أوّلاً: قوانين روائية
قد يطيب للبعض القول: أنّ الإبداع على اختلاف أشكاله وحقوله المعرفية إنما هو اندفاعة تتحرّك بتحفيز من ومضةٍ فكرية آنية. شيء أقرب إلى (يوريكا) التي أنطقت أرخميدس وهو في مغطس حمامه ! قد يكون الابداع - في كلّ تلويناته - حالة عقلية عصية على الاخضاع للتوصيفات الدقيقة والتعليمات الشبيهة بوصفات الطعام ؛
لكنّ الامور ليست سائبة النهايات ؛ فكلّ فعل إبداعي لابدّ أن يكون حصيلة تدريب طويل وشاق يتيحُ للجهاز الفكري البشري أن يبلغ آفاقاً لم يبلغها من قبلُ. لايمكن أن نتوقّع لحظة (يوريكا) أرخميدسية تختارُ أحداً من غير تدريب شاق مسبق ؛ فالإبداع في نهاية المطاف ليس منحة مجانية تسبغها الآلهة على أناسٍ متبطّلين.
ربما سيكون كلاما معاداً أن نتحدّث عن قوانين للرواية. الرواية ليست فيزياء أو كيمياء أو رياضيات، والقوانين في نهاية الأمر مسألة تختص بها المباحث العلمية كما هو معروف في مواضعاتنا الثقافية العامّة. لقد قرأنا الكثير عن القوانين التي أراد لها بعضُ الروائيين أن تشيع لتكون بمثابة تعليمات شاملة للكتابة الروائية (هاروكي موراكامي، أليف شافاك وآخرون) ؛ لكنّ هذه القوانين المقترحة لاترقى إلى مرتبة القوانين الشاملة فهي تختلف إختلافاً بيّناً من كاتب لآخر ، وبالتالي فهي تفتقد لصفة العمومية الشاملة، ثمّ أنها مهما بالغت في إدعاء شموليتها المزعومة فهي ليست سوى إختيارات فنية شخصية تمثل مقاربات محدّدة في آلية الكتابة السردية يروّجُ لها أصحابها ويرون فيها مسالك آمنة في غابة السرد الروائي، وتبقى الفردانية المفرطة السمة المميزة لمثل هذه الرؤى الشخصية حتى لو حقّقت في مواضع محدودة – مع قليل من الصنعة الروائية- نجاحات لايمكن نكرانها أو الإلتفاف عليها.
قادتني مهنتي الروائية إلى اعتماد قوانين محدّدة في صناعة الشخصية الروائية، وهذه أقربُ إلى موجّهات وأدلة عامة في الكتابة الروائية. سنرى أنّ هذه القوانين أقرب إلى بديهيات قد لاننتبه إليها في حياتنا اليومية الصاخبة، وهي بديهيات مستمدّة من علم النفس المعرفي وفلسفة العقل وليست أفكاراً نابعة من الفضاء السردي ذاته (ولهذا السبب بالتحديد يصحُّ تسميتها بميتافيزيقا الكتابة الروائية لكونها تتماثلُ مع قوانين النظم الشكلية Formal Systems لأنها غير مُسبّبة فنحن نقبلها قبولاً ناشئاً عن قناعتنا بها مثلما يحصل مع النظم الإعتقادية Belief Systems). أريد القول أنّ الفعالية الروائية منشط فكري أوسع بكثير من نطاق الدراسات الروائية ؛ بل تتجاوزها إلى دوائر معرفية كثيرة تجعل منها (والسردية بعامة) حقلاً معرفياً يشتبك مع حقل الدراسات المعرفية.
إذا كان أمر اختيار مايوصفُ بقوانين للرواية حتى اليوم (كما فعلت نخبةٌ من الروائيات والروائيين) جهداً بشرياً متصفاً بالفردانية المفرطة، ومقتصراً على آليات الكتابة الروائية وموضوعاتها ؛ فما الجدوى إذن من محاولتي تشخيص قوانين للرواية؟ أقولُ أنّ محاولتي تختلف إختلافاً كاملاً عن المحاولات السابقة التي قدمها روائيون وروائيات من عالمنا: ماأسعى إليه في القوانين التالية هو رسمُ خارطة مفاهيمية لقوانين محدّدة لكلّ فاعلية روائية (وليس قوانين حاكمة لآليات الكتابة الروائية أو موضوعاتها أو أية تفصيلة أخرى تقع داخل الهيكل السردي للرواية) ؛ وبالتالي يمكن توصيفُ هذه الخارطة بأنها أقربُ إلى المخطّط المفاهيمي الذي تعبّر عنه القوانين الثلاثة للفيزياء النيوتنية. لن يخفى على القارئ صفة العمومية في هذه القوانين والتي ينقادُ لها كلّ عمل روائي، وسيكون الأمر أقرب إلى لعبة ذهنيةمشوّقة عندما نحاولُ تطبيق هذه القوانين على الأعمال الروائية التي عرفناها (أو سنعرفها)مستقبلاً.
سأحدّدُ هناالقوانين المقترحة للرواية بعبارات قليلة مختصرة، مع ملاحظة أنّ السرد هنا يعملُ بمثابة جسم معرفي معادل للرواية رغم أنّ الفاعلية السردية أوسع نطاقاً من الفاعلية الروائية:
القانون الاول (قانون الامكانية): وهو أن كلّ مايمكن تخيله يمكنُ تضمينه في سياق فعالية سردية
يحضرني في هذا المقام اهتمام مؤسسة ناسا الفضائية لتوظيف روائيين معروفين (ليسوا بالضرورة من كُتّاب رواية الخيال العلمي) وكذلك المخرجين السينمائيين في جهود تصميم المركبات الفضائية التي تعدّ للهبوط على كواكب بعيدة (مثل المريخ)؟ كيف حصل هذا؟ يعرف مسؤولو ناسا بالتأكيد، وعبر تأريخ فكري طويل من الخبرات، أنّ العقل الروائي أو ذلك السينمائي الذي يوظّف الجهود الروائية في أعمال مرئية هما بين أفضل العقول التي يمكنها تقديم حلول مناسبة لمعضلات تقنية كبيرة ؛ فالفاعلية الروائية (وهي نتاج خيال خلاق) وهي تحوّلُ الخيال إلى منتجات روائية فإنها غالباً ماتختارُ مقاربات ممكنة في إطار الجهد البشري حتى لو كانت هذه الإمكانية غير متاحة في وقتنا الراهن. هذا هو بالتحديد ماحصل في الروايات العظيمة (سواء في حقل الخيال العلمي أو سواه).
القانون الثاني: (قانون العوالم المتوازية) ومفاده أنّ الخيال البشري شيء أكبر من المرئي والمحسوس، وأنّ مانكتب عنه قد لايحصل في عالمنا الواقعي بل في عوالم متوازية
يتماثلُ هذا القانون مع فكرة العوالم المتوازية في ميكانيك الكم، والتمثلُ الروائي لهذه الفكرة هو أنّ الحدث الروائي يمكنُ أن يحصل في عالم موازٍ لعالمنا بصرف النظر عن مدى معقوليته لنا أو إستعصائه على إمكانية التحقق في عالمنا المادي بسبب نقص القدرة التقنية أو لغرائبيته بالنسبة لكينونتنا البشرية. واضحٌ أنّ مفهوم العوالم المتوازية يمثلُ عنصر شحنٍ فائق في قدرته على الإرتقاء بخيالنا البشري لتجاوز كلّ المحدّدات الواقعية التي نضعها أمام إمكانياتنا البشرية وتوسيع آفاق تعاملنا المادي في نطاق وجودنا المادي المحكوم بمحدّدات طبيعية أو متخيلة.
القانون الثالث: (قانون الاحتمالات المتناقصة) ومفاده أنّ التشخيص الروائي يقلّل من الاحتمالات الممكنة لمآلات الشخصيات الروائية
هنا تكون الرواية عند خطّ الشروع أشبه بولوجنا عالماً شبكياً Networked كثيف التعقيد، مثل عالم غوغل مثلاً. في اللحظة التي ننقر فيها على البحث في موضوعة محدّدة نكون قد غادرنا الفضاء الغوغلي المشتبك نحو فضاء محدّد تكون الروابط الرقمية فيه – بالتبعية – أقلّ تعقيداً واشتباكاً من الفضاء الغوغلي العام عند نقطة الشروع، وعندما نقصرُ البحث عن تفاصيل محدّدة من تلك الموضوعة المختارة إنما نكون قد قلّصنا حجم ودرجة تعقيد الإشتباكات الثانوية. تفيد هذه المقاربة الغوغلية في توصيف مايحصلُ عند رسم الشخصيات الروائية، ويكمن جزء من البراعة الروائية في انتخاب شخصيات يتفق المتبقّي من روابطها البشرية مع شكل وطبيعة التشكيلة العقلية والنفسية التي يريدها الروائي لتخدم عمله وتعزّزه.
القفي فلسفة الروايةانون الرابع: (قانون الخبرة و/أو الاخلاقيات)، ومفاده أنّ الرواية تعملُ على تعزيز منسوب الخبرة البشرية لدينا و/ أو منسوب الأخلاقيات البشرية
ماالذي ترجوه كلّ رواية؟ إنها تبتغي الإرتقاء بالخبرة البشرية و/أو تعزيز أخلاقياتنا البشرية في التعامل مع الناس والطبيعة. الخبرة البشرية هنا تعني تحديداً كلّ معرفة تجعل البشر يعيشون حياة طيبة (طبقاً للمواصفات الفلسفية المعروفة) وبكيفية سعت كثير من الفلسفات القديمة والجديدة لتعزيزها، أو أنّ الخبرة البشرية تعني حلولاً أفضل لمعضلات إنسانية وتقنية. ولابد هنا من الإشارة إلى أنّ الأخلاقيات Ethics شيء يتمايز عن الأخلاق Morals: الأخلاقيات هي أقرب إلى أعراف متفق عليها أو مدوّنات سلوكية ترتقي بنوعية الحياة الانسانية.
لابأس من الإشارة أيضاً إلى أنّ عنصرَي المتعة والابتكار الخيالي للرواية إنما يعدّان في نهاية الأمر ضرباً من المسعى الخلاصي الذي تتوفّر عليه كل رواية حتى لو تقنّع هذا المسعى في صيغة مضمرة أو في ثيمة صغيرة بدلاً من الموضوعات الإنسانية الوجودية الكبرى ؛ وعليه يمكن القول، وطبقاً لمواضعات المنطق الأرسطي، أنّ عنصرَي المتعة والخيال في الرواية يعزّزان إمكانية الإرتقاء بنوعية الحياة البشرية، وبالتالي فإنهما يساهمان في شدّ أزر الأخلاقيات البشرية.
القانون الخامس: (قانون الأنتروبيا الروائية)، وهو قانون متصل بالقانون الرابع وناتج عن مفاعيله، ومفاده أنّ العمل الروائي يساهمُ في تناقص الأنتروبيا المجتمعية
لأوضّح أولاً المقصود بالأنتروبيا Entropy الفيزيائية: الأنتروبيا (الشواش أو الفوضى أو التشتت في المكافئ العربي للمفردة) هي إحدى المعالم المميزة للقانون الثاني في الديناميكا الحرارية الذي لعب دوراً عظيم الأهمية في تأريخ العلم، ومفاده أنّ المنظومات الطبيعية تميلُ إلى زيادة الفوضى لو تُرِكت لحالها من غير مؤثر خارجي.
الرواية، ولأنها تعملُ على تعزيز منسوب الخبرة البشرية و/ أو الاخلاقيات البشرية، فإنها تساهمُ في تخفيض مناسيب الحيرة والتشتت والمتاهات الفكرية غير المنتجة، وبالتالي هي تعمل على تقليل منسوب الأنتروبيا المجتمعية الكلية وجعلها قادرة على العمل الجاد والمنظّم والموجّه نحو أهداف كبيرة، وهو الأمر الذي تفتقده – للأسف – المجتمعات الغائصة في مستنقعات التناحر الداخلي والصراع المجتمعي.
الخلاصة من هذه القوانين الروائية: الرواية منتجٌ يمثلُ أحد المنجزات الحضارية الرائعة للإنسان، ولو تفكّرنا في طبيعة القوانين الحاكمة لكلّ الأعمال الروائية فيمكننا حينئذ توظيف الاعمال الروائية الحقيقية في الإرتقاء بنوعية الحياة البشرية وتعزيز ممكنات الفعل الفردي والمجتمعي ولجم بعض منغّصات الحياة.
ثانياً: صناعة الشخصية الروائية
تعزّزت قناعتي مع سنوات عملي الروائي بأنّ الشخصية الروائية شهدت دورة ثلاثية شبيهة بالمنحى التطوري للحرفة الروائية ذاتها، ويمكن تشخيص هذه المتتابعة الثلاثية في تشكيلة (الواقعي – التأريخي – الميتافيزيقي).
تتخذ الحرفة الروائية عادة نمطاً ممّا يمكن تسميته بالتأريخ الفكري للكتابة الروائية (على نمط التأريخ الطبيعي للموجودات البشرية أو الطبيعية): يبدأ الروائي في العادة حرفته مستعيناً بواحد من الشواخص الواقعية الماثلة أمامه، وغالباً مايكون هذا الشاخص إنسانا يمتلك الروائي خبرة يومية معه (الروائي ذاته وعلاقاته اليومية المترابطة على سبيل المثال). تبدو هذه الستراتيجية مقاربة آمنة لمن يودّ تجريب الكتابة الروائية في بداياته ؛ فالكاتب يخشى المآلات اللاحقة لشخصياته الروائية وماقد ينجم عنها من تعقيدات غير محسوبة العواقب ؛ لذا فالتوجّه الآمن له هو إعتمادُ سلسلة مختبرة من التشابكات اليومية (تكون في الغالب نُتَفاً من سيرة ذاتية أو مشهديات تحتفظ بها الذاكرة البصرية للروائي). الروائي في هذا الطور من حرفته يخشى الانغلاقات غير المحسوبة، وتكون الرواية لديه أقرب إلى طبخة يريد ضبط مذاقاتها حسب الوصفات المكتوبة. الروائي في هذا الطور كائن هش رجراج يميلُ لاعتماد سياسة (كل شخصية روائية هي مثال موازِ لشخصية واقعية)، وتلك سياسة التقابل الواقعي التي خبرها جميع الروائيين - كما أظنّ -. تندرجُ الاعمال الروائية الريادية المسماة (الواقعية الطبيعية أو التصويرية) تحت هذه الطائفة ؛ بل حتى أنّ شخصياتها الروائية صارت أقرب إلى أمثلة عالمية عن البؤس الانساني أو التنمّر البشري (روايات تشارلس ديكنز مثلاً) .
يلجأ الروائي في طور ثانٍ من حرفته الروائية إلى اعتماد السرديات التأريخية وتوظيفها في شكل تخييل تأريخي، وواضحٌ أنّ هذه المقاربة تتيحُ له التفلّت من أسر العلاقات الإنسانية الصارمة المتاحة له في مشهديات يومية. هنا يبدأ الروائي في تفعيل المقدرة الروائية ومحاولة تخليق شخصيات روائية متجاوزة لواقعه المرئي.
المرحلة الثالثة في التطور الروائي هي تخليق الشخصيات الميتافيزيقية، وبالتأكيد تُعدُّ هذه المرحلة أكثر المراحل مشقة على الروائي لأنها ببساطة محاولة الحفر الروائي في أرض روائية غير ممهّدة، أو لنقل هي محاولة اصطناع عالم موازٍ بعلاقات بشرية مستجدة. أرى أنّ معظم الكتابات الروائية على الصعيد العالمي صارت تجارب بشرية غير مختبرة مسبقاً تجري وقائعها في عوالم ميتافيزيقية، ومسوغ هذا التوجه هو انفتاح الآفاق المتوقّعة للبشرية في السنوات القليلة القادمة على أنماط عيش جديدة بالكامل بفعل مؤثرات الثورة التقنية الرابعة ومفاعيل الذكاء الاصطناعي المتعاظمة. الرواية في نهاية المطاف ليست سوى مجسّ اختباري لتوصيف الوضع البشري والعلاقات الحاكمة بين البشر والموجودات الطبيعية وشكل الاخلاقيات السائدة والمترتبة على أنماط التعامل هذه ؛ ومن هنا فإنّ الشخصيات الروائية الميتافيزيقية تبدو طبيعية للغاية في هذا الفضاء الروائي.
أديبة وروائية من العراق
يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا
لا يوجد تعليقات بعد ! كن أول المعلقين !
لا يوجد اقتباسات