ترتبط الثقافة بالخوف سلبا، فلو جردنا ثقافتنا من عنصر الخوف، لما أبقينا إلا على نسبة قليلة من الصدق والحقيقة فيها. ومن مظاهر الخوف الثقافي: الأسطورة التي سدت مسد الشاغر العقلي والوجداني في تلك الثقافة، وقد ألبسْنا الأسطورة ثيابا كثيرة حتى صارت كائنا مألوفا لدينا، إن "حكاية الأربعين" قائمة في ثقافتنا ومنها حضارتنا، وقد أخذنا هذا الرقم الحسابي من الطبيعة وأحلناه جزءاً من تفكيرنا وممارستنا الحياتية، فالشتاء له أربعينية باردة، والنقيع يصبح خلا في أربعين يوماً، والأفاعي تسبُتُ في أربعين من الليالي، والمرأة تعاني من النفاس أربعين يوماً، والميت نؤبنه بعد أربعين يوماً على وفاته، هذا غيض من فيض حكاية الأربعين، وفي محاولة الكثيرين تفسير أسطورة الأربعين، يذهبون فيها مذاهب شتى.
فمنهم من يحيلها الى عدد الآلهة، ومنهم من يحيلها الى عدد الأنبياء، ومنهم من يحيلها الى دورة الكواكب. ومثلما حصل لنا هذا مع الأربعين، حصل لنا شيء آخر مع حكاية الرقم (13) بدءاً بحكاية الأبراج، والأسباط. هذا هو نمط من أنماط النوافل مع الرقم، لكن الاختلاف مع الرقم "13" يشير الى حالة أخرى. ومن مظاهر الخوف الثقافي: الإزاحة اللفظية في التعبير بالمفردة اللغوية، فالناس تسمي اللديغ بـــــــ "السليم" تطيراً من الأفعى وخوفا من سمها، والناس تسمي الأعمى بــــــ "البصير" رهبة من العمى وفقدان نعمة البصر والمتحدث يُكثرُ من قوله "أعوذ بالله من كلمة أنا" رهبة من موقف الشيطان أو تحاشياً من التحرش بوحدانية الرب المقدسة. وحين اختلفت الثقافات في شرق الأرض وغربها، اختلف الناس في مفهوم الخوف واستخدام مفرداته ودلالاته في التعبير الثقافي.
فالمسيح "عليه السلام" نبي رسول عند إخوتنا في العالم الغربي ولكنهم تعاملوا معه في كتاباتهم على نحو يختلف عن تعاملنا مع الرسول محمد "صلى الله عليه وسلم". فكثيراً ما نصادف كاتبا روائيا أو شاعراً غربيا يقول عبر سطوره المكتوبة بأنه "مسيح يحمل جروحه" أو أنه حامل الصليب المقدس، لا تمنعه من ذلك قدسية المسيح وموضوع رسالته السماوية، لكننا في الشرق لا نستخدم هذا التشبه الفردي بشخصية نبينا الكريم، ولا يجرؤ كاتب أو شاعر عربي على التشبه بشخصية الرسول الكريم لأن المحرم عندنا هو المقدس ولأن المقدس عندنا محرم حرام. إن القرآن الكريم يخبرنا أن لنا في رسول الله أسوة حسنة، بمعنى أن لنا في سلوكه القويم فرصة التمثل واقتفاء الأثر، لكن هذا كله لم يتقدم بنا خطوة واحدة الى مشابهة الفرد المسلم بنبيه الكريم، لكن الأدباء المسلمين استساغوا الرخصة التي ظهرت لنظائرهم المسيحيين فصار لهم حلالا القول بأن واحجهم مسح أو أنه المسيح يحمل الصليب. إن هذه الحصانة اللفظية التي منعتنا من التشبه بشخصية محمد "صلى الله عليه وسلم"، لم تمنعنا من الاستدعاء على شخصيات أنبياء كرام آخرين استعداءا مجحفاً، خذ على ذلك مثلا ما شاع في أغانينا من التشبه بشخصية النبي الصابر أيوب "عليه السلام" حيث صار العاشق يقول لمعشوقه ان صبره عليه هو صبر أيوب من دون حياء من صعوبة المقارنه بين حالة عشق آدمية وحالة صبر نبوي كبير.
ومن مظاهر الخوف: لجوؤنا الى دراسة شخصية الشاعر "جلجامش" وظرف صراع مع الطوفان بعيدا عن محاولة توثيق الصلة التاريخية بين قصة الطوفان هذه، وقصة الطوفان عند النبي "نوح" عليه السلام، لأن محاكاتنا وربما اعتراضنا على شيء في سيرة "جلجامش" لا توفرها أو توفره سيرة النبي نوح طبقاً لقدسية القصة عند الأخير وعدم قدسيتها عند الأول.
ومن مظاهر الخوف الثقافي: احجامنا عن مناقشة النحو والصرف في اللغة بما قد يختلف عما جاء في القرآن الكريم، على نحو ضيع علينا فرصة الاطلاع على ما كان للقبائل العربية من لغة أخرى لا تقل ابداعا عن لغة قريش، فكلمة "سكين" لم تكن معروفة عند قبائل تهامة حيث كان بديلها كلمة "مدية"، والفعل "ارجع" لم يكن مستعملاً عند القبيلة "هذيل" حيث كانوا يستخدمون الفعل "رجع" بصيغة المتعدي بمفعول واللزوم بغير مفعول، يتم فهمه في ذلك حسب موقعه في الجملة. لقد خاف النحاة طويلا من كيفية إعراب الآية الكريمة في القرآن التي تقول: "إن هذه أمتكم أمة واحدة" حيث وردت "أمة" الأولى مرفوعة والثانية منصوبة، فقبلوا بها كما جاءت في القرآن الكريم حفاظاً على صيغة جمع القرآن أكثر من الحفاظ على وجهات النظر المختلفة في الإعراب، واقبلوا بكلمة "العرجون" وتركوا كلمة "الأرجون" التي كانت لفظاً متداولا عند العرب.
وفي عنصر الرواية التي تحمل في مضمونها صيغة الأسطورة نظرا لغياب مصدرها وصعوبة ايجاد جذر لها. يمكن للثقافة المعاصرة أن تتخطى حاجز الخوف لو أرادت، خذ مثلا على ذلك، حكاية "الصفا والمروة" التي أصبحت في الإسلام شعيرة من شعائر الحج، فالإسلام أخذ بها على الرغم من صعوبة الاستقرار على مصدرها، حيث قيل أن أساف ونائلة كانا رجلاً وامرأة مسخا حجراً ألقي بهما على جبلين، وقيل أن الصفا والمروة كانا رجلا وامرأة مارسا الفاحشة فقتلا وألقي بهما على رابيتين، وصار الطواف بين هاتين الرابيتين رمزا من رموز الغفران من فاحشة الزنا. فالشعيرة هنا تحمل عنصرين: عنصراً غيبياً جعله الإسلام شعيرة وعنصراً تاريخيا أرضيا يحتمل التأويل والاجتهاد، وفي الوقت الذي أفاد المثقفون المسيحيون من حكاية الغجري الذي باع المسامير الثلاثة للصليب المسيحي، في كتاباتهم، لم يفد المثقفون المسلمون من عنصري الأرض والسماء في حكاية الصفا والمروة، وحين حطم الإسلام العظيم أصنام الجزيرة، قضي على مرحلة التوثن، لكن التوثن عاد من جديد الى سلوكنا المعاصر حيث مارسناه في كثير من علاقاتنا العامة ولكن بصيغَةٍ أخرى.
وأمامنا في علاقة الثقافة بالخوف، حياة المثقف الكاتب نفسه وتوزعها على مرحلتين: الالحاد والإيمان. إن كثيرين من الكتاب بدأوا في كتاباتهم ملحدين نافرين من الإقرار بوحدانية الله، لكنهم انتهوا في أخريات حياتهم موحدين يسألون الله الذي سوف يذهبون إليه المغفرة والرحمة، إن صيغة الطور الثقافي عند هؤلاء المثقفين هي أننا في اول العصر نبدأ مغرورين طائشين تغرينا مفاتن الحياة ولذائذ النعمة فننظر الى السنوات التي أمامنا وكأننا أمام جيل من الزمن لا ينتهي وكلنا أمل في تحقيق ما عجز عن تحقيقه الأوائل، حتى إذا أصبحنا في النصف الثاني من العمر تحسرنا على النصف الأول منه، ففي مرحلة الشيخوخة، حيث الجسد وقد ترهل، والعيون وقد غارت في المحاجر، والظهور وقد احدودبت، ندرك أنه لا مناص من مواجهة الله الواحد الأحد وأن لا طريق إلا الطريق إليه، وعندها تبدأ مرحلة الخوف الأكبر في الثقافة عند المثقف وتبدأ عندها مرحلة التطهير الذاتي فيعلن المثقف عن حرائق القلم والفكر بنيران التوبة.
معنى هذا أننا مدعوون الى أن نأخذ أدب المثقف كله مجتمعا ولا نأخذه بصيغة المقطع الزمني لأننا سنجد في مراحله اللاحقة غير ما كنا واجديه في مراحله السابقة. أن قدر الإنسان من الثقافة هو صيغة من صيغ اللعبة الكونية. ان الاعتماد على العقل المفرد من دون قيام سياسة المقارنة والمقاربة والقياس، خطر على المثقف وتابعيه. إن اربعا من القوى هي التي تخيف الثقافة، المرأة والقانون والعنف والمال. إن النظرية الجنسية بخست كثيرا حينما عوملت بعوامل الخوف والكتمان وفقدان الوضوح. إنها عنصر أصيل في الثقافة لكننا لا نعني هذا السعار الفج المتطرف في الحديث عن الجسد والرخص اللفظي. وبين أن يكون المثقف الكاتب حريصاً على التعامل مع المرأة بدءا بها أما وانتهاء بها معشوقة ملهمة، وأن يكون حبيبا خائفا من الرقابة الاجتماعية، بين هذين يكمن الخوف الثقافي. والقانون الاجتماعي هدف من أهداف الوفاق الجمعي لكنه، إذا ما تشدد، أصبح سببا من أسباب انحسار الابداع وقول المثقف ما يريد قوله، ومثل هذا ما يحصل للثقافة في ظل الفقر والجوع حيث يتحول المثقف الى "عامل لا يحيا بالخبز وحده". إنني اتحدى الفرد الجائع أن يكتب عملا مبدعا يتشوف ابعاد مجتمعه مثلما أتحدى الفرد المتخم أن يقوم بمثل ذلك.
الإنسان المثقف كبير ولكنه ليس الها وعظيم ولكنه ليس ملاكا وما دام له روح في جسد، فمن حق الجسد أن يتغذى في حدود العقل لكي يقدم الى الروح ما تستحقه قبل أن تبلغ التراقي. ومن يظن أن كتابة المثقفين هي كتابة عن الحرمان، يجعل الثقافة وسيلة تقوم الحاجة إليها، ما قام الحرمان والجوع فإذا زالا زالت: لكن للإنسان في الثقافة مهمة أخرى تبدأ من الحبل السري والمشيمة وتنتهي عند بلوغ المشارف العليا لرحاب الله الكبير العظيم. ومن مظاهر الخوف الثقافي: سوء الظن والتأويل وظهور جمهرة الشكاكين الهمازين الغمازين اللمازين القوالين الظنانين الهماسين النمامين عبر كل الكتابة الثقافية وعصورها. إن غباء بطوية سليمة وفطرة نظيفة خير من ذكاء بطوية خبيثة ووظيفة مسمومة. تعالوا أيها الناس نقتسم الحظوظ والأرزاق، خذوا أنتم لذائذ المال والمتعة واتركوا لنا الكتابة أو خذوا أنتم الكتابة لنأخذ نحن المال والرخاء. خذوا ما تريدون ولكن لا تحاسبونا على حصتنا التي بقيت لنا، والأفضل من هذا كله أن نشترك كلنا في الحصتين فننال من المال الذي لديكم ما تنالون من الثقافة التي لدينا، أتلك قسمة ضيزى؟ لا أظنها كذلك. ان الثقافة التي بلا خوف هي الثقافة التي تريد. وهي الثقافة التي تبني الوطن والمجتمع. وهي ثقافة غسل الأردان بفصاحة اللا شعور الذي لا يخطي أبداً، فالإنسان بوجهين مهما كان وخير الوجوه ما استتر لكن إعلانه بالفحص الثقافي خير من إخفائه.
يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا
13-11-2021 11:05
14-11-2021 11:03
15-11-2021 11:09
لا يوجد اقتباسات