إعاقة نجومية تغذت غرورا
الحسين بوخرطة
في بداية الألفية الثالثة، برز نجم الأكاديمي اليسع في بلاد اليمن. ولد ببلدة صعدة، وتابع دراسته الابتدائية والثانوية في مسقط رأسه. أبوه كان فقيها، وعلامة في علم مقاصد الشريعة. أمه كانت معلمة في مجال محو الأمية، لدى جمعية وطنية في نفس البلدة. انتقل مع أسرته إلى صنعاء، وتابع تعليمه الجامعي إلى أن حصل على شهادة الدكتوراه في الاقتصاد. متأثرا منذ نعومة أظافره بمسيرة أبيه في القراءة والكتابة والإفتاء، ارتبطت متعة نفسيته بالكتب، التي تحولت بالنسبة له إلى فضاء مسرات ومغامرات وحوارات مع شخوص وكتاب، يبحر فيه بحماس شديد لساعات طوال كل يوم، ويعانق في دروبه المتشعبة قضايا فكرية شائكة، تخص الماضي والحاضر والمستقبل اليمني. كان في نفس الوقت مولعا باللغات، وعبقريا لامعا في ترجمة النصوص من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية، وكان موسوعيا في الفكر والإبداع الأدبي والسياسات الاقتصادية وارتباطاتها التشريعية والتنموية. مفتخرا بتاريخ لغة الضاد، وبأهالي الحيرة والأنبار، كان لا يكل ولا يمل في تكرير دعوته لأهل اليمن بصفة خاصة، والعرب بصفة عامة، في كل المناسبات الرسمية وغير الرسمية، وفي كل المنابر الإعلامية الوطنية والدولية، بالاعتزاز بتاريخهم الذي ارتقى إلى منبع فائر لأقدم لغة مكتوبة كونيا. اللغة المعيارية الأم، بالنسبة له، هي أداة النفاذ إلى المعارف العلمية وتداولها. وبذلك كان يناضل طوال مساره، من أجل ربط علم التربية والتعليم باللسانيات راسما أفق بناء نسق تعليمي يضمن تواؤم تأهل الأساتذة والمكونين مع الأهداف اللسانية النافعة للأمم العربية.
بعدما تعين أستاذا أكاديميا مرموقا بجامعة الملكة أروى بصنعاء، كان شديد الاهتمام باكتشاف المواهب في صفوف طلبته. أطر العديد منهم، وساهم في خلق نخب إدارية وأدبية وفكرية وسياسية كثيرة العدد. أفضاله على أجيال الطلبة الذين تتلمذوا على يديه داخل الجامعة وخارجها حولته إلى زعيم أكاديمي في التأطير والتكوين واكتشاف الزعامات المستقبلية.
في سنته الأولى، انشغل كثيرا بحالة طالب استثنائي اسمه صهيب. كان شابا وسيما، طويل القامة، وباشق الهمة. تتسع النباهة والذكاء من عينيه اللامعتين كحبات اللؤلؤ والمرجان. عرف لدى زملائه الطلبة بالمبالغة في طموحاته إلى درجة كان يثير الإحراج في جلساته، وبعناده إلى درجة الإضرار بنفسه. تعرض غير ما مرة للهمز واللمز والسخرية. كان يتمادى كل مرة، وبحرارة، في الغوص في مناقشة قضايا ومواضيع تفوق مستواه وذخيرته المعرفية واللغوية، موهما نفسه كونه صاخة لا يمكن كشفها.
أعجب اليسع بهذا الفضول الجريء، وقرر مع نفسه احتضان هذا الطالب خوفا عليه من التيه والضياع. لم تكن نظرات رفاقه إليه، وهو يناقش أو يتدخل، محط اطمئنان. لقد اقتنع أنه طاقة مشتتة ومبعثرة، لا تفي بشروط تحقيق الإضاءة والتنوير الكافيين. رؤى فيه خصال يمكن أن تحوله إلى أنجب الطلاب. إنها طاقة تحتاج إلى إعادة التركيب والترتيب بخبرة وتدرج محسوب، بالشكل الذي يمكنها مع مرور الأيام من مراكمة مقومات خلق الوهج والشعور بالمنفعة في النفوس. قربه العلامة إليه بمنهجية تربوية وتكوينية مدروسة ومضبوطة معرفيا. أحس صهيب بالدفء والحكمة والتروي في الرؤى والتحليل والتقييم والتعقيب. أمام بسمة أستاذه العذبة المنسابة على مقلتيه التي لا تفارقهما، وجاذبية عباراته الإبداعية، لم يجد صهيب منفذا للهروب من محاسبة الذات. فعلا، اقترابه من أستاذه جعله يفطن بوقع هفواته واندفاعاته غير محسوبة العواقب على مستقبله. اقتنع أن التفكير العميق يحتاج إلى تراكمات متوازية في الخبرة المعرفية واللغوية، ولا سبيل أمامه إلا الإصرار على اكتساب المهارة اللغوية، وترسيخها في ذاكرته الطويلة الأمد. اقترب إلى أستاذه أكثر، وتأهب بكل عزم وقوة لإثراء مستواه، اقتداء بكبار الفكر والمعرفة ورواد الإبداع الأدبي والفني.
اتخذ قرار تنظيم ندوة علمية، وشجعه اليسع على ذلك، وساعده على تحديد الموضوع بدقة متناهية (الإشكالية، والفرضيات، والمحفزات، والمنهجية). فرغما عن انشغالاته العديدة والمتنوعة، استل الأستاذ سويعات من أجندته المكتظة بالمواعيد والأشغال الأكاديمية، وخصصها لدعم طالبه. بعدما أمطره بأفكاره النيرة، عزم كل العزم على لفه بالشجاعة الكافية، والزج به إراديا في فضاء المعارف بسعة نظر إلى الأفق، وبحس إنساني وثوقي مرهف، وتمكينه، برحابة وراحة بال، من معانقة دوائر الفأل وعالم المعارف الأوسع.
بعد أسبوع من الإعداد المنهجي المتقون لهذه التظاهرة، كان صهيب يجلس إلى جانب أستاذه صامتا لا ينبس بحرف، مركزا بكل ما لديه من قوة ليمتاح من أفضال خبرته ورصيده الفكري والمعرفي الموسوعي. أحاط بالموضوع من كل النواحي بما في ذلك تقنيات التواصل والتقديم وتدبير التظاهرات.
وهو في طريق العودة إلى منزله، انتابه تفكير رديد، زج به خارج الأعراف والأدبيات الأكاديمية، لتنتابه أفكار غريبة مشوبة بنفحات الاستغلال والانتهازية. لقد سكنه الغرور، وأسهب في الكلام يخاطب نفسه مشرئبا أفق تحقيق النجومية في اليوم المعلوم، وتجاوز الحاضرين سطوعا وبريقا، بما في ذلك أستاذه العلامة. جمع كل المراجع المتعلقة بالموضوع، وأبحر باحثا عن المعلومة في كل المواقع الإلكترونية ذات الصلة، واعتكف بغرفته لمدة ثلاثة أيام في تحضير الجدادات المحورية والإلمام بمحتواها، منقادا وراء تحقيق الهاجس الذي سيطر عليه بأنفة لم يعتدها في نفسه، حالما تحقيق امتقاع حديث المدعوين أمام تدخلاته، واغتنام فرصة هذا اللقاء الأكاديمي لاجتثاث الاعتراف بقدراته.
أما الأستاذ العلامة، بعدما قدم لطالبه كل مقومات النجاعة في تدبير التظاهرة، ومكنه من زخم كاف من المعارف المتعلقة بالموضوع، انشغل بالتفكير العميق في نفس الحقل المعرفي للندوة هادفا الوصول إلى نظرية جديدة تغذي البحث العلمي في نفس الإشكالية المطروحة، نظرية تضاف إلى سجل الأبحاث الرائدة التي تم إنجازها من قبل. هكذا، بعدما استحضر كل ما كتبه السابقون في هذا المجال بالقراءة والتحليل (أبحاث، أطروحات، كتب ومنشورات، مقالات إعلامية، تقارير، ريبورتاجات...)، انعكف بدوره ولزم منزله لتحقيق مراده.
استقبلت اللجنة التنظيمية المدعوين، افتتحت الندوة، قرأت الأرضية، واحتد النقاش، وسطع نجم صهيب لأول مرة. صاخت له الأسماع بإمعان، واندهش الكل بأدائه وأفكاره الجديدة وحسن تسييره. تابع العلامة مجريات التدخلات والنقاش باهتمام شديد. واللقاء على وشك النهاية، أخذ العلامة الكلمة (آخر متدخل). بصوته الرخيم، وترنم كلماته بلحن المعاني الثاقبة، عرض في البداية لوحة فنية لصعود نجم صهيب وزخرفها بعبارات جميلة، ثم استرسل في سلك مراحل تحليلية بكلمات مداعبة لوجدان المتتبعين. امتلأت أنفاسهم زهوا وفضولا، وتسرب إليها ذهول واحساس لذيذ جراء تذوقهم عباراته وبراهينه المدوية. دأب في تقديم مداخلته على الالتفات يمينا ويسارا، ملوحا بفنية قصوى بيديه الطريتين البضتين. قابلوه بابتسامة إعجاب مغتبطين بحضورهم، وأحسوا وكأن الندوة قد ابتدأت لتوه. لقد أقل الجميع إلى فضاء معرفي جديد. وهو يستشهد بعبارة الختم الثقيلة مذكرا بلائحة بيانات نظريته الجديدة المقنعة، اشتدت التصفيقات بحرارة ودامت لدقائق معدودات. لقد فتح بذلك آفاقا واعدة للبحث العلمي المتواصل.
تأوه صهيب مستاء من نفسه، وحاول أن يتذرى وراء تصفيقاته. طافت أمام عينيه العواقب متحصرا على عدم تحريه الصبر والصدق والوفاء والحقيقة. لوى عنقه بعنف وصوب عينيه في وجه مقرر الجلسة متعتعا في كلامه ليفضي له بشجاعة وصدق وإسهاب : "هكذا يكون الأستاذ، علامة في كدح متواصل، ملم بكل ما دون في مجال تخصصه، ومهووس بالتنظير، لتتوالى النظريات الواحدة تلو الأخرى في عالم العلم والمعرفة". انتفض قلبه لوما، وغلى دمه ندما، فلفته الخشية والحيرة مقدرا قبل فوات الأوان خطورة سلوكه. همس لهواجسه : " لقد شكل اليسع فعلا نموذج عالم يجسد فكرة "الأستاذ يبقى أستاذا، والتلميذ تلميذا، والطمع في قتل الكفيل المحتضن طمعا في تجاوزه هراء". اغرورقت عيناه دموعا، ليواجه نفسه هامسا بصوت الأجش الصارم المتهدج: "طبيعة كدح العلامة ليست هي طبيعة كدحي". وهو يستعد النهوض من كرسي منضته، صاح في الحاضرين مرحا وجذلانا: "التصفيق الحار مجددا .. التصفيق ...".
يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا
لا يوجد تعليقات بعد ! كن أول المعلقين !
لا يوجد اقتباسات