس الذي أصاب أسرتها، شيدت الطفلة البريئة عالما خياليا خاصا بها،  تعيش فيه عواطف الطفولة والسنفونيات الموسيقية الخاصة به: "كانت تبدر الأغانى البكر، فتنبت بين جدران البيوت وتجمّعات النّسوة، وليالى السّمر، وأفواه المدّاحين، تقول إن لا أحد يعرف هذا الغناء غيرها وإخوتها، هؤلاء، وتلمس الأجساد المتناثرة، فتنبعج كتل الطّين، ويبصّون بعيونٍ لا تطرف هم الذين يأتون بالّليل حين ينام الجميع، يحيطونها، وجوههم مستديرةٌ، وأفواههم الصّغيرة تتشقّق عن كلمات بكرٍ، تحفظها، وفى الصباح ترددها:«أما أخى هذا، فهو الذى يقصّ علىّ الحكايا»".

تحدى الأب الأوضاع والعيون المحملقة، وضم طفلته إلى صدره، واستقبل التحيات، لكنه لم يتجرأ على فعل ذلك إلا بعدما فوات الأوان: "هذا العابر يحمل جثّته، وقف لحظةً، وتأمّلنا. كنّا نحيّيه، فانحنى بوجع السّنين، ومرّر يده فوق أصابعنا، حمل ابنته واستقام كالنّخيل، فأشارت من علٍ بإصبعها صوب تمثالين متعانقين وضحكت. كانت دمعاته تتدحرج على التّراب، وهى تهتزّ على كتفيه، ثم تركها بيننا واستقام رغم اتّساع الجرح فى ساحة البطن، ومضى، حيث فى البيت يموت مُفردًا، وبنته تشكّل تمثالًا بحجم الكون، وتلملم سعف النّخيل وتنكت الشّعر، وتدلى سباطتين على الصّدر الممسوح وتقول:«هذه أنا»".

قصة جميلة ورائعة للغاية، تحذر من استمرار اغتصاب حياة الطفولة العربية، أمل مستقبل منطقتنا من الخليج إلى المحيط"، باعثة رسالة الحاجة الملحة للتعاطي مع التربية ومبدأي المساواة والاستحقاق بعقلانية وجمالية.

 

النص الكامل للقصة "عرائس الطين" لمحمد عبد الحكم.

 

تأمّل: هذا العابر يحمل جثته، يمضي متهدلاً على حواف الضوء، ونظرات العابرين، والتواءات الطرق.. قادرٌ على أن يستند إلى همه وألمه ووجع تفجّر أسفل الصدر، حتى يصل إلى البيت ، ثم يموت مُفردًا كعمود خرساني دقوه خطأ ولا يستطيعون خلعه.

لم تكن معه، تلك البنت التي كنا نتجمع حولها، حين تصنع من الطين عرائس، ترصهم على الجدار وتشير بإصبع مدبب: هذا أبي يحملني بين يديه، وتلك أمي التي ماتت، أنتم لم تروها. ثم تشكل أجسادًا متناثرة الأذرع والرؤوس، ووجوهًا بلا ملامح، وتقول: هؤلاء أخوتي .. ماتوا في بطن أمي، ونزلوا نتفاً من لحم، كانت وجوههم ممسوحة الملامح، لا تصرخ، ولا تبتسم، ولا ترى، كان أبي يدفنهم أسفل عتبة الباب، وضم واحدًا منهم إلى صدره وبكى، وطبطب عليه الرجال وهم يمسحون شعره الأشيب، كان ولدًا، وكان كاملا ً.. هكذا .. وشكلت غلامًا صارخ الملامح، أنف مدببة، وعينان واسعتان، ووضعت خرزتين سوداوين في موضع العينين، فحدق فينا وابتسم، كانت توزع الحكي علينا وعليه، وتستشهد به في بعض المواقف:

ـ أليس كذلك يا أخي؟.

فتلمع العينان أمام وجوهنا المندهشة، قبعة من سعف، وجلباب مقلم، وقطعتان من بلاستيك كأنهما حذاء، وصمت يحتوينا، وهي تلبسه وتغني له وتحكي عن أمها: كانت تدللـه وتداريه عن عيون الناس، وتلبسه من ثياب أبي، وتريحه في حجري، وعندما مات، كان ناظراً إلى السقف، يداعب بريق عينيه يمامات الضوء، كان يابسًا، وباردا، وجميلا، أمي التي صرختْ باتساع الكون.. ضمتني إلى صدرها المتهدل ثم احتواها الصقيع.

قال أبي : ماتت بحسرته. وضمني.. ولف بي في فراغ البيت، ينكفئ ويعتدل، ويبص ويحاذر، ويلهث، ويتقرفص في الزوايا، كأنما يختبئ من عيون لا أراها. وشكلت بالطين جسدين ملتصقين وأربعة عيون وقالت: كنا هكذا.

كانت تبدر الأغاني البكر، فتنبت بين جدران البيوت وتجمعات النسوة، وليالي السامر، وأفواه المداحين، تقول ان لا أخد يعرف هذا الغناء غيرها وإخوتها، هؤلاء، وتلمس الأجساد المتناثرة، فتنبعج كتل الطين، ويبصون بعيون لا تطرف، هم الذين يأتون بالليل حين ينام الجميع، يحيطونها، وجوههم مستديرة، وأفواههم الصغيرة تتشقق عن كلمات بكر، تحفظها، وفى الصباح ترددها: " أما أخي هذا فهو الذي يقص عليّ الحكايا ….. "

هذا العابر يحمل جثته، وقف لحظة، وتأملنا، كنا نحييه، فانحنى بوجع السنين، ومرر يده فوق أصابعنا، حمل ابنته واستقام كالنخيل، فأشارت من علٍ بإصبعها المدبب صوب تمثالين متعانقين وضحكت، كانت دمعاته تتدحرج على التراب، وهي تهتز على كتفيه، ثم تركها بيننا واستقام، رغم اتساع الجرح في ساحة البطن، ومضى، حيث في البيت يموت مُفردا، وبنته تشكل تمثالا بحجم الكون، وتلملم سعف النخيل وتنكت الشعر، وتدلي سباطتين على الصدر الممسوح وتقول: هذه أنا.

 

تقييم النص

يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد ! كن أول المعلقين !

التعليقات

إدراج الإقتباسات...