وقفة مع المجموعة القصصية (زيارة غامضة) للاديبة سنية عبد عون

وقفة مع المجموعة القصصية (زيارة غامضة) للاديبة سنية عبد عون


نحن بصدد أديبة متمكنة من لغة السرد في الصياغة اللغوية الشفافة في اسلوبها المشوق والرشيق والبسيط , لكنه يدخل في عمق وصلب الموضوع , الذي يخص عينة  من عينات   الاوضاع السائدة  , وكذلك الدالة التعبيرية للحدث السردي الذي  يغوص عميقاً في المشاعر والإحساس الوجداني, تضعنا أمام مشاهد حسية من لوحة الواقع بالمعايشة والتجربة والفعل الحسي الدرامي في المسرح الحياة  , تؤطر صورة الماضي والحاضر العراقي القائم بصدق الاحساس والشعور  , في تناول الواقعي والموضوعي لمجريات مفردات الحياة العامة   , المشبعة بالهواجس والارهاصات في محطات القلق والحزن  الحياتي  , إزاء الأفعال المطعونة بمرارة المعاناة الغارقة   الى القمة في أزماتها القلقة  , وتجعلها لعبة في مهب الريح في   تداعيات  الفوضى والانفلات , واقع مأزوم بالأزمات , التي تدفع الى الوجع العراقي الى المعاناة  والإرهاق  والسأم الثقيل   , حكايات سردية تحمل الهوية العراقية ,  استلهام مفردات الواقع من خلال براعة  التناص  في محطات  التراث في التقاليد الاجتماعية , وتأثيرات في العواطف الدينية   . تصوغها  في بوتقة الخيال الفني برؤية واقعية دون مبالغة وتزويق , وهي تعبر عن روح الأوضاع  السائدة بمحتوياتها في القضايا  الساخنة بالفعل المعايشة اليومية ,   إنها باختصار تقدم الإرهاصات السيكولوجية  التي تجرفها مفردات كثيرة   . وتعطيها الجانب  السلبي , الذي  يخنق الروح العراقي وتجعله يخرج عن طوره بالغضب والحزن . هذه حفنة ( غيض من فيض ) في المجموعة القصصية ( زيارة غامضة ) التي تضم 38 قصة قصيرة , وكل لوحة سردية تمثل حدث عراقي قائم بالفعل والمعايشة ,  أو يمثل ظاهرة من الظواهر السائدة في  مسرح الحياة العام . 

× قصة : براكيتة :

 تضفي مشهداً  من المشاهد اليومية في زخم التظاهرات السلمية في الساحات والمدن واحداثها العاصفة  , ولكنها ايضاً تحمل تأويل المقارنة بين زمن الدكتاتورية .  وزمن العهد الجديد , الأول  يعتبر التظاهر السلمي اكبر جريمة ويقع تحت طائلة العقوبات الصارمة بما فيها الموت تحت التعذيب الوحشي . والزمن الحالي يجابه التظاهر السلمي بالعنف الدموي والدخانيات بالقنابل  الغازية التي تخنق الأنفاس . وبكواتم الصوت لنشطاء الحراك المدني السلمي . مجابهات يومية  عنيفة ,  حتى لا تحترم قدسية الامام علي ( ع ) عندما يرفع المتظاهرين صورته المقدسة , يعني يطالبون بالعدل  والحق وانصاف المظلومين ( كان الامام علي ( عليه السلام ) يتوسط هذه الحشود بأريج عدالته وجلبابه الذي يرقعه بيده ........ كأن قلوب الحشود تستحضر روحه الطاهرة , فخليته  بينهم رافعاً يده يومئ  بالهدوء والصبر ....... ) ص15 .

تتحدث بطلة الحدث السردي , بأنها كانت تبحث مع أبنها عن براكيتة   في المحلات التجارية للمصابيح المنزلية : وبراكيتة  هي قاعدة المصباح الكهربائي , ووجدت نفسها محشورة أمام سد الطرق وأمتلى الجو بالدخانيات الغازية الخانقة , ولم يجدوا الناس وسيلة من الاختناق الغازي من القنابل  سوى الهرب  واللجوء الى داخل المحلات التجارية . وكانت داخل المحل المكتض بالحشود الهاربة , وتقدمت لها إمرأة بالسؤال ( الأخت من أي فئة ؟ )  ضحكت بصوت مسموع وقلت لها ( أنا من فئة البراكيتة ) ص18 . ينطبق عليها المثل : شر البلية ما يضحك .

× قصة : دعوة خاصة جداً :

وهي تستلهم التناص للآية القرآنية الكريمة :

 

وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ".

شهداء الوطن وضحايا التفجيرات الدموية الأبرياء ,  ضحايا العنف الدموي للمتظاهرين السلميين  ونشطائهم الذين يطالهم الاغتيال بكواتم الصوت , جريرتهم انهم  يطالبون  بوطن , هم أحياء عند ربهم  في فردوس وجنة الله وهم الفائزين في الدنيا والاخرة . لقد اعتاد التقليد الشعبي في زيارة قبور الموتى من الاحبة , في تقدم الاطعمة والحلوى . وكانت الساردة تقوم  بزيارة قبر أبيها , وسمعت بقربها صوت حنون وحزين يناديها , من أم ثكلى فقدت فلذة كبدها وهو شاب جامعي , اخترقت سيارة مفخفخة حرم الجامعي و حولت المكان الى اشلاء متفحمة ومتناثرة , طلبت منها الأم المشاركة في الطعام والحلوى وقراءة سورة الفاتحة على أنها المغدور والشهيد , فلبت الدعوة بكل حنان وتعاطف حزين . وفي الليل في الحلم ,   وجدت ابن الأم الثكلى يتقدم اليها بكل انشراح , وهو يغتبط بالسعادة والابتهاج ويشكرها على تلبية دعوة أمه في المشاركة في الطعام والحلوى , وقراءة سورة الفاتحة على روحه الطاهرة , وكان مع مجموعة من الشباب الشهداء مرحين   ,ويقول لها الشاب الانيق والشهيد بكل وداعة وعزم وتصميم وحب ومحبة ( بالحب وحده ستكتب لك النجاة ....... الشعب يحتاج المخلصين // الشعب يحتاج المخلصين ) ص 32 .

× قصة : زيارة غامضة :

تستلهم معنى  مقولة ( القلوب سواجي / سواقي ) بأن الاحبة ضيوف دائمون على القلب وحواس الوجدان وفي الذاكرة الحية ,  سواء كانوا احياء أومن  خطفهم الموت . سمعت طرقاً خفيفاً على الباب في ساعات الليل الاخيرة , حينما كان ينتابها القلق والحزن الموجع ويقلق نومها , وحينما فتحت الباب وجدت امها المتوفية قبل عشر سنوات امامها  بوجه باسم وبشوش , استغربت  من مجيئها في هذه الساعة المتأخرة من الليل . فقالت لها الام لكي لتخفف من وطأة المفاجأة  والصدمة , بأن لا تقلق عن اولادها وزوجها فهم نائمون لا يسمعون حديثنا . ثم قالت لها الام المتوفية ( سمعت أنكِ تشكين من القلق والكآبة أو المرض ..... وانك تشعرين برتابة وملل .... وهذا ما يقلق راحتي أيضاً .... !! ) ص42 . فعلاً كانت تشكومن  المرض وعجزت من مراجعات الكثيرة  للأطباء لكن دون جدوى  ,لم تتلقى منهم العلاج الشافي , سوى الوعود الكاذبة , هذه المعضلة النفسية التي تعانيها وتقلقها , وجاءت أمها المتوفية تواسيها في محنتها ,  وتجبر بخاطرها  بالعزيمة والصبر على بلوى مرضها .

× قصة : رفيقة الارائك .

مهداة الى الطفلة الشهيدة ( مريم البابلية ) وهي تمثل رمز الطفولة المقتولة من الارهاب الدموي من الذئاب الآدمية , التي مشبعة بالحقد الاعمى على الانسانية , المشبعة بروح الانتقام الوحشي حتى من الاطفال بالتفجيرات الدموية , فكانت الطفلة الصغيرة ( مريم ) صاحبت أبيها للصلاة في الحسينية  , فداهم المصليين ارهابي مسلح بحزام ناسف فجره وسط المصلين  , وكان من ضمن الضحايا الابرياء الطفلة الصغيرة مريم علي .

 قصة : خوذة مرقطة .

 دخلت أستوديو التصوير وطلبت من عاملة الاستوديو مساعدتها في ترتيب اناقة شالها الاسود , وحاولت عاملة الاستوديو اقناعها برفع شالها الاسود  قليلاً من فوق  عينيها , ولكن المرأة الخمسينية رفضت وأبدت انزعاجها من الطلب , ثم اخرجت من حقيبتها اليدوية خوذة مرقطة ووضعتها فوق شالها الأسود ,  أي حطتها فوق رأسها , أثارت دهشة العاملة واستغرابها من هذا الفعل الغريب , لكنها اكتشفت على الفور بأن الخوذة المرقطة تعود الى أبنها الشهيد , الذي قتل في معسكر ( سبايكر ) ذبح مع اكثر من 1700 مجنداً شاباً , ذبحوا من الوريد الى الوريد , في مجزرة دموية رهيبة , نتيجة الارهاب والحقد والانتقام الاعمى الطائفي  المتعطش للدماء , أن جروح هذه المجزرة المروعة ,  تظل تنزف دماً وقيحاً عند الشرفاء ,   طالما القتلة الوحوش يظلون  بعيدين عن طائلة القانون بالقصاص العادل . تبقى مجزرة سبايكر حية في الضمائر الحية , ونقطة سوداء للحقد الطائفي الأعمى .

 جمعة عبدالله

تقييم النص

يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد ! كن أول المعلقين !

التعليقات

إدراج الإقتباسات...