نوري الراوي: هبني تدفقك لأرسم يا فرات!

نوري الراوي: هبني تدفقك لأرسم يا فرات!


 

    نغم طليق تردده الحقول، غضٌ لا نهاية له، يا لها من أضواء وعطور، وأيام لا تشيخ ولا تحزن، عجباً للنهر وهو يضحك، وأناشيد الصباح وهي تتردد، والريف الفراتي يتلألأ في صمته واشتعاله. والمنظر الأخضر يسبح في الضوء والزهر الحالم، وفي الزرقة الصافية يصدر صوت طليق حلو من أغاني الفلاحين، كتاب مفتوح يقرأه صباح كل يوم، ومنذ أزل، لا تعرف أية يدٍ أولى هي التي صنعت كل هذا السحر ووهبته للإنسان.

        حين تودع المدن ملامحها وصفحتها البيضاء، بساتينها، وفراتها العذب، هناك من يمدَّ كفّه لينتشلها، ليجعل منها أرضاً تحتفظ بمعالم المدن التي تندثر، كما لو كانت قائمة منذ الأزل، وأهل هذه المدن (عانه، راوه)، نبتٌ آخر عريق على شواطئ النهر، نبت لو اقتلعته فستقتلع عصب الحياة.

         الرسام نوري الراوي أحد الجذور التي امتدت في أعماق طمى النهر، ظل يناجي مدينته التي ستضيع، بلغة مشحونة بالألم: ماذا لديك الآن يا صاحبة الزمان، هل بمقدورنا أن نصون ماء وجوهنا، هل أخذت لنا الأمان؟؟ فأنت هالكة لا ريب، صلواتك الأولى... دموعك....

          لم ينشد الراوي لمدينته شعراً، بل رسمها، وهي حاضرة في كل أعماله الفنية، بفرشاة المتوسلين، يريدها أن تبقى، لم يكن بعلمه أن قدراً للمدينة يدفع بها نحو أذرع البلوى، فتغط في غَمام مكسورة، القباب والمنارة، الدروب الضيقة، غابات النخيل والنواعير، وكل العناصر التي تتشكل منها مفردات لوحة نوري الراوي. الذي كان منذ بداياته الأولى فناناً يرسم محلية المشهد، وظل مخلصاً له، حتى استقر عليه وأبدع لونه المتميز في إظهاره، رصيناً، واثقاً، إن نقل المشهد الطبيعي الى اللوحة هو دون شك عمل درامي مثير، ويبرز دور الخبرة الجمالية لدى المتلقي ليحسم الموقف لصالح الأثر الفني، أو العكس، وهو يمثل دور الاستجابة الانفعالية بدرجات، لأي شكل منظور أو أي موقف خارجي، ومن الجانب الآخر، يمتد هذا الدور على مقدار حساسية الفنان التي توصلنا إلى مرتبة الشعور بالقيمة الجمالية للمنظور الحياتي في الطبيعة وما وراء الأشياء

         لمسات من الشعور الوجدي، لابد أن تصاحب العمل الفني وتغنيه، هذا ما دأب عليه نوري الراوي، نبرة من نبرات ريشته، وجد صوفي، غنائي، رشيق، متوحد مع الذات، والكون اللامنتهي، انه انتزاع العنصر الأبدي من تعبير اللحظة، كما يقول بودلير، وهو ما نستقرئ مؤثراته في هذا العالم الذي يتناوله الراوي ليخترق جدار الطبيعة ليرسمها، 

   يا فرات، تبقى وحيداً، ماذا لو زلقت قدمي عند ضفافك في رحلة نسيان، سأبقى اشمّ رائحة الأرض، وانت تقترب مني أو تبتعد، عرفتك وعبرتك، فدعني أغفو بين يديك، هبني ملحُكَ، وتدفقك لأرسم

       هذه المناجاة التي تتعلق بأدق المشاعر والعواطف الشخصية، هي ما تمنح الراوي تميزه عن غيره من الفنانين في انتقائه للعناصر، كما يختلف عنهم في موقفه الحسي والفكري، فالطبيعة تعني له أمراً آخر غير الشكل والضوء، وهو ما يدعوه إلى الركون في خلوته إلى تلك اللحظات الوديعة الصافية، ويختبئ في الذاكرة ينقّب فيها عن شكل يفرغ فيها حواسه وأمانيه وبيئته وحنينه

              ان أغلب أعمال نوري الراوي هي نتاج براعة تقنية فائقة، يتمتع بها، وبتقديري ان التأثير البصري الذي انتجه الفنان كان بسبب اختيار اللون ومرونة الفرشاة، والنفاذ إلى أعماق الأشياء، وتسجيل المشاهد التي يشفق ان لا تضيع من مخيلته الساحرة، ينقلها بدقة من مجاورته للأنهار وضفافها، لدورة النواعير، لدفقة الماء، قبل أن تغطّ المدينة في منام، وتهجع الطيور إلى أعشاشها.

         اختار نوري نموذجه في البيوت الجصية كوحدة أساسية في التكوين، ودأب على الاستفادة من الشكل في خضوعه للمضمون، عفوية البناء، يمنحه بعداً إنسانياً، بملمس خشن يصور به الأبنية، واستخدامه للون البني ومشتقاته، هو أقرب بكثير إلى واقع أبنية المدينة، يستخدمه بانفعالية حرة يفرضها واقعه النفسي، ليفرغ شحنته الحسية، ومبالغته في التجسيد

  إغراءات اللون في بيئة الراوي، ألوان خافتة تشعّ من ينابيع النهر، تتدفق من أعماق الظلال الشفافة في توافقات نغمية مع الانحناءات اللينة التي تفصل بين النور والعتمة، في جدران، القباب، وأقواس المنازل، وتكويرات الخطوط، أو من التدرجات اللونية لمئذنة جامع، أو أشجار نخيل تغمر الضفاف فتحيلها إلى ما يشبه سراب الصيف القائظ

        الراوي حين يعلن تشبثه بالفرات، لم يستطع تحرير تلك العاطفة الا بالرسم، وهكذا كانت رحلته الطويلة خلال أقاليمه، وجه الفرات، هو الذي يطالعنا دائماً في أعماله، مثل بكائية حزينة لا تنقطع... 

     كفاها المدينة إن توسدت الطلول، وداعاً وانت تبتعدين عنا متشبثة بالصخر والتراب والجذور، لائذاً من طوفان وشيك سينالك يوماً، وداعاً وانت تفزعين الى البراري، 

       أزِفَتْ نهايتك، فخذها يا تراب، عدها إليك، أنخ تلولك عليها مرة أخرى، ابتلعها، اجهز على هذي الغريقة في خضمك يا ماء.

 

 

 

تقييم النص

يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا

التعليقات

جمعة عبدالله

05-12-2021 12:04

الاديب القدير الاستاذ جمال العتابي

براعة في التوثيق التاريخي والادبي والفني  , للادباء والفنانين المبدعين , الذين تركوا بصماتهم الابداعية واحتلوا مكاناً مرموقاً في الوسط الثقافي والادبي في عطاءهم الابداعي الثر . وروعة الوفاء بتذكرهم بهذا التوثيق المعطر , وهو يدل بأن عطاءهم الابداعي المرموق لم يذهب هدراً , هذه اهمية التناول والطرح في هذا التوثيق المشوق لواحد من هؤلاء الفنانين البارزين  في الرسم التشكيلي الراحل  ( نوري الراوي ) في هذا الطرح السلس والمشوق . اتمنى ان يجمع هذا التوثيق في كتاب للنشر ليطلع عليه اكثر من القراء والباحثين والدارسين , وهذا جزء من الوفاء لهؤلاء الذي تركوا بصماتهم الابداعية بشكل مرموق ورحلوا الى جنة الخلد , رحم الله الفقيد الراحل ( نوري الراوي ) برحمته الواسعة .

تحياتي ايها الصديق الاعز ودمت بخير وعافية بعون الله تعالى

زائر

05-12-2021 12:08

جمال العتابي

05-12-2021 12:08

شكرا للصديق العزيز جمعة لهذه القراءة المركزة العميقة

اود التنويه ان التعريف بي ك( شاعر) ليس صحيحا

الاصح : ناقد أدبي وتشكيلي

التعليقات

إدراج الإقتباسات...