“نبوة” المتنبي في ميزان الحقيقة / الجزء الثاني

“نبوة” المتنبي في ميزان الحقيقة / الجزء الثاني


وقفنا في المقال السابق مع شعر المتنبي و ما له من مؤْثرين ومستصغرين، وكنا قد قَدّمنا بشيء يسير عن حجم الكيد، وعظم المكر، وخبث التدبير، الذي أحاط بشاعرنا النحرير، وكيف ألفوا الكتب، وقذفوا بالشهب، ونظموا القصائد، وأعدوا الأخبار والشواهد، وحاكوا الحكايات لا لشيء إلا لأجل هدمه، وإخفاء ذكره، غير أن كل ذلك لم يُجدِ معه نفعًا، ولم يسفح له دمعًا، وظل كالشجا في حلوقهم، والجبل إزاء نجودهم. ويجدر بنا عند ذكر المتنبي أن نقف عند هذا اللقب الذي اشتهر به وذاع صيته فما حقيقته وكيف كان وشاع ؟

لَقَدْ عَلِمَ القومُ أَنَّا لَهُمْ ‌               إِزاءٌ، وأَنَّا لَهُمْ مَعْقِلُ

وقال آخر:

كناطح صخرة يوما ليوهنها

                              فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل

ولم يتحقق لأعداء المتنبي ما خططوا، ولم ينفذ لهم ما أرادوا.قال تعالى: {وقد ‌مكروا ‌مكرهم وعند الله مكرهم، وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال}، فتفتق ذهنهم أخيراً عن حيلة شيطانية، ومكيدة باطنية، وهي إلصاق تهمة “ادعاء النبوة”، وأي تهمة أخطر من ادعاء النبوة!! وتكمن خطورة هذه التهمة في أمرين: أولهما: إنها تعكس انطباعًا سيئًا عن مدعيها، وأنه رجل مجنون أو مأفون، وثانيهما: أن التهمة توردُ صاحبها موارد الهلكة، لذلك – قلنا- إن حادثة ادعاء النبوة في حياة أبي الطيب المتنبي تعد داهية دهياء، وعاصفة هوجاء، وأخطر حدث دهاهُ فيحياته، وبعد موته، ولذلك نرى العلماء قد اختلفوا في أمرها اختلافًا كبيراً، فذهب فريق منهم إلى تصديق الرواية المصنوعة، والأحاديث الموضوعة، والميل إلى ترسيخها، والعمل على الاستدلال لها، وعلى رأس هؤلاء :الخطيب البغدادي (انظر:تاريخ بغداد ‌‌2026)، وابن خلكان (وفيات الأعيان 1 / 120)، ومع أن الخطيب من أكابر العلماء المحققين فقد غفل عن وضع السند، وتهافت الرواية، ومن المحدَثين؛ الأستاذ اللغوي سعيد الأفغاني، وفي المقابل فريق آخر آمن بالمتنبي نفسه، وتتلمذ على شعره، واعتنى بشرح ديوانه، فكبر عليه أن يصدق قالة السوء، وعلى رأس هؤلاء تلميذه وصديقه ابن جني، والمعري، ومن المحدثين؛ محمود محمد شاكر، وطه حسين، ولم يترددواجميعًا في رفضهم وإنكارهم ادعاءه النبوة، وما قيل عن إحداثه المعجزات، وتضليله لفريق من الناس ، واعتبروا ذلك سخفاً ومحض هراء وافتراء، وكأنهم تمثلوا قول الإمام الذهبي في ترجمته (السير 16 / 199).قال :” شَاعِرُ الزَّمَانِ،…الأَدِيبُ، الشهيرُ …وَكَانَ مِنْ أَذكيَاءِ عَصْرِهِ. بَلَغَ الذُّروَةَ فِي النَّظمِ، وَأَربَى عَلَى المُتَقَدِّمِيْنَ، وَسَارَ ديواَنُهُ فِي الآفَاقِ”.

غير أن ثمة فرقًا كبيرًا بين موقفي الشيخين: ” طه حسين” و”شاكر” من القضية نفسها، فالأول مرَّ عليها مروراً ولم يحفل بها، وعلق عليه بكلمتين ثم مضى، متمثلا قول الشاعر الجاهلي: فمَضَيتُ ثُمَّتَ قلتُ: “لا يعنيني” والثاني: ثارت حميته، واشتعلت غيرته، وقال كلمته للحقيقة والتاريخ، وقد حمله ذلك على تأليف كتاب “المتنبي”، يشرح حياته، ويفسر شعره، ويتناول تلك التهمة بالدرس والتحقيق ويعمل على تفنيدها وتزييفها متنًا وسندًا، فكان من أعظم وأنفس ما كُتب في التراث العربي الإسلامي، فأثار ضجة علمية كبيرة،وأهاج عاصفة أدبية خطيرة،ولعل ذلك بسبب منهجيته الفريدة، وطريقته الوحيدة، فأظهر الكتاب سبقه،وأظهر عن قدرة وطول باع، وعلو كعب، وصلابة ذراع، فصار الكتاب علامة فارقة، وشعلة بارقة، ومنعطفًا خطيرًا، ونبراسًا منيرًا إلى يوم الناس هذا! ولقد صدق الرافعي حين وصفه بقوله “بالبحث النفيس”، وقال:”.. جاء المؤلف بما يصح القول فيه إنه كتبَ تاريخ المتنبي ولم ينقله..وقد وضع لشعر المتنبي تفسيرًا جديدًا من المتنبي نفسه”.

وبعد هذا يأتي من يزعم:”أن المتنبي وجد في ادعاء النبوة طريقًا قصيرًا لتحقيق المجد”!! قال الأستاذ العلامة محمود شاكر وهو يرد على الأستاذ “سعيد الأفغاني” وغيره ممن كان يرى صحة إدعاء أبي الطيب “النبوة”: “اعلم أن أكثر ما يُروى في ترجمة هذا الرجل وغيره من الرجال، إنما كان من الأحاديث التي تتناقلها مجالس الأدباء، ولا يراد بها التحقيق، ولا ينظر فيها إلى صدق الرواية وسياق التاريخ وما إلى ذلك؛ بل إن كثيراً مما يروى في تراجم رجالنا كان مما يُراد به مضغُ الكلام في مجالس الأمراء أو في سامر الأدباء، فلمثل هذا كان لا بُدَّ لنا من النظر في النصوص وتمييزها، وردّ بعضها والأخذ ببعض..وأنا حين أردت أن أكتب عن المتنبي نظرت في هذه الأخبار خبراً خبراً، فلم أجد دليلاً واحداً يجعلها تستحق عندي صفة الصدق فأبقيتها موقوفة، ثم عدت فنظرت فتناوشتها الشبهات، واعتورتها الطعون، فلم أجد بداً من وسمها بالكذب، ثم عدت إليها فعارضتها بالعقل وشعر الرجل وحوادث التاريخ لأستخرج منها الحقائق التي يسترها الرواة والمتكذِّبون، فوقعت لي أشياء هي التي جعلتها أصلاً فيما كتبت”. ولمن أراد التحقق من صحة كلام الأستاذ محمود شاكر فليرجع إلى كتابه “المتنبي” فإن فيه فصلًا كاملًا يرد فيه هذه الفرية الوقحة.

لكَ الله يا أبا الطيب، فما طار طائر من طيور الشعر إلا بجناحيك، ولا سبحت عروسٌ من عرائسِ النظم إلا بمقلتيك

وَما الدَهرُ إِلّا مِن رُواةِ قَلائِدي     إِذا قُلتُ شِعراً أَصبَحَ الدَهرُ مُنشِداً
أجِزْني إذا أُنْشِدْتَ شِعراً فإنّمَا.   بشِعري أتَاكَ المادِحونَ مُرَدَّدَا
وَدَعْ كلّ صَوْتٍ غَيرَ صَوْتي فإنّني. أنَا الطّائِرُ المَحْكِيُّ وَالآخَرُ الصّدَى

أيها الشاعر المظلوم “المتنبي” يا صَناجَة العرب، وارْتِشافِ الضَّرَبِ .. ونشيد الإنشاد، ومدد الإمداد، يا من سبقت من قبلك، وأعييت من بعدك، فالشعراء في فلكك دائرون، وفي مهيعك سائرون، ومن حكمتك يمتحون، ومن نورك يقبسون، يستوي في ذلك المحبون لك والمبغضون، يا مالكَ النظم،ومسددَ السهم، وسابق الفهم.

تقييم النص

يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد ! كن أول المعلقين !

التعليقات

إدراج الإقتباسات...