غوايات الخبز الحافي

غوايات الخبز الحافي


(يحكون عنكِ أن طينة الخلاص منك، وأن نوحاً منك قد تفيأ الأمان.

وأنه حمامة أو هدهد

وأنه غراب

وبين موجتين تناسلت طنجة ملء زبد البحار..)

هذا مقطع شعري كتبه محمد شكري وهو يكيل المديح لمدينته طنجة وفيها إيحاء أن طنجة سر تسميتها هو وصول سفينة نوح إلى هذا المكان، ولأن سفينة النبي مشت إلى قدرها الإلهي من الأمكنة التي تقع فيها المدرسة التي كنت أمارس التعليم فيها في واحدة من قرى الأهوار، فقد شغلتني أن يكون الطين جزء من ذاكرة المدينة وكاتبها الذي أعيش غواية خبزه الحافي منذ قراءتها لأول مرة بعد صدورها بالعربية بشهر واحد.

كنت في طنجة ذات مايو عندما زرت أحد أصدقاء الروائي الكبير محمد شكري في شقته في شارع تولستوي بطنجة، عندما أبديت رغبتي لمرافقي برؤية خط صاحب رواية الخبز الحافي عندما يدونه على إهداءاته لكتبه، فعرض عليَّ صديق شكري يبيع الخبز الحافي بإهداء شكري إليه، لكن السعر الذي طلبه كان غالياً، فعدت إلى غرفتي في فندق أطلس بشارع موسى بن نصير أحاول أن أستدرج مديره فؤاد الشعيري لنبحث معاً عن صديق آخر لشكري لديه كتاب بتوقيعه وقد ملأتني رغبة عارمة للحصول عليه، فقط لأدقق فيه مشاهد تخيلي للحظة التي سكنت رشدي، وهو يخط الملحمة الأولى من سيرة الضياع في طنجة ومواخيرها، والتي وضعها في الخبز الخالي التي وصلت إلى مدرستنا في بداية ثمانينيات القرن الماضي عن طريق معلم أخذ أخيه الذي جرح في المعركة التي استعادة فيها الإيرانيون المحمرة، وكانت الرواية قد صدرت لأول مرة والأولى كما أظن تدخل للعراق، وفي مكتبة مدرسة البواسل بريف أهوار الجبايش، وليس في رفوف مكتبات ساحة التحرير الشهيرة كما جرت العادة يوم كانت مصر تؤلف وبيروت تطبع وبغداد تقرأ.

الخبز الحافي كتبت بالعربية سنة 1972 وترجمها إلى الإنكليزية بول بولز سنة 1973، وترجمها إلى الفرنسية الطاهر بنجلون سنة 1981، ولم تنشر بالعربية حتى سنة 1982.

هناك في الليل الصيفي لقريتنا حيث القصب يصغي معنا لنقاشات القراءة الأولى لأي رواية وكتاب تُفاجِئنا بالأسلوب السري والقوي، وهي ذاتها اللحظات الأولى التي صنعت فيها لرواية دهشتها في أكاسي الأهوار ونحن نتابع قراءتها بشغف واحد بعد آخر، وبعد مرور ثلاثين عاماً على البهجة الروحية الغامضة لرواية الخبز الحافي أسير الآن بموازاة هاجسين (المدينة، والخبز الحافي) وإني لن أرهن المنجز بتأملات ثلاثين يوماً، بل كنت أرهنه بما اكتسبته من معرفتي الجغرافية للمكان من قراءات قديمة ابتدأت من قصص المكتبة المدرسية وكتبها، وانتهت في قراءاتي لرحلة ابن بطوطة وأنا في المرحلة الثانوية، وأي حالم يسبقه حلمه القديم لجديد المدينة التي يراها لأول مرة سيشعر أنه رآها من قبل لألف مرة.

الآن في لجة تلك الغواية وأحلامها البعيدة بين طنجة وقرية نائية في الماء المخضر بخليقة بعيدة، عندما جاء شكري بكتاب من دون توقيع، والآن التوقيع هنا يرتعش بشهية القراءة الأولى في ليل الأهوار، وفي جلسة تعارف وأنخاب متبادلة يقول فيها صديق شكري: إن لديه كل كتب شكري بإمضائه.

ذهب شكري كجسد وبقيت روحه في غوايات الخبز الحافي، وذهبت قرية أم شعثة كمكان فيما بقيت روح الجغرافية تعيش معي الحياة بهاجس الذكرى حيث تسكنني الآن تلك الرعشة اللذيذة في جعل قراءتنا لكلمات شكري أول مرة تغوص فيها إلى أعماق لحظة القراءة الشعرية في ليل الأهوار، وأنا أسأل قارئاً جيداً من زملائي المعلمين معنى ما يقوله شكري في هذه المقولة:

«لا تنسوا أن لعبة الزمن لعبة أقوى منا، لعبة مميتة هي، لا يمكن أن نواجهها إلا بأن نعيش الموت السابق لموتنا.. لِإماتتنا: أن نرقص على حبال المخاطرة نُشداناً للحياة».

نبذه حول الكاتب

روائي و شاعر و أديب من العراق

تقييم النص

يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد ! كن أول المعلقين !

التعليقات

إدراج الإقتباسات...