(مشاهدات مجنون في عصر العولمة)
المقدمة : تحية للأستاذ الآديب يحيي السماوي الذي كتب مقدمة كتاب ديوان الحريزي بوصفه مشاهدات مجنون في عصر العولمة بالنقمة المقدسة ، لذا قيل أن للشاعر ( جني ) يكون مصدر ألهامه ، وماذا نقول عن عدد جني المتنبي والجواهري وعبدالرزاق عبدالواحد ، فأن العبقرية المفرطة في هوؤلاء الشعراء في زمن العصرنة والعولمة الرقمية ومخرجاتها الفنتازية الشعرية السحرية المرتبطة بالواقع ، ربما ترقى ببعض من الشعراء في مجال (الأغراق ) في مدح الذات والأعتداد بالنفس إلى شيء من ضروب الخيال والمستحيل وأستذكر قول المتنبي : أنا صخرة الوادي إذا ما زُوحمتُ ---- وإذا نطقتُ فأنني الجوزاء
ويقول في مكان آخر: أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ---- وأسمعتُ كلماتي من به صممُ ( ديوان العرب) أبن منظور جمال الدين الأنصاري
تكون النتائج ضربا من الخيال في عصر العولمة ، فتستنسخ كنقمة ولكن فيها الكثير من المصداقية الخيالية فيقال عندها أن الجنون مرض العصر .
ويمكن أن أوجز مفهوم العولمة تعني سرعة فائقة في تدفق المعلومات والأفكار والتكنلوجية الرقمية وهجرة البشر عبر شبكة الأنترنيت تأخذ ظواهر شمولية ( كتاب مصير العولمة بين التفكيك والمواجهة ) عثمان محمد عثمان .
ونحن أمام شاعر فذ متمكن من ترويض الحرف ويسمو سامقاً إلى النجومية فهو الشاعر العراقي المعاصر " حميد الحريزي " أستطاع أن يتفنن في تقنية قصيدته الأسطورية " مشاهدات مجنون في عصر العولمة " وقد أتخذها مرآة عاكسة لتوهجه الروحي وأنفعالاته النفسية ويأسر المتلقي لأستكشافات الطاقات الأيجابية الواعدة والمثيرات الفنية الكامنة خلف هذه الظاهرة الأسلوبية اللافتة للنظر .
النص :
ما هوالجنون ؟ الجنون ينطلق من اللاوعي المنغلق على ذاته في حين ينطلق العاقل من الوعي من خلال العلاقات الجدلية بين الآنا والهو التي تحدد أنفعالات الآنسان السوي ، وقد خاض هذا الموضوع الشائك العديد من علماء النفس والفلاسفة منهم :
المفكر العالم البريطاني "روي بورتر" في كتابه (موجز تأريخ الجنون ) هذا المفكر يمزج بين الجنون والعبقرية كما نقرأ في أنجازات متألقة ومميزة في الشعرية والخيال وأرتباطها بالواقع ، ويرى البعض إن الجنون هو .قمة الوعي بالواقع مما يدفع المجنون الهروب إلى اللاوعي لعدم تمكنه تحمل عبأ الظرف الزمني وثقل العبأ النفسي فعندها يركن إلى الأنغلاق على نفسه رافضاً التواصل مع الآخرين ، ومؤلف كتاب ( تأريخ الجنون في العصر الكلاسيكي ) لميشيل فوكو: خاض رحلة مذهلة متعبة بين مناطق مجهولة في الذات البشرية المحاطة بظلام دامس بشكل دراسة معمقة في مجالات التحليل النفسي المرتبطة بالعولمة .
وعلى كل حال لا أريد ان أتوسع في هذا الموضوع الشائك والمعقد بقدر ما يتعلق بسيمياء العنوان ، وشكراً لشكسبير الذي حسم الجدل بقوله : الجنون لغز الألغاز!!!
نرى من سيمياء عنوان ديوان الحريزي شيئاً من الغرائبية يبدو غرائيبيا وملفتا للنظر يحمل دلالات هامة ملتهبة (بنفثات) محرقة للشاعرالذي يفتح لنا أبواب جهنم في شعريته الغريبة والغير مسبوقة بالمرّة حين يقتحم الممنوع الممنوع ليقدم للمتلقي موضوعا الجدال فيه لم ينتهي بعد تأريخياً من حيث موقع المجنون من الأعراب في عصر العولمة .
وحسب رؤيتي لهذه المجموعة الشعرية للشاعر الملهم والرائع حميد أنّها ملحمة شعرية في السرد والأسلوب والقصد يأسر المتلقي للوصول إلى السطر الأخير في المجموعة عندها يدرك القاريء أن الشاعر يساري الهوى شعارهُ التغيير والحل الثوري الجذري . يتكون النص من ثلاثة عشر مشهدا تراجيديا بنكهة الهزيمة والقهر والأحباط ، بيد أن بطل الرواية المجنون يدعي هو العاقل هنا في فهم هذا الرقم وغيره هم المجانين ، لآن التشاؤم هو قمة الوعي بالواقع وأقصى درجات الرفض لأبجديات مستلباته القبيحة والمذلة ، فقد ضاع العرب في متاهات الغيبيات والذلة والأستكانة للسلطان ، ويشير في قصيدته هذه بمقارنة بائسة بين الحصان العربي الأصيل وبين القمر (ناسا) وغزو الفضاء فهنا الشاعر (يأسف) للهوة العميقة والشاسعة بين حضارة أجداده وسلفه وبين قفزة الثورة الصناعية في الغرب، ضياعها عند العرب في الفخر بما عمل الأجداد والأنساب بينما أستغل الغرب عامل الزمن ووظّفهُ لصالح حضارته بأكتشافات علمية ، يقول فيها :
*العالم مشغولٌ بسرِعولمتنا
تمثلنا (الدي) فهي الرأس
إلى (مقراطية) ذيل
يجرح عزتنا لا كل العالم نقبلهُ
نحن علمنا الناس سرّ الحرفْ
والرحمة وسر النهب وسر (الكرف)
فليتوجه كل العالم صوب قبلتنا
أستعمل الحريزي اسلوب السخرية في نقد وجهات الحياة لأجل محصلة التغيير فيها ومعالجة الخلل فيها ربما تجد لها طريقا في ملامسة شعور الناس وتحريك ذواتهم كما قرأنا في قصيدة الديك لنزار قباني وقمم قمم لمظفر النواب والحظيرة لآحمد مطر ، وأليك ما يقول الحريزي :
فالعالم مشغوفٌ بسر عولمتنا
*حمارٌ يمتطي حصاناً عربياً
يعلقُ شجرة نسبهِ
قلادة فوق مؤخرتهِ و---
يجرُ خلفهُ طائرة (البوينغ)
عند تفحصي لنصوص المجموعة الشعرية وجدتُ أن حميد يحافظ ويؤكد على الأشياء في الشكل والمضمون حيث يبرز التشاؤم والسوداوية القهرية لمعطيات عناصر شعره بحيث يقلب المفاهيم الواقعية لكي يجعل المشهد حزينا ومؤلما يستعمل (الأستعارة ) كما جاء في تعبيرهِ للقصب بالأصفر الذي هو رمز الموت والفناء ، فيجعل الضفدعة ضحية الأفعى بفحيحها نذير الموت ، بدّل صوتها الطبيعي (النقيق) بصوت الأفعى (الفحيح) وهنا يقصد الشاعرفي لعبة (قلب) الصورة الطبيعية للحياة أن يدخل تشويشا متعمدا في ذهن المتلقي ليستجيب لنداء (التغيير)، وكذا في لوحة الراعي والخراف، فقطيع الخراف دائما منقادة ولكن في صناعة الشاعرحميد العبقرية جعلها هي الدرع الحصين للراعي ، فالرمز هنا وكأنه يخاطب الشعوب العربية : بأستكانتكم كالخراف العمياء وتصفيقكم للقائد الرمز ومسختم أنفسكم وعاظا للسلاطين ودروعا بشرية لحماية المنصور بالله والمستعين بالله وقائد الضرورة ، وهو رمز للغي والقصور لفهم الواقع الأجتماعي للشعوب المقهورة ، ولتلك الصورة السوداوية المستلبة يتعمد الشاعر " الهجوم الوحشي على الواقغ " وأعتقد جازماً أنها (رسالة مفتوحة) للحكام نصها الأيحائي: صراع بين الجلاد والضحية، بين الناهب والمنهوب، بين المتخم والجائع، بين الرابح والمنحوس ، وبين المتغطرس والذليل ، وهي من بركات الديمقراطية العرجاء الكسيحة التي حولتنا إلى السريالية المجنونة .
يطرح آراءهُ الفكرية بأقتحامية لا يهاب مطبات الرأي المعاكس وأبجديات أغتيال الكلمة الحرّة سواء كان من قمة السلطة أو من دولة الحمير ، يبدو لي أنهُ ضحية مركبات هموم عصرهِ بزمكنة غير محدودة ربما يعني جغرافية العرب وتأريخهم ، لا يهاب المحذور والخطوط الحمر التي وضعتْ من قبل المنصور بالله والمعتز بالله وعبدالله بن زياد وصدام حسين ، ومن المصنفين ( اللوكية ) أو بتعبير ديمقراطي شفاف ( وعاظ السلاطين ) أو الرجال المزيفون ، وجُلّ طروحاته الأستفزاوية حسب رأي الشخصي : مفاهيم يسارية وأنهُ ( تحريض ) ثوري ينحو للتغيير الجذري على الأقل للأجيال المستقبلية ، أنه شاعر بقمة الصمود والتحدي ولا يهاب العواقب حتى لو ذكرته بجميع ضحايا أصحاب الكلمة الحرة ، الحلاج والحسين أو علاء مجذوب أو هشام الهاشمي وووو وفيها يقول :
أنا شاهد عليها
تحت ظلال الرماح القصب الصفراء
ضفادع لها ( فحيح ) تزدرد الأفاعي
أنا شاهد عليها
خراف عمياء تحرس الراعي
وطرح الشاعر حميد من خلال مجموعته الشعرية نفثاته الوجدانية صاباً جام غضبهِ على أصحاب القرار السياسي معتمدا القسوة في تشخيص أمراض وعلل وفقاعات تستحوذ على الطبقة الحاكمة وشخصهم سايكولوجيا وجميعهم بدون أستثناء ومنذ قرن من الزمن الموجع بمرض ( السايكوبولتك ) السيطرة والأستعباد وكم الأفواه ووأد الكلمة الحرة ووصل العقل السياسي مبرمجا على الكراهية والشك المرضي ( البارانويا ) وهو يقول :
أنا صوت (القواد) وربان
المقود
أنا السيد الأعلى
أنا الأله الأعمى
أنا راعي القطيع الأسمى
أنا الأول ، أنا الآخر
أنا الوحيد الأوحد
أنا المعبود وأنا العابد
وفي لوحاتٍ شعرية لاحقة أخرى يعري الحكام وينزع منهم ورقة التوت ويستهجن أساليبهم في فن الأحتيال والضحك على الذقون بأطلاق فتاوى الظلالة لفرض الشرعنة الغيبية على عبثه المجتمعي وهو يقول :
ممنوع
أحتضان
المطرقة للمنجل
محظور
وضع الخيار في الأعلى
(الطماطة) في الأسفل
ممارسة الموت
في الشارع مقبول
أما الفرح
محظور حتى
خلف الباب المقفل
أياك
أن تبتل ريقك
ب (المنكر)
وفي مجموعته الشعرية يكشف هويتهُ الذاتية بأنهُ ضد (بعض) أوجه العولمة وأمراض العولمة في مهرجانات الخرافة والشعوذة بغياب العقل ودولتها المباركة التي لخصها بالطاعة العمياء للأمير للسلطان للوالي وهو يقول: أسجد للمعتصم والمنصور والمؤيد بالله فهو الأول والأخير ويقصد العكس لا تستكين لاتستسلم أحرق الراية البيضاء فتش عن التغيير:
عاش الأمير ------- كلنا حمير
يبرركراهيته لعصر العولمة للناحية (الأجتماعية) يقرُّ بصخب الحياة اليومية وأنتشار الأنتاج الرقمي الأفتراضي والتي أدت إلى العزلة عن الواقع الأجتماعي الحقيقي والتي آلت تداعياتها إلى تفكك الأواصر الأسرية ، وتكليس الذات البشرية والوجدانية والعاطفية فأتجه الفرد إلى طلب الراحة وربما دفعتهُ إلى ممارسة بعض المسكنات او المخدرات والمشروبات الروحية الكحولية ليكن ما يكن حتى الأدمان طالما يحصل على ساعة من العزلة والطمأنينة النفسية وقد يتجه إلى الغيبيات ويقع كفريسة في خضم عنكبوتيات الدين في طرد الجن من رأسه :
في قاعات الدرس
تعلمنا فن الخطابة أخرس
ومتسوّلْ أعمى
يعلمنا في أدخار الفلس
وشيخ الحي
يعلمنا فنون المنكر والرجس
كأننا أمام عولمة الجنون
يتجه بمجموعته الشعرية نحو أمراض العولمة من الناحية السياسية (كتاب مصير العولمة بين التفكيك والمواجهة) عثمان محمد عثمان .
عندما يتحوّل الأميرمتجلبباً بعباءة الدين في (طاعة ولي الأمر واجب عين) فتكون صلاحياته المباركة في الجلد والرجم وقطع الرقاب وأمتلاك أعراض العباد فكل شيءٍ ملكهُ ، وهي أحدى المشاهدات للمجنون(الحكم – البصير) في عصر العولمة في دولة الحمير ، تكون الضحية الحارس الأمين للجلاد السفاح القاتل المقدس ، ويكون ذليلا تحت ( نعل ) ناهب رغيفه وهاتك عرضه وماسخ شرفه ، وكذا حج وعمرة الحكام العرب لواشنطن وتقبيل نعال الرئيس الأمريكي المبتز لثرواتها النفطية يسميها الشاعر بمطر الدولارات ، يقول :
من بركاتنا
جعلناكم خصياناً
لا تحزن
نساؤكم سيطؤها سيدنا
مطر الدولارات
لا يعرف لونا
ولا يعرف عنوانا
صرنا
أرقاماً
ما عدنا نتعارف
بالأسماء
لا معنى للغيث
صار
مطرنا أسود
والرعد
نار رصاص عواء
وقد جعل المجنون شاهد تأريخ عصره وأباح لهُ في خطابهِ أستعمال ألفاظاً قبيحة ومستهجنة تتماشى مع درجة جنونهِ من ناحية ومع ما يليق بأصحاب القرار السياسي :
تتزيّن ٍصدورهن
بقلائد مرصعة بكرات
من براز السلطان
نساء
لا تنجب ألا بأمرٍ من (قضيب) الوالي
ومن نفثاته المحرقة اللاحقة الأخرى أستعمل ببراعة أنيقة وشفافة بترصيع الصور الشعرية في مجموعته الشعرية " مشاهدات مجنون في عصر العولمة أسلوب (التورية) يفرض على المتلقي أكتشاف البعيد والمخفي ، فالمقصود بأدوات النصب هو النصب والأحتيال ، وأدوات الجر يقصد بها جر الشعوب كقطعان الماشية لقبول الأستعباد والذل ، أما الأملاء يعني فرض الأرادات على الناس كالفيتو في العهد الأمريكي كسر الأرادات الحرة:
قطعان مدينتنا
تعاف البرسيم
وتلتهم أوراق ورد الجوري
حمير مدينتنا
تدرس ساستنا علم المنطق
وأدوات النصب والجر
أخيرا : وجدتُ إنها غرائبية الطرح أقتحامية بكل جرأة ، يوجز الروائي حميد حياتنا بجملة كبيرة من التناقضات : صراع بين الجلاد والضحية وبين السارق والمسروق وبين المترف والجائع وبين الرابح والمنحوس وبين المتغطرس والذليل وكلها تجمع في بودقة العم ماركس ( الصراع الطبقي ).
أيلول 2021
كاتب وباحث عراقي مغترب
يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا
15-11-2021 11:10
لا يوجد اقتباسات