أنبهر كل مرة قرأت فيها نصا قصصيا للعلامة الدكتور علي القاسمي. هو يرد متواضعا، برسائل إلكترونية، على تعليقاتي وثنائي وتمجيدي واعتزازي بكتاباته بعابرة تتوسط أقواله دائما ".... لأنك تحبني .....". في واقع الأمر، أنا لا أحبه فقط، بل قراءتي لقصصه تجعله ثابت الوجود في حياتي وبين أفراد أسرتي. فعمق ما يخفيه في عباراته الإبداعية يجعلني دائم التأمل منذ انفتاح أجفاني صباحا إلى إغماضها مساء. أحس وكأن مجموعاته القصصية تبحث استنهاض معدن ذكاء ثمين في ذاتي، مدربة إياي للغوص بحنكة وخبرة في مكامن الإبداع الغائرة. وبذلك، تنتابني رغبة إدمان متواصلة لاحتراف الأدب ومشاربه المعرفية، ملتصقا بتغذية حماسي وطموحي بشكل متواصل، مشرئبا أفق إتقان الغوص في هاته الأغوار إلى أن أصطدم بسطح عتبتها السامقة. وهذا المبتغى لا يشكل في واقع الأمر إلا حقيقة طموح سمو في المعرفة، وفي نفس الوقت اقتناع بلا متناهية الآفاق.
فتاة جميلة بكمال الجمال الظاهري، بجسدها المنحوت والمختوم في عليته بوجه صبوح فتان، عاشت خلال سنوات عمرها الوردي أحداثا مؤلمة، تراكمت عن أحداث طفولتها. رأت النور في أسرة انطلاقا من لحظة متعة جسدية عارمة. ترعرعت في فضاء متواز مع عالم آخر اعتنق الأنوار عقيدة، ورسخ التربية والتعليم بمقوماته العلمية المتطورة عبر العصور. تبعثرت تمثلاتها البسيطة بفعل صدى وتأثير نهضة عالم يناضل من أجل مقاربة النوع. تجبر الاستلاب على أذهان الذكور والإناث من أبناء العروبة والإسلام. كبتت فكرة البحث عن الملاذ في النفوس المشتاقة لحياة الأحياء وليس الأموات، واختل التوازن في العلاقة مع الذات ومع الآخر. العوز والفاقة تدفعان بعض الآباء والأمهات والأولاد إلى احتراف النصب اللطيف وممارسة جاذبية الأجساد، ويستسلم البعض الآخر للانحراف والبطش والاستيلاء على الغنائم وكأننا نعيش وضعا شبيها بحرب البسوس، بينما يحدث نفر نبهه الله بقدرته وقفة تأمل اضطرارية وربانية في نفس الوقت، يترتب عنها استيقاظ ضمير حي. صور الحياة تغلب عليها القتامة والبؤس. الحياة تتهددها باستمرار نهاية غير طبيعية تتحدى الموت الطبيعي المخلص والمعلن لنهاية مهام وجود بمنطق القدر اللطيف. تخسر المجتمعات طاقاتها، ويتشنج الحكام بفعل صلابة قيادة المسار، وتولد ممارسة السلطة عنف الدولة هناك وهناك، وتشاع شرعية حديث عن تقابلات واهية ومصطنعة "استبداد/ديمقراطية"، "حرية التعبير/قمع الحريات"، "المبادرة/اللامبالاة"، "تدبير الوقت/الإنتظارية"، ....إلخ.
انتصر الوطن، بعد الملاذ واستقطاب العملة الصعبة، وبحث مستميت عن تجسيد انفتاح واقعي، وولادة قيصرية لمعاش آمن مع الآخر. قد تكون أقوال البطلة التي ختمت القصة مواقف متجدرة في نفسيتها، وقد تكون ملاذا للتهوين والترويح عن نفس مقهورة بضغط مكبوتات خانقة. تحولت الشخوص في مجابهتهم للأمواج العاتية من ضحايا مجريات حياة بائسة إلى منابع للحنان والمتعة والكسب في إطار الحياة الزوجية المقدسة بأحكام الديانات السماوية. لقد مررن من مرحلة الحب والخيبة إلى مرحلة المواجهة والانكسار، محاولين تأجيل التذكر المؤرق والحنين إلى الماضي، باحثين عن منافذ آمنة للاحتماء من البراثن القاسية وتهديدات الموت غير الطبيعي، المعبر عن صموده القاتل وتشبثه بالمكوث فوق رؤوسهن متحلقا ومتربصا بفرص الانقضاض على أرواحهن ......
أحمد الله أن رزق وجودنا، من باب الصدف، أمثال العلامة الدكتور علي القاسمي بقلوبهم الفياضة والحنونة وتوجيهاتهم الحكيمة والهادئة والمسالمة. تغرب كاتبنا الفذ حاميا كينونته النافعة لأبناء أمته الحضارية مبتعدا من تهديدات السجون والبارود الجائرة، لكنه لم يغترب بين إخوانه المغاربة. أعطى للعراق المنافع الفكرية والمعرفية المطلوبة، واستفاد منه رجال ونساء المجتمع المغربي بقربه ومتعة لقاءاته الدافئة والثرية. أحدث ثورة في الإبداع الأدبي والفكري، ويسر الرب الكريم إيصال رسائله وعبره إلى كل أبناء أمته العارفين.
يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا
لا يوجد تعليقات بعد ! كن أول المعلقين !
لا يوجد اقتباسات