لا دموع هنا

لا دموع هنا


لم يكن يعرف شيئاً عن ويلاتها سوى ما يسمعهُ، وما يتناقلهُ ضحاياها أو أهلهم من أخبار.. 

إنها (الحرب) التي لا تفرق بين البشر والحجر. تلك الماكنة التي تلتهم كل من يقف في طريقها ثم تعود فتلفظه مثل حطام لا يصلح لشيء..

فوجودك هنا يصبح رهناً بالزمان والمكان، ويبقى مصيرك يتأرجح بينهما.

على رأسي خوذة معدنية، وأرتدي بزة عسكرية بلون التراب، وجعبة صغيرة معلقة في وسط حزامي العريض، وبسطال ثقيل، وبين ساقي تنتصب رشاشتي، وفوهتها الى الأعلى.

إذن أنا جندي حقيقي، وربما بعد حين سأصبح مقاتلاً!

مازال ينظر بدهشة إلى لباسه العسكري وإلى الجنود من حوله وقد ارتسم على وجوههم العبوس والحيرة.. فبقدر ما كانت الأسئلة تتصادم في ذهنهِ بقدر ما كانت الأجوبة تضيع مع المجهول، وبذات الدهشة والاستغراب عاد ينظر الى رشاشته الواقفة بين ساقية يطوقها بيديه متلمساً بأصابعه معدنها البارد والصلب، وكأنه يستنطقها.. هل ستحميني؟ 

وأي عقلٍ جهنمي هذا الذي صنعك؟ فكر متسائلاً

فيما مضى كانوا في معاركهم يستخدمون سيوفاً حادةً مدببة الرؤوس، وهذه لا فائدة منها بغير ما التحام.

كانوا يغيروا على بعضهم، ويتقابلون وجهاً لوجه ممتطين خيولاً أو جمالاً أو راجلين، وكل مَن يسبق في طعن عدوه ربما ينجوا بنفسه من اتون المعركة.

ولكن اليوم، ما عليك إلا أن تسدد بندقيتك، وترسل رصاصاتك من بعيد، وتنتظر إن كانت نار المعركة ستندلع أم ستبقى صامتة.

لابل عقولهم تفتقت بما هو أفظع، لقد صاروا يمطروك بوابل من (متفجرات) ثقيلة، وما هي سوى لحظات، وبمجرد أن ينجلي دخانها حتى تجد أمامك أجساداً قد تحولت الى كومة من لحم محترق وعظم مطحون ...لقد اختصروا المسافات، وزادوا في كمية القتل.

لا يدري كم أستغرق من وقتٍ وهو يفكر هكذا، قبل أن تظهر له ومن معه سلسلة ترابية شبيهة بتلة طويلة وجمع غفير لجنود منبطحين مع أسلحتهم على سفحها.

كان يظن انها نقطة النهاية، ولكن لا .. فربما الهلاك يكمن خلفها!

تدحرج خلسة مع بعض الجنود أسفل تلك التلة المصطنعة نحو الجهة المقابلة.

فألف نفسه في أرض جرداء لا تضاريس لها، ولا حياة.. قفار منبسطة على امتداد البصر تكاد تعانق الأفق البعيد في نهاياتهِ.

ساروا بممرات ترابية ضيقة مثلما سار اللذين من سبقهم، ولم يكن يسمع أثناء سيرهم سوى قرقعة ما يحملونه من أدوات ولهاث أنفاس متقطع، ودوي متفجرات قادم من بعيد.

بعد بضعة أمتار عن الساتر الذي أمسى خلفهم، ظهرت شقوق طويلة متعرجة حُفِرت بعناية، ورصفت بأكياس معبئة بالرمل، ودُعِمت بألواح ٍ خشبية سميكة كي لا تنهار جوانبها، وتمتلئ بالتراب.

بأمر من الضابط المسؤول، وجد نفسه في هذا الموقع المتقدم مع جنود آخرين.. مهمتهم كانت (الاستطلاع).

وكان هذا قد كرر على مسامعهم المهمات الموكلة إليهم، وبصيغة آمرة أخبرهم، من أن عملهم هنا مؤقت، وإن استبدالهم سيتم بحسب الضرورة.. فَهِمتْم؟ قالها بصرامة

فردد الجميع بصوت واحد (نعم) سيدي.. انسحب الضابط، ولم يرهُ مرةً أخرى. 

حيا من كان واقفاً في تلك الأمتار من الشق، وتعرف على نائب الضابط، وهذا قد رد التحية بشكل رسمي دون أن يزيح ناظور المراقبة عن عينيه. رجل ضخم الجثة طويلها، وذو صوت جهوري يتناسب وحجمه الكبير. أما مساعده فبعكسه تماماً، نحيل البنية قصيرها، ولولا شواربه لكان وجهه أشبه بوجه طفل.. ما لفته به أنه كان مرحباً ومبتسماً.

على أحد أطراف الشق، ومن جهته الجنوبية كانوا قد حفروا شقاً آخرَ، مربع الشكل مسقف بأعواد متراصة، وضعوا عليه قماشاً سميكاً كالذي يستعملونه في الخيام، ونثروا فوقه التراب، بقصد التمويه.. في هذا المكان يمكن للحراس التناوب أثناء سويعات النوم أو تناول الطعام.

لم يكن يعرف كم ستدوم هذه المهمة، وكم من ليلةٍ سيقضيها هنا قبل انتقاله الى مكان آخر فذلك كله سيخضع للأوامر، كما قال الضابط قبل قليل.

قال نائب الضابط موجهاً كلامه لي: أنت تعرف ما عليك فعله وكيف لك مراقبة ما يحيط بنا اليس كذلك؟ عليك ألا تكتفي بما تشاهده بل لابد لك من أن تصغي جيداً فللاذنين أهمية بالغة في عملنا كما تعلم. أجابه:

أطمئن فأنا منصتاً جيداً، وسمعي لن يخذلني.

فاستطرد قائلاً، أن نوبة حراستك لهذه الليلة ستكون الثالثة.

كان الليل قد أرخى سدوله، وشمل المكان بسكونه المريب.. حتى خال أن كل شيء هنا يراقب كل شيء! رفع رأسه نحو السماء، وتسأل: هل الليل مختلف عن الليل هناك؟ والنجوم أليست كثيرة هنا أيضاً؟

ربما لا وقت لعدها في هدأة الليل هذه كما في سطح دارنا...والبدر بلونهِ الفضي هو نفسهُ مثلما تعودت أن أراه، وإن بدى أصغر قليلاً.

الأنسام تهب باردةً مداعبة جفون النعاس فيحتضنها بغفوةٍ حانية لم يوقظه منها سوى صوت (المساعد) وهو يسألهُ إن كان نائماً أم مستيقظاً؟

فأجابه: كلا لستُ نائماً فقط هي إغماضة عين.

قال: لا عليك فالبعض يداهمهُ النعاس، وإن كان واقفاً. 

سأذهب لأستلقي ريثما يحين وقت حراستي.. اراك لاحقاً

كان نائب الضابط قد سبقهُ الى النوم.

وضع عدته بجانبه، وألتحف ببطانيته، ونام.

استفاق حينما كان نائب الضابط يهزه من كتفهِ بغية ايقاظه.

فقفز من مكانه مرتعباً.. قال له: - هون عليك يا أخي، لقد حان وقت مناوبتك، ويبدو أنك كنت تحلم.

كم كان يود لو يستمر في نومه، ولكن ماذا عن الحراسة؟

تناول زمزميته، وسكب قليلاً من الماء على رأسه ووجهه ليطرد بقايا النعاس.

اعتمر خوذتهُ، وحمل رشاشتهِ، وسار بتؤدة الى حيث كان يقف النائب الضابط.

وبدأ يراقب المكان.

قال يحدث نفسه: لقد وقفنا معاً، ونام كلٌ منا لساعاتٍ، وها أنا أقف مجدداً بنفس المكان، والليل لما ينقضي بعد!

أنه ثقيل، وبطيء، وسكونه يزيد المرء وحشة، ويجعل النفس موزعة بين الذاكرة، وخارجها.

لم تعد السماء ترسل من النور إلا ما كاد يكفي لتمييز ظلي المرتسم على صفحة الشق.

في هذا الليل الذي أصبح حالك الظلمة بعد اختفاء القمر، وانطفاء النجوم في الأعال، لم يبقى له سوى أن ينصت، لابد له من الاعتماد على أذنيه. أن تمييزك للأصوات في مثل هكذا أجواء تجعلك وكأنك ترى بعينك.

أبتعد بضع خطوات ثم عاد الى مكانهِ.. كان يخشى من ذاكرته أن تأخذه بعيداً بحيث يفقد 

معها التركيز، ويسهو عن واجبهِ، فالراقدين امانة في عنقهِ، وليس من العدل العبث بالأمانةِ.

ولكن كيف لي أن أحجر على عقلي، وأمنعه من التحليق خارج هذا المكان أو اختراق سكونه؟

ليس هناك ما أشغله به.. فالعقل بإمكانه أن يذهب حيثما يشاء، وبلا استئذان.

انهُ ذلك الصندوق المدهش الذي يعني لي الانتصار على كل هواجس الخوف، وسطوة الترقب.

كان ينظر الى الأعلى ولم يكن متأكداً من ذلك الذي يخطف بصره بين حين وآخر إن كان شهباً أم هي ومضات إطلاقات تشبهها!

أخذ الليل يلملم بطانته مُفسحاً المجال لضوء النهار أن ينشر خيوطه.

خرج المسؤول، ومساعدهُ من مكمنهما، وأتخذ كل منهما مكانهُ للمراقبة.

أشعل نائب الضابط سيجارة الصباح، وسحب منها نفساً عميقاً ما لبث أن أطلقه من أنفه، وفمه كأشرطة دخانية متقاطعة .

قال له: ألا تتناول فطورك، وبعدهُ تدخن؟

أجابهُ متجهماً..

- سيجارة الصباح أولاً، والافطار تالياً، مضيفاً: يكفيني أنني نمت ساعات ولم أدخن فيها.

قال مبتسماً: وهل تريد أن تدخن حتى في نومك؟

جاء أحد الجنود بعلب الطعام، ثم غادرهم ليوزع بقية الوجبات على الجنود.

أتخذ المساعد زاويةً، محتضنا طعامه، فيما وضع نائب الضابط علبته على حافة الشق، وجلس هو القرفصاء في مكان بالقرب منهما.

بعد أن فرغوا من تناول وجبتهم، أخرج المساعد سيجارته، وبدأ يدخن بمزاج سمح وهادئ.

قال له: ألا تجد أنه من الضروري أن تنظف سلاحك وبقية المعدات، فقد تكون الاتربة قد نالت منها؟

كان قصد المساعد، السيطرة على الوقت.. ومليء فراغ الانتظار.

أخرج من جيبه خرقة تشبه المنديل، وبدأ بمسح رشاشته، ومخازن العتاد.

مسك رصاصة، وقلبها بأصابعه بعد أن اطال أليها النظر. توجه بالسؤال الى المساعد،

- بالله عليك، كم يساوي ثمن هذه الرصاصة؟ ألا تظن معي أن ثمنها قد لا يساوي أكثر من ثمن قطعة (سكاكر) واحدة؟

أجابه المساعد بابتسامة تعبر عن مرارة ما بداخلةِ: ربما أقل، خصوصاً أذا كانت قطعة (السكاكر) من النوع الجيد!

شاركهم النائب ضابط حديثهم هازئاً: في المعارك يصبح دمك أرخص منها أحياناً.

عاد الصمت ليخيم على الحاضرين من جديد. ففي النهار ليس مسموحاً للعقل أن يجمح بعيداً. عليك أن تمعن في تركيزك الى أقصى مدياته، فالسهو يكلف أرواحاً.

الصمت، وانتظار المجهول عدو آخر، يدفع بالبعض الى اليأس، والقلق..

الوقت يمضي ببطء، والهدوء يخفي أسرارا لا يمكن سبر أغوارها، ولعبة ذلك هو (الصبر)، فان فقدته انزلقت الى حافة التوتر، ووجع الترقب..(اللاحرب، واللاسلم)، هو قاتل خفي آخر يمكن له أن يجرحك من داخلك دون أن يريك قطرة دم واحدة .

بادر يسأل المساعد، قل لي من فضلك..

لاحظت أن النائب ضابط مقل في الكلام، وقليل المجاملة! فلماذا هو متحفظ هكذا؟

أجابه:

- لقد مضى على مرافقتي له أكثر من عام، وعرفت فيه رجلاً ذكياً وشجاعاً ومع ذلك لكل منا نقاط قوة ونقاط ضعف تظهر أحياناً بوضوح في مثل هكذا ظروف.

في وقت سابق تحدثنا معاً عن هذا الموضوع.. فقال لي أنه كلما اتسعت علاقات الصداقة والتعارف مع الجنود أثناء الواجبات كلما ازداد حزنه على فقدهم في جولات المعارك.

وعليه آثر أن تبقى علاقاته مع الجنود بحدود الواجب.. على أن تفجعه لوعة افتقادهم.

بهذا الشكل فهمت تعامله مع الآخرين، فلا تآخذه على جديته المفرطة يا عزيزي.

أتَفَهمُ جيداً معاناته، وأقدر له عمله.

- هل انت من العاصمة؟ سأله المساعد

- نعم أنا من هناك، أجابه. 

-وأنتَ من الجَنوب اليس كذلك؟ أجل من الجنوب.. وقبل ان يسترسل في كلامهُ، وما هي سوى لحظات، حتى سمعوا رشقات رصاص قريبة المصدر. لا بل بعض منها اخترق أكياس التراب، وهذا ينبئ بأن العدو كان على مقربة من موضعهم.

أتخذ كل منهم حالة الاستعداد وقبل أن يقرروا التراجع، والانسحاب انهمرت القذائف كزخات مطر كثيف، بحيث أصبح تجنبها عسيراً. فليس أمامهم سوى الرمي باتجاه مصادر الاطلاق بغية اسكاتها، ودون ما توقف ريثما يتم تغطيتهم من قبل نيران المساندة.

كان يحاول تلقيم رشاشته، وقبيل احتدام المواجهة.. إذ بقوة ٍ هائلة تنتزعه من الشق وترفعهُ في الهواء، وتقذف به في حفرةٍ واسعة وعميقة أفقدته القدرة على معرفة مكانه.

كان متكوراً في قعرها، يبحث عن ثقب أو حفنة من تراب تقيه هذا الجحيم المرعب. لقد ضاق بهِ المكان، ولم يجد من حوله ما يداري به نفسه.

كان يشعر (هذا أذا كان يعرف حقيقة مشاعره)، أن كل هذه الأرض الشاسعة، وكل هذا العالم

المحيط به قد تجمع في قاع حفرة ! كان ينظر من حوله، وقد اختلط كل شيء مع بعضه البعض.

قذائف تنفجر، ورصاص يئز، وهدير يزلزل الأرض، واصوات جنود يصرخون، وغبار يغطي المكان.. فإذا لم يكن كل هذا جحيماً، فما الجحيم أذن؟ أوليس هو الجحيم بأقسى صوره تدميراً، وأيلاماً؟! أين أنا؟ وأين الآخرين؟

نهض من وسط الركام، وبالكاد وقف على رجليه، جال ببصره.. لقد أضحى كل ما يحيط به يشي بهول المأساة.

خوذ مثقبة، وأشلاء ممزقة، ورؤوس طمرها التراب.. بساطيل، أوسمة، نياشين، أنواط، ونجوم بلا بريق... وهذه..ما هذه؟ يد مبتورة كانت ماتزال قابضة على زناد الرشاش.. كاد أن يدعس عليها بقدمهِ!

لم يكن يعرف كم من الوقت أمضى وهو راقد هنا قبل أن يصحو من غيبوبته .. فتح عينيه فوجد أمامه شخصاً يرتدي صدرية بيضاء، ويضع حول رقبته سماعة طبية، وبجانبه امرأة ترتدي ذات الملابس، وكل ما في المكان لونه ابيض. 

- حمداً على سلامتك، لقد أجرينا لك عملية جراحية تكللت بالنجاح (مبروك)! وها أنت تجاوزت مرحلة الخطر، سترقد بضعة أيام، وحينما نتأكد من حالتك سنسمح لك بالمغادرة.

أراد أن يعتدل في جلسته فعاونته الممرضة على ذلك.

نظر من حوله، والى جسده، وقد غطي بالضماد في أكثر من موضع.

سأل الطبيب بصوت متهدج: دكتور أين ذراعي؟

- ذراعك هناك، لقد فقدتها في الجبهة..

- التفت الى موضعها من جسمه، وقد نزلت دموعه على خديه:

- نعم تذكرت.. كدت أتعثرُ بها!

تقييم النص

يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا

التعليقات

صديقي الأعز قيس لطيف المحترم قصة محزنة، عشت لحظاتها حتى النهاية قرأتها وبقيت تحت تأثيرها لوقت طويل..فكلنا يعلم مأساة الحرب التي مررنا بها، ولكن لا يدرك حقيقتها إلا من فجع.. أم ثكلى، وامرأة ترملت، وصديق مفقود.. كلهم ذهبوا وبقينا نحن نتألم حتى وإن لم تطال الحرب أحد من أهلنا.. دمت صديقي مبدعاً، ومخلصاً لما نشأت عليه من إنسانية محبك عامر
قيس لطيف

22-04-2021 04:10

صديقي الاعز الأديب والمترجم عامر كامل المحترم أشكر لك تفاعلك مع النص .. وأضم صوتي الى صوتك وأقول : ان الحوار والاعتراف بالحقوق والسلم لهو خير ألف مرة من ساعة حرب واحدة .. فاللحروب أثمان هائلة لا نرجوها لأي كان سواء اختلفنا أو اتفقنا معه. " لتحل اللعنة على كل منتجي ومشعلي وتجار الحروب اينما كانوا " وليكن السلام خيارنا صوب المدنية والتحضر ، وخدمة الانسانية . شكراً على هذه الاطلالة الطيبة .. صديقي الطيب . صديقك قيس لطيف

التعليقات

إدراج الإقتباسات...