هل حولي عيد،
أم أني الذي يخترع الأعياد،
ثم يفرح بها في صمت العارف،
والمتلهّي عما يمكن أن يجلب الحزن إلى روحه..
ثرثرات، ثرثرات،
"ديستويفسكي" يقول:
" إننا بحاجة إلى اللجام، طوال أربعين عاما تحت الأرض صامتين،
وعندما نخرج إلى الضوء،
نثرثر، ونثرثر"..
أغمر رأسي في البحر،
أسمرُ هو الرمل،
تلفني الموجة، تلو الموجة،
رأسي الغارق حتى أذني،
استطاع أن يتخلص من تلك الثرثراتِ حوله،
دفنها في الرمل الأسمر في أعماق لجج..
رأسي الذي يستدعي اللجة،
وراء اللجة،
في الأعماق السحيقة،
لطالما غطس فيها،
وهو يتلو تلك الآيةَ الكريمة،
وارتعشْ..
ارتعش خائفا، قلقا،
ترى، هل ستفترسني تلك اللجج يوما..
ثرثرات، ثرثرات
البحر العارف، العازف أسرار الخلود،
صمته رجع رَباَبة سحرية الدجى،
تنُاغِشُ خلايا شاعر مثلي،
"وتطلق روحه المعذبة،
بالتعنيف، واللوم،
روح تصب اللعنات على الحياة التي عاشتها"،
والشرور التي بها كسوها..
هناك بين قوسين أجدني ألتحم بـ" نكراسوف"، الشاعرِ الذي عرفته في رسائلك الأرضية، ديستويفسكي..
شاعرُك، وروحي، يمجدّان تلك الأسئلةَ التي تتناثر في البحر،
وتتكاثر، وتتناسل..
لا أريد أن أبكي، كما بكيت يا
"نكراسوف"،
مللت بكاء جفف عيني،
عبر سنين، حتى شخت،
ولم تشخ روحي..
هو البحر،
أجمل ما فيه الخصوصية التي توهب لامرأة،
راغبة بالاستلقاء في أحضانه دون رقيب.
نسوة يدخلن متجللات بسواد موت يطغى على انتعاش الزرقة،
يجلسن غير بعيد يتفرجن،
وفي أرواحن هدير عزف،
لا يشتهي البحر سماعه.
قيود، قيود، غرزت في الأرواح،
أشكال تختلف عبر التاريخ،
سبايا النهر، والكهنوت،
والذقون المتدلية باعتباط،
وأحلام بنكاح لا ينتهي..
تندلق نسوة على الرمل بتفرد الموج حين ينتشي،
ونسوةٌ يتحجرن كما صخورٌ تصِمُّ عن الحياة..
همس، بعضه مني،
أيتها المعذبة ما الذي أتى بك إلى هنا
بجحورك المتنقلة،
وبأوتاد ثبتوها في أعماقك.
كم أنت وفية لاستعباد تتلذذين فيه،
ويغضبك أنّ غيرك عليه تثور،
لذا ترقبينها بعين تلتهب كما هذه الظهيرة اللاسعة،
ثم إليك ترتدين.
اخلعي نعليك، تلذذي بالرمل،
لا تتعري،
لم يطالبك البحر بذلك،
لكنه يريد أن يسعدك،
فانغمري، انغمري..
في الصمت سرُّ موسيقى من الصعب أن يدركها،
إلا من اعتاد العيش في عزلة مع ذاته.
أطفئ مبرد الهواء،
يسدل صمت حبيب أستاره،
أشعر أن شيئا ما يناغشني،
أوتاري، تشعر بلذة من الصعب وصفُها،
لذةٌ تسري مثل حِداء لإبل انغمر في الصحراء عمرا لا يرى عنها بديلا،
أرتعش كعاشق يذوق لذة القبلة الأولى،
في حرم مقدس بعيدا عن أعين الفضوليين،
أهدأ، كل ما فيّ يهدأ،
إلا تلك اللذة التي ستصاحبني في ثواني يومي،
وعليها أتكئ.
أتذكر ابنتي، أخاطرها في عمقي،
هي التي تتهمني بالحزن والكآبة دوما،
ماما افرحي، تردد..
عاجزة أنا عن الشرح،
أن الإحساس بالحزن هو نشوة الفرح،
دليل انتصار العقل،
تلك الحقيبة السماوية التي ابتلي بها أمثالي،
وأن الفرح مساربي التي أعتليها في السَّوق إلى الأمام..
لم أذكر مرة أن الحزن كسرني،
وهشم فيّ الارتقاء في الغد،
وكنقطة لا تمل من الدوران أسبح في زلال الحياة،
في روحي موسيقى لا تهدأ،
تراقصني، ثم تحضنني..
تقبلني في أدق مواطن الخفاء في جسدي،
لذا أنا شاب جدا.
أعتقد أن الشباب،
ذاك الوليد الذي لم أقبل أن أئده،
ولا أن أهيل عليه تراب الحزن،
أو قهر السنين..
أقرأ "عشيقة بودلير"،
وتموج في رأسي صور..
تلك الحجرة التي احتلت زاوية كبيرة على شارع،
فيه حوادث السيارات تصرعنا في اليوم أكثر من مرة،
إلى أن قرروا بناء جسر فوقه أضفى على الشارع قبحا ما بعده قبح.
نفق يؤدي إلى سوق في وسط المدينة،
أما مدينتنا،
فمشقلبة، مشقلبة رؤوسها في الصعود والهبوط.
الله على تلك الحجرة،
على الحائط الكبير مكتبة تحتله بكلّه،
مكعبات خضر، بيض أشبه بخلية النحل،
وأنا كفأر صغير أجوس خلالها، أشرقها،
وأتوقف عند مشاهد،
وصور وشروح كانت ترعبني أحيانا..
إبليس، يا إلهي..
كم كان مرسوما ببشاعة الخبث والسوء في كتاب ديني أرعبني وقتها،
كنت ألتهم المسرحيات المترجمة في ختامها،
موليير، شكسبير، حلم ليلة صيف، هاملت، ليدي مكبث،
حكايات كثيرة كانت تموج بها تلك الغرفة،
وأنا بفرح أنحشر،
أكاد أسترجعه اللحظة.
أما بودلير وإصابته بالسفلس، فهما لب القصيدة،
في عمر صغير، في كتب أبي وإرث جدي،
كانت لي حكاية من الرعب وأنا أتأمل الصور المرفقة،
وبخيال طفل أحاول أن أفهم وأستنبط،
وأعاهدني على البقاء بعيدا،
عن ذاك العالم،
كي لا يصيبني الداء..
أي ارتجاع، بودلير، أرجعتني؟!..
سأهبط ثانية إليك،
لكن هل عساي أستفيق مما سرى في أوصالي من دفء ذكرى عبرت،
كخفق نورس أبيض..
يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا
20-11-2021 11:08
20-11-2021 11:10
23-11-2021 11:05
الأديب والناقد الجميل الأستاذ جمعة عبد الله..
دوما تقرأ نصي بفتح آخر جديد، انتصار هو للمشاعر الإنسانية الشفافة التي تنحت فينا للضوء، رافضة كل عفن..
أشكرك لهذا التوليف الشعري والإنساني الذي أنت عليه القيّم..
تحيتي وتقديري.
أمان
23-11-2021 11:05
الأستاذ القدير يوسف حجازي.
تحية لروحك في هذا المعبر.
أمان
لا يوجد اقتباسات